تلك إذن إحدى النقاط التي قد تثير القلق في نفس من أراد وهو مصري مسلم أن يظل فخورا بإسلامه في تاريخه القديم، فهل يكفي لزوال ذلك القلق أن نقول إن الآيات الكريمة إنما تعني فرعونا واحدا، هو فرعون موسى، (وأظن أنه هو رمسيس الثاني) جاءه موسى - عليه السلام - بآيات الله فأبى وظلم،
وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ،
قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ،
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ،
وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ،
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا ،
فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون ، أقول: هل يزيل القلق من نفوسنا أن تكون آيات الكتاب الكريم، التي ورد فيها ذكر فرعون، إنما قصدت إلى فرعون واحد، وأن سيئات هذا الفرعون الواحد، في مناصبته العداء لبني إسرائيل وللرسالة الموسوية، لا تمحو حسنات الفراعين وما أقاموه من ركائز الحضارة الإنسانية ودعائمها، على مدى أربعة آلاف عام؟ اللهم نعم، وبهذا أقنعت نفسي، وحللت هذه المشكلة وأزحتها من الطريق.
لكن المشكلة الأعوص، هي ذلك التداخل المربك بين «العروبة» من جهة و«الإسلام» من جهة أخرى، فواقع الأمر هو أن هذين المفهومين لا يتطابقان أحدهما مع الآخر تطابقا كاملا، بل هما متداخلان، بمعنى أن العروبة والإسلام يتلاقيان معا في العرب المسلمين، وليس العرب المسلمون هم كل المسلمين، ولا هم كل العرب، فمن العرب من هم غير مسلمين، ومن المسلمين من هم غير عرب، وبعبارة أوضح نقول: إن هناك ثلاث فئات: فهنالك فئة العرب المسلمين، وهنالك ثانيا فئة المسلمين الذين ليسوا عربا، كأبناء تركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا وغيرهم، وهنالك ثالثا فئة العرب من غير المسلمين، معظمهم يدين بالمسيحية، كما في لبنان ومصر وغيرهما، فإذا قال المصري - مثلا - إنني أنتمي إلى العروبة وإلى الإسلام معا، وجب أن يكون مفهوما أن الانتماء هنا له معنيان، وليس معناه في الحالة الأولى مطابقا لمعناه في الحالة الثانية، فالمصري عربي بمعنى أنه يتجانس مع سائر العرب في نمط ثقافي واحد متعدد الجوانب والفروع، وأما المصري المسلم فهو ينتمي إلى الأمة الإسلامية بجانب واحد، هو جانب العقيدة الدينية، وليس من الضروري بعد ذلك أن تكون بقية جوانب الحياة الثقافية مشتركة بين المصري والباكستاني أو الإندونيسي أو غيرهما من المسلمين غير العرب.
إن درجات الانتماء لا تتدرج درجة درجة من درجات «الأهمية»، بل قد يكون أشد ما أنتمي إليه التصاقا ليس هو أهم جانب من جوانب حياتي، فربما كانت عقيدتي الإسلامية - من حيث الأهمية - أهم جوانب حياتي، لكن انتمائي لأسرتي، ولقريتي، ولوطني، وللعروبة، وللإنسانية جمعاء، يجيء فيه ترتيب الدرجات على أساس آخر غير «الأهمية»، وقد يكون هذا الأساس هو المشاركة الوجدانية، فهذه المشاركة الوجدانية بيني وبين أفراد أسرتي أقوى - بالطبع - من المشاركة الوجدانية التي بيني وبين مسلم في الصين أو روسيا، دون أن يغير هذا الموقف الوجداني من حقيقة كون إسلامي أهم جانب من جوانب حياتي.
فالمعاني كما ترى متداخل بعضها في بعض، ومن هنا كانت صعوبة التفرقة بينها، لكنها صعوبة يجب أن تذلل، ليصبح تفكيرنا محددا وواضحا من حيث الانتماء، فنحن - من حيث الانتماء - مصريون قبل أن نكون جزءا من الوطن العربي، ثم نحن عرب قبل أن نكون جزءا من الأمة الإسلامية، وأكرر القول مرة أخرى، حتى لا يسوء الفهم، فأقول إن درجات الانتماء هذه شيء، و«أهمية» الإسلام للمسلم شيء آخر، ولماذا يكون انتمائي للعروبة سابقا على انتمائي للأمة الإسلامية؟ الجواب هو أن بيني وبين العرب نمطا ثقافيا كاملا بكل جوانبه، في حين أن ما بيني وبين سائر الأمة الإسلامية هو جانب واحد من تلك الجوانب المكونة للنمط الثقافي، ألا وهو جانب العقيدة الدينية.
Página desconocida