2
وأول ما يرد إلى الخاطر عند الحديث عن الفكر العربي وخصائصه هو طبيعة المكان الذي يحيا فيه العربي، والذي يمارس العربي فاعليته ونشاطه بين جنباته، وذلك المكان هو الصحراء الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، تتخللها واحات خضراء، تصغر حينا، وتكبر حينا آخر لتكون هي الأنهار ووديانها؛ فإذا عرفنا طبيعة ذلك الموطن الصحراوي الذي هو مسرح الحياة والنشاط للأمة العربية جمعاء، استطعنا أن نضع أصابعها على المعالم البارزة التي لا بد أن تكون هناك، مميزة للفكر العربي؛ وذلك لأن فاعلية العقل لا تتحرك في فراغ، بل إنها محصلة التفاعل بين المكان وساكنيه.
وحسبنا في هذا المقام جانبان من طبيعة الصحراء في تفاعلها مع الإنسان، وهما جانبان استخلصتهما ذات يوم، عندما كنت أقرأ وصفا لرحلة قام بها رحالة أوروبي عبر الصحراء، فكان مما قاله أنه صادف في طريقه كومة كبيرة من علب الصفيح، كانت في الأصل علبا حفظ بها الطعام لجيش أوروبي في معارك قتاله، وكان ذلك منذ عدة أعوام قبل اليوم الذي شهدها فيه الرحالة، وهو يقول إن الذي استوقف نظره منها أنها كانت تلمع تحت أشعة الشمس، وليس على صفيحها شائبة من صدأ كأنها خرجت من مصانعها لتوها. وأما النقطة الثانية التي وقفت عندها حين قرأت وصف الرحالة لرحلته الصحراوية، فهي أنه لم يكن في مستطاعه إذا ما أرسل بصره إلى الأفق البعيد، أن يميز بين المرئيات أيها أقرب إليه من أيها، أي إن الامتداد الصحراوي من شأنه أن يمحو المسافة الفاصلة بين شيء وشيء كالذي تراه العين عندما تنظر إلى نجوم السماء، فلا يكون في وسعها - بغير استعانة بأجهزة العلم - أن تعرف بين نجمين أيهما أقرب إليها من الآخر.
وقفت عند هاتين الخاصتين من خواص الصحراء بالنسبة لساكنيها، فلم يكن عسيرا أن أستدل منهما نتيجتين تظهران في تشكيل الفكر على مدى الزمن، عند أولئك السكان، أما النتيجة الأولى فهي صفة الثبات والدوام، وأما النتيجة الثانية فهي صفة الإطلاق الذي يتخلص من التغيرات النسبية في الأشياء، وبعبارة أخرى أقول إن ساكن الصحراء لا بد له أن يخرج من خبرته في تفاعله مع بيئته بميل يميل به نحو ما هو دائم وثابت، لا يتغير بتغير الأحداث الطارئة من لحظة في مجرى الزمن إلى اللحظة التي تليها؛ كما لا بد له كذلك أن يخرج من خبرة حياته، بميل يميل به نحو مجاوزة الأحداث النسبية العرضية إلى ما هو وراءها من وجود مطلق، لا فرق فيه بين بعيد وقريب؛ ومن هاتين النتيجتين نقول عن الفكر العربي إنه نزاع نحو الفكرة الثابتة وراء المتغيرات، ونحو المبدأ المطلق الذي منه تنبثق الكثرة النسبية في القواعد والتفصيلات؛ وعلى هاتين الخاصتين من الفكر العربي سنقيم رؤيتنا إلى واقع الفكر العربي، كما وقع بالفعل إبان تاريخه، لنرى في وضوح كيف تمثلت تانك الخاصتان في تشكيل الرؤية العربية.
