وأسوق لك بضعة أسئلة من «هوامل» أبي حيان، نقلتها كما اتفق لترى كم تنوعت اتساعا وارتفاعا، فتجد فيها ما هو مسألة عويصة في التفكير الفلسفي أو اللغوي أو العلمي بصفة عامة، كما تجد فيها أسئلة عن مشاهدات استوقفت أبا حيان من ظواهر الطبيعة أو من صور الحياة الجارية.
كان السؤال الأول عن الفرق في اللغة بين «العجلة» و«السرعة»، وكان السؤال الثاني عن مسألة نفسية خلقية معا، فهو يسأل لماذا حرص الناس على كتمان السر؟ أخذت أقلب النظر في الصفحات فرأيت سؤالا عن الرعد والبرق، لماذا نرى البرق قبل أن نسمع صوت الرعد؟ ما الدليل على وجود الملائكة ؟ لم صارت مياه البحر ملحا؟ لم صارت الأنفس ثلاثا؟ ما العدم؟ ما سبب من يدعي العلم وهو يعلم بأنه لا علم عنده؟ سؤال عن ذات الله وصفاته. لماذا تكره النفس الاستماع إلى حديث معاد؟ سؤال عن النثر والنظم. لم يضيق الإنسان بالراحة إذا توالت عليه؟ وهكذا.
وأما أجوبة مسكويه فنكتفي بذكر أجزاء من إجابته على سؤال طريف، يسأل فيه أبو حيان عن العلة في أن البيت المهجور يتداعى أسرع من البيت المعمور بساكنيه، مع أن العكس كان أولى؟
قال مسكويه: «إن معظم آفات البنيان، يكون من تشعيث الأمطار، وانسداد مجاري المياه، بما تحصله الرياح في وجه المآزيب ومسالك المياه التي ترد المياه إلى أصول الحيطان من خارج البناء وداخله، وبما ينثلم من وجوه البنيان الكريمة، بالآفات التي تعرضها لحركات الهواء والأمطار والبرد والثلوج. وربما كان سبب ذلك قصبة أو هشيما من بين الطين الذي تطيره الأرواح (= الرياح) إلى مسالك الماء، فتعطف الماء إلى غير جهته، فيكون به خراب البنيان كله.
فأما ظهور الهوام في أصول الحيطان، والعناكب في سقوفه وأخذها من الجميع ما يتبين أثره على الأيام فشيء ظاهر، وذلك أن هذا الضرب من الخراب قبيح الأثر جدا، ينبو الطرف عنه، ويسمج به البناء الشريف، وربما أغفل السكان بيتا من عرض البناء، إما بقصد أو بغير قصد، فإذا فتح عنه، يوجد فيه من آثار الدبيب: من الفأر، والحيات، وضروب الحشرات، التي تتخذ لها أكنة، بالثقب والبناء، كالأرضة والنمل، وما تجمعه من أقواتها، ومن نسج العنكبوت وتراكم الغبرة على النقوش ما يمنع من دخوله ... إلخ.»
أما الصورة الثانية التي أردت تقديمها، فهي ليست كالصورة السابقة: الأسئلة كلها تجيء من طرف، والأجوبة كلها تجيء من الطرف الآخر، وكان الحوار يجري مكتوبا على الورق، لا بل لم يكن في الحقيقة حوار، وإنما كان استجوابا من أبي حيان إلى مسكويه، جمعت الأسئلة كلها في كتاب هو «الهوامل»، وجاءت الأجوبة كلها في كتاب هو «الشوامل» دون أن يلتقي السائل بالمجيب. وأما الصورة الأخرى التي أردت تقديمها فهي مناظرة بين رجلين، كلاهما فذ في ميدانه، أمام جمهور من علية القوم في بغداد إبان القرن الرابع الهجري وأعلى رجال الفكر والفلسفة واللغة فيه، وفرق آخر بين الصوتين: فالأولى التي أسلفناها، كان قوامها شتيتا من موضوعات كلها مسائل عرضت لرجل واحد، هو أبو حيان التوحيدي، وأما الصورة الثانية التي أنتقل الآن إلى عرضها فمناظرة حول موضوع واحد.
قامت المناظرة بين أبي سعيد السيرافي من جهة وأبي بشر متى بن يونس، من جهة أخرى. وأما الموضوع فهو عن المنطق اليوناني الذي برع فيه أبو بشر متى، فهل يصلح ذلك المنطق، الذي أقيم أساسا على طرائق البناء اللغوي عند اليونان، أقول هل يصلح ذلك المنطق إذا ما نقل إلى قوم آخرين - ثقافة أخرى - ولغة أخرى، هي في هذه الحالة اللغة العربية؟ أو أن ما يصلح للغة العربية من ضوابط، إنما هو النحو العربي لا المنطق اليوناني؟ إنه موضوع - كما ترى - قد لا يثير اهتماما إلا عند الفئة القليلة المشتغلة بالفلسفة وعلوم اللغة، لكني برغم ذلك أردت عرضه موجزا لسببين: أولهما أن الذي دعا إلى إقامة هذه المناظرة، هو الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات، وجعلها تقام في قصره ببغداد، ودعا إليها أصحاب المكانة في دوائر الحكم وفي دوائر العلم جميعا، وإني لأسأل كم وزيرا في عصرنا هذا يضيف إلى حبه للسلطة والحكم حبا آخر لمثل هذه المسائل العلمية الدقيقة العميقة الجادة؟ وإنما أسأل هذا السؤال لألفت الأنظار إلى اتجاه «الاهتمام» ودلالته؟ فإذا رأيت الوزير في عصر ما حريصا على أن يضع نفسه في قلب الحركة الثقافية عرفت أن الدنيا بخير، وأما إذا رأيت الوزير في عصر آخر مستعليا على العلم والعلماء، والثقافة والمثقفين، أيقنت أن الدنيا صائرة بأصحابها إلى دمار وموت.
تلك إحدى اثنتين، مما جعلني أقدم صورة مصغرة لما جرى في تلك المناظرة - كما أراه - نموذج نادر لصور التصادم بين ثقافتين: أصيلة ووافدة، فقد نقل العرب فلسفة اليونان يومئذ، ومنها علم المنطق كما صاغه أرسطو اليوناني، وكان لتلك الفلسفة المنقولة أثر عميق في الفكر العربي، بل وفي الشعر العربي ذاته، لكن القلق أخذ يساور نفرا من علماء العرب، خشية منهم أن يكون ذلك «الغزو الثقافي» (بلغة يومنا) موديا بثقافة العرب إلى الضعف ثم الفناء، إن ذلك النفر لم ينظر إلى نقل الثقافة اليونانية إلى العربية على أنه عامل قوة، بل رآه عامل تدمير، على نحو ما يرى بعضنا اليوم بالنسبة لما ننقله من ثقافة الغرب وفكره وفنه، لكن بينما نحن اليوم نهاجم الناقلين بالتكفير والخيانة، ها نحن أولاء نرى أسلافنا يلجئون إلى «مناظرات» علمية تقام في قصور الأمراء والوزراء ليكون القبول أو الرفض قائما على معرفة لا على الشتم والتشهير والعدوان.
وبعد ذلك فلننظر إلى لب المشكلة بإيجاز، كلنا يعلم أن «النحو» هو مجموعة القواعد التي تضبط سلامة التركيب اللغوي، وشكل المفردات الداخلة في ذلك التركيب، فإذا كنا نريد جملة تشير إلى ورقة بيضاء، وقلنا هذه ورقة بيضاء، كان ترتيب المفردات هنا متفقا مع قواعد النحو في وضع الصفة والموصوف، ويخرج على القواعد من يقول هذه بيضاء ورقة، وكذلك تقتضي قواعد النحو - عند النطق بهذه الجملة - أن تكون كلمة «ورقة» مرفوعة بالضم، وأما المنطق فكل من درسه منا يعلم أنه يستهدف الاستدلال الصحيح - إذا ما أردنا استخراج جملة من جملة - أو معنى من معنى، وهو يمهد لعمليات الاستدلال الصحيحة بدراسات لضبط القضايا (أو الجمل ذوات المعنى) والحدود التي تتركب منها تلك القضايا.
وكان العرب قبل أن ينقلوا إلى لغتهم فلسفة اليونان - وتتضمن المنطق - يعرفون لغتهم ونحوها، ويعرفون كيف يستدلون استدلالات صحيحة، دون أن يقوموا بتنظير القواعد التي يضبط بها استدلال نتيجة من مقدماتها (وهذا هو عمل المنطق). فلما درس الدارسون منطق اليونان وأخذوا يعلمونه لمن أراد أن يتعلم، وكان من بين هؤلاء الفيلسوف أبو نصر الفارابي، ومنهم صاحبنا أبو بشر متى بن يونس، الذي لم يكف في دروسه لتلاميذه عن قوله: «النحو مع اللفظ، لا مع المعنى.» فكان مثل هذا القول يثير الغيظ في علماء اللغة والنحو، ومن هنا تصدى له اللغوي النحوي أبو سعيد السيرافي، الذي كان بدوره يهاجم أبا بشر متى بن يونس، متهما إياه بأنه لا يحق له الكلام في موضوع النحو العربي أو المنطق اليوناني؛ لأن أولهما قائم على معرفة اللغة العربية، وثانيهما قائم على معرفة اللغة اليونانية، وأبو بشر جاهل باللغتين جميعا.
Página desconocida