المرحلة الأولى عن تعليم المرأة وعملها: (أ)
من حق كل مواطن بحكم الدستور أن يتعلم إلى آخر حد تمكنه مواهبه (أو مواهبها) أن يصل إليه. (ب)
من شأن التعليم الصحيح، أن يخرج المتعلم معدا لعمل معين على أساس ما تعلمه. «النتيجة»: من حق المواطن (أو المواطنة) أن يحصل على أكبر قدر مستطاع من التعليم، وأن يشارك في دنيا العمل بما تعلمه. (2)
المرحلة الثانية عن المرأة زوجة وأما لأطفال، وها هنا تنشأ المشكلة المحيرة حقا، فكيف توفق المرأة بين واجباتها في العمل، وواجبات الرعاية لأطفالها الصغار، وهذه هي المشكلة التي يحتج بها من يريدون للمرأة أن تنسحب من ميادين العمل التي من أجلها تعلمت لتنحصر في دارها، والرأي عندي هو أن يترك لكل امرأة على حدة حق الاختيار لنفسها في ضوء ظروفها، فإذا اختارت أن تبقى في بيتها لتربية الطفل، كانت حرة في اختيارها، وإذا اختارت ميدان العمل فواجب الدولة أن تيسر لها السبل التي تكفل الرعاية للطفل؛ إذ لا يجوز لنا أن ننسى أن الطفل «مواطن» له على الدولة ما لسائر المواطنين من حق الرعاية، فتنظم دور للحضانة في كل مراكز العمل أو في مواطن السكنى.
الأساس عندي هو - إذن - ذو شعبتين: الأولى أن للمرأة كل الحق في أن تتعلم إلى آخر قطرة تطيقها قدراتها الفطرية، وإذا قلنا إنها «تعلمت» فكأننا قلنا بالتالي إن لها مكانا في دنيا «العمل» بمقدار ما تعلمت وبنوع ما تعلمت؛ لأن التعلم بكل صنوفه ودرجاته، ليس كلاما يلقى به في الهواء على سبيل التسلية وإزجاء الفراغ، بل التعلم في حقيقته تدريب على عمل يؤديه المتعلم، وأما الشعبة الثانية فهي أن المرأة إذا ما تجاذبتها واجبات العمل من ناحية وواجبات أسرتها من ناحية أخرى، فلها هي وحدها حق الاختيار لما تفعله حلا لإشكالها، وذلك في ضوء ظروفها الخاصة، مستعينة بكل ما يجب على الدولة أن تعينها به من تيسيرات.
وليست المأساة التي جعلت الفرق بعيدا بين مرأة هذا الجيل ومرأة الجيل الماضي، هي في أن أحدا يتدخل في شئون حياتها، فيحد من حقها في التعلم وحقها في العمل، أو يحد من حرية اختيارها لميدان نشاطها: أيكون في دنيا العمل العام، أم يكون في أسرتها الخاصة؟ بل المأساة أنها هي التي أخذت ترتاب في جدوى التعلم بالنسبة إليها - والتعلم المهني بصفة خاصة - ثم زادت طينها بلة بأن أخذت تشك كذلك في مشروعية حقوقها الإنسانية من حيث هي مواطنة كأنما يوسوس لها شيطان بأنها إنما خلقت - لا لتكون حرة مسئولة أمام ربها وضميرها - بل لتكون تابعة لهذا، خاضعة لذاك، تتحجب إذا شاء لها سيدها أن تتحجب، وتسفر إذا أمرها مولاها أن تسفر، فأين هي - إذن - من سالفتها في جيلنا السابق، حين أخذت رائدات الحركة النسوية تشق جلاميد الصخر لتفسح للمرأة طريقها إلى ضوء النهار، لكن ماذا نقول؟ فلعلها الموجة الرجعية العاتية التي تغرق حياتنا الفكرية كلها اليوم، هي التي نثرت رذاذها في كل اتجاه حتى أصاب المرأة ما أصابها، فلم تعد تذكر إلا أنها امرأة تتبع، ونسيت أنها كذلك إنسانة ترود.
إن من الأباطيل التي كثيرا جدا ما يزل فيها الإنسان بفكره، كلما كان الحديث حديثا عن الرجل والمرأة في اقتسامهما للحياة، أن تذكر أوجه الاختلاف بين الجنسين ثم ترتب على وجود اختلاف بينهما نتيجة تزعم بأن للرجل الحق في أن يملي، وعلى المرأة واجب أن تطيع مع أن الاختلاف بين شيئين لا يدل بذاته على تفاوت في الدرجة بينهما، فالتفاح والكمثرى مختلفان، لكن اختلافهما وحده لا يدل على أيهما أفضل من الآخر، والأغلب في حالات كهذه أن يكون لكل من الطرفين ظروف بعينها يتفوق فيها على الآخر.
نعم، بين الرجل والمرأة أوجه كثيرة من الاختلاف، لا نستند في ذكرها - لسوء الحظ - على نتائج بحوث علمية إلا في القليل النادر، وأما في أكثرها فإنما نكتفي بالملاحظات العابرة وبالانطباعات الذاتية، التي قد نصيب فيها وقد نخطئ، وربما يفيدنا في موضوعنا هذا أن نذكر أمثلة واضحة لما بين الجنسين من ضروب الاختلاف؛ لأنه قد يتبين لنا أن بعض تلك الاختلافات في صالح المرأة وبعضها في صالح الرجل، وإذا كان الأمر كذلك وجب علينا بعد ذلك ألا نحكم بالتفوق لأحد الجنسين على الآخر حكما مطلقا، بل نقيد حكمنا بما بين أيدينا من شواهد، في كل حالة على حدة، ولعله مما يسهل علينا النظر والمقارنة أن نجمع الفروق الظاهرة بين الجنسين تحت رءوس ثلاثة:
أولها فروق في شخصيات الأفراد من حيث هم أفراد، وثانيها فروق في أساليب التعامل في المجتمع، أي أن ننظر إلى الفرد الواحد، لا من حيث هو كائن قائم برأسه، بل من حيث هو مواطن يتعامل مع آخرين هم سائر المواطنين، وثالثها فرق في موقف كل من الجنسين، لا بالنسبة إليهما في الحياة الفردية، ولا بالنسبة إلى تبادل الأفعال وردود الأفعال في حياة اجتماعية قائمة، بل فيما يجاوز ذلك كله إلى العمل على استمرارية الحياة الإنسانية ذاتها.
وإذا نحن بدأنا المقارنة بين الجنسين من النقطة الثالثة، الخاصة باستمرارية الحياة الإنسانية، وقعنا على اختلاف بينهما قد يكون هو المصدر الرئيسي - أو أحد المصادر الرئيسية - التي منها يتفرع سائر ما قد نراه بين الرجل والمرأة من أوجه التباين، وذلك لأن للمرأة دورا في جانب تلك الاستمرارية لا يقاس إليه دور الرجل، وذلك واضح منذ أن يكون الجيل القادم أجنة في بطون أمهاتهم من بنات هذا الجيل، فمن هذه النقطة الأولية تنبثق أهم خصائص المرأة فردا، وعضوا في مجتمع لأنها نقطة تحتم عليها أن تميل إلى الحياة الآمنة، لتوفر للأبناء مناخا صالحا يتربون في أمنه حتى يبلغوا النضج، ولا كذلك الرجل لأنه بحكم ضرورة أن يهيئ مقومات الحياة لهؤلاء الأبناء قد يضطر إلى المغامرة، بل وإلى القتال، مما ينتهي بالمرأة والرجل إلى مزاجين مختلفين في الأساس: المرأة تبسط جناحيها في هدوء على ما هو موجود ليظل موجودا، والرجل يصفق بجناحيه ليطير. إن استقرار الحياة هو أساسا من صنع المرأة، والثورة على الحياة لتغييرها هي أساسا من صنع الرجل، ومن هنا تولدت فروق فرعية كثيرة في حياة كل منهما، من حيث هما فردان، ومن حيث هما عضوان في حياة اجتماعية، فالمرأة في الحب أصدق وأعقل وأذكى، والرجل في الكفاح أقوى وأشجع وأكثر اندفاعا، وتطول بنا قائمة المقارنات لو استطردنا، لكن ما يهمنا هنا هو أن الفروق بين الرجل والمرأة موجودة غير أنها فروق لا تستلزم بالضرورة أن يتفوق منهما أحد على أحد، وتبقى الحياة العقلية، التي بها يكون التعلم ويكون العمل، مشتركة ومتعادلة بينهما، فيتفوق فيها فرد على فرد، لكن لا يتفوق فيها نوع على نوع، وحتى إذا نحن سلمنا بأن أحدهما يتميز عن الآخر بقدرات معينة، كالذي كثيرا ما يقال عن الرجل من أنه أقدر من المرأة على «الإبداع» في العلم والفن والأدب وغيرها، فإننا لا بد واجدون في النوع الآخر امتيازا في ناحية أخرى تحدث التوازن، فإذا كان الرجل أقدر على إبداع الجديد، فإن المرأة بدورها أقدر على المحافظة التي لولاها لما أمكن للحياة أن تدوم للناس يومين متتاليين، إذا كان اليوم التالي سيجيء ليهدم ما بناه اليوم السابق باسم الإبداع، فالخير هو أن يتقاسم شئون الجماعة عاملان متكاملان، أحدهما يسد نقص الآخر، أحدهما هو عامل التجديد، الذي ما ينفك مسايرا للزمان في جريانه، وأما الآخر فيصون ثبات الهوية الواحدة ودوامها حتى لا تنجرف مع تيار التغير، وذلكما هما الرجل والمرأة، تماما كما يحدث لحياة الفرد الواحد، فهو في كل يوم، في كل ساعة، في كل دقيقة، يستبدل في كيانه العضوي جديدا بقديم، إذ هو يلفظ الهواء الفاسد في شهيقه ويحل محله بالزفير هواء جديدا، وإذ هو يفعل شيئا كهذا حين ترد الأوردة دما فاسدا لتجيء الشرايين بدم جديد، وهكذا في كل مناشط البدن، صحو يهدم ونوم يبني، دون أن يفرط الفرد خلال تلك التغيرات المتلاحقة في هويته، فهو يظل دائما فلانا الفلاني بشخصيته الواحدة.
Página desconocida