ولعل الشاعر العربي القديم قد أجاد التعبير عن رغبة العربي العميقة مجاوزة العوابر الزوائل، التماسا لما هو ثابت وصامد وأبدي وخالد، حين قال:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
3
وتذكرنا هذه الوقفة العربية من التغير والثبات بوقفة اليونان الأقدمين، فهم كذلك قد بدءوا تاريخهم الفلسفي بهذه القضية الفكرية ذاتها وهي البحث وراء الظواهر المتغيرة عن الجوهر الثابت الذي لا يتغير، والذي يتجلى في تلك الظواهر المتغيرة، لكن بين العربي واليوناني فرقا شاسعا من ذلك البحث عن الثبات والدوام وراء ما هو ظاهر وعابر؛ وذلك أنه بينما اليوناني كان يجعل ذلك الثبات في مبدأ عقلي يفرضه هو لنفسه، ليفسر على مقتضاه كل ما تشاهده حواسه من متغيرات، كان الثبات والدوام عند العربي، هو الله - سبحانه وتعالى - الأحد الصمد الحي القيوم.
ومن هذا الاختلاف في نقطة البدء بين العربي واليوناني في الموقف الفكري لكل منهما، فبينما اليوناني - ومن بعده الفكر الغربي كله - يتصور العلاقة بين المبدأ الأول والمفردات التي تندرج تحته، على غرار ما يتصور النموذج الذي يضعه الصانع ليخرج مصنوعاته على غرارها، وبالتالي تكون درجة الكمال في كل فرد وفي كل كائن مفرد، متوقفة على الدرجة التي يقترب بها ذلك الفرد أو ذلك الكائن المفرد من النموذج الذي كان ماثلا أمام الصانع، أقول إنه بينما كانت هذه هي الصورة التي تصور بها الفكر اليوناني العلاقة بين المبدأ الأول ومفرداته، كان التصور عند العربي على خلاف ذلك؛ إذ جاء تصوره هذا من حقيقة كون الله سبحانه وتعالى خالقا، وسائر الكائنات مخلوقات له، ولقد ترتب على هذا الاختلاف أن جاز للفلاسفة في الغرب أن يغيروا ويبدلوا من المبادئ الأولى التي يفترضونها أسسا تتولد عنها النتائج، في حين أن العربي ثابت على تصوره؛ لأنه حقيقة أوحي بها إليه، وليست اختيارا من حقه أن يغير فيه، لكنه إلى جانب هذا الاختلاف الجوهري بين الوقفتين كان هنالك بينهما من التشابه ما لا يمكن إهماله، لأهمية ما ترتب عليه في التاريخ الفكري عند العرب والمسلمين، وهو أن الإطار العام الذي يجعل الحقيقة العامة تأتي أولا، وتأتي بعدها مفردات الكائنات، هو إطار مشترك بين الجماعتين، ومن هنا سهل على العقل العربي أيام الخليفة المأمون أن يترجموا إلى العربية أهم جوانب الفلسفة اليونانية، وأن يتقبلوها، وأن يجروها في شرايين الثقافة العربية بعد ذلك، وحسبنا أن نحلل الناتج الفكري عند عباقرة الفكر العربي كالجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وأبي العلاء المعري، لنرى كم جاء ذلك الناتج الفكري الجديد وليدا للعبقرية والعربية مطعمة بغذاء من الفلسفة اليونانية بعد ترجمتها إلى اللغة العربية؛ ولو كان هناك تنافر في الإطار الفكري بين الفريقين لما تقبل الذهن العربي تلك المادة الفكرية المنقولة إليه، كما لم تتقبلها ثقافات قديمة أخرى، كالهندية والصينية مثلا، ولعل الشاعر الإنجليزي ردياردكبلنج، حين قال عبارته المشهورة: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا.» كانت الهند ماثلة له أمام ذهنه، بحكم حياته فيها؛ أما الشرق العربي فقد كان في كيانه العقلي ما يجعله قادرا على تمثل الثقافة الغربية عندما نقلها هو بنفسه إلى نفسه من القرن الثالث الهجري.
Página desconocida