مرة أخرى أقول إن شرط «العقل» الذي يشترطه التوحيدي في الحديث الجيد والنافع، معناه أن تجيء الأجزاء مرتبة على نحو يكون فيه الجزء اللاحق قائما على بينات وردت في الأجزاء السابقة، ومثل هذا التسلسل مؤد حتما إلى نتيجة يخرج بها السامع، إما أن يأخذ بها، وإما أن يعترض عليها، بأن يبين للمتكلم أين يقع موضع الخطأ في التسلسل المذكور.
ذلك هو جانب «العقل» في الحديث الجيد، مذاعا لتسمعه الأذن، أو منشورا على الورق لتطالعه العين ، ولا كذلك تكون الحال فيمن يتحدث حديثا يشبع به وجدانه، فها هنا لا يطلب من المتكلم أو الكاتب مثل ذلك الترتيب، بل يكون المطلوب ترتيبا آخر مؤداه أن يتأثر شعور المتلقي بالأثر الذي يراد له أن يتأثر به، ومن هذا القبيل يكون الشعر - مثلا - فلسنا نطالب الشاعر بأن يرتب أفكاره مقدمات تتلوها نتائج، بل نترك له حرية الترتيب الذي يراه كفيلا بإحداث الأثر المطلوب، وغاية ما يجوز اشتراطه في هذه الحالة هو أن يراعي الشاعر - أو الفنان في أي فرع من فروع الفن والأدب - أن تجيء الأجزاء متصلا بعضها ببعض، على نحو ما تتصل أعضاء الكائن الحي، وذلك لكي تتاح الفرصة بأن يتجمع الأثر في بؤرة واحدة، فيبلغ في التأثير أقصى مداه.
لقد استطرد بنا الحديث حتى لأخشى أن نكون قد بعدنا عن قلبه إلى أطرافه، فقلب الموضوع الذي نعرضه هو أن نروج لما هو جديد، مستندين في هذا الترويج إلى قطعة حية من التراث، ومستندين فيه كذلك إلى دلالات اللغة العربية ذاتها، حين جمعت في كلمة «حديث» المعنيين معا: الألفاظ التي نتحدث بها، والجديد الذي لا بد لتلك الألفاظ أن تحمله إلى المتلقي، وإلا فقدت قيمتها، فقد سئل أعرابي: أتمل الحديث؟ فأجاب بذكاء قائلا: إنما يمل العتيق. فكأنما أدرك الأعرابي المسئول ازدواجية المعنى لكلمة «حديث»، فإذا كان السائل قد قصد بسؤاله جانب «الكلام» من معنى كلمة حديث؛ فقد آثر المجيب أن يبرز الجانب الآخر المتروك، وذلك لأهميته وهو جانب «الجدة»، فأجاب بجوابه المذكور، وهو أن الذي يمل إنما هو القديم الذي قتله التكرار.
وإني لأقولها في صراحة، ورزقي على الله، وهو أنني في كثير جدا مما يذاع أو يكتب، في مجال الثقافة والتثقيف، والقيم والتقويم، كأني أشم رائحة العفن، حتى لقد زكمت الأنوف وصدئت النفوس، وحق لنا أن نصيح بالدعوة التي أفصح عنها أبو حيان التوحيدي في حديثه مع الأمير وجلسائه: قال السلف: حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد: أصقلوها، وأجلوا الصدأ عنها.
روحانيون نحن؟ وبأي معنى
شهد الله أني ما كتبت حرفا، أبتغي من ورائه شيئا إلى أن يحمل عني فكرة أريد لها أن تبلغ القارئ، بلوغا يقنعه عقلا، أو يهزه قلبا، وشهد الله أني لم أكتب حرفا لأسعى من ورائه إلى مال أو جاه أو شهرة، فهذه أمور - حتى لو سعيت إليها - فليست وسيلتها أن تنثر لها قطرة من المداد في صحيفة أو كتاب، وإنما يتوسل إليها أصحابها بوسائل أخرى تقترن بكتابة أو لا تقترن على حد سواء، وكل شأني مع الكلمة والقلم، هو أني وجدت أمتي - على تدرج اتساعها مصرية وعربية وإسلامية - أمة ضعيفة بعد قوة، هزيلة بعد عز ومجد وسلطان، متخلفة بعد إمامة وريادة، جاهلة بعد علم ومعرفة، مقعدة بعد قوة وفتوة ومغامرة، تابعة بعد أن كانت في طليعة الدنيا، تحمل اللواء وتشق الطريق لها وللآخرين يجيئون من ورائها تابعين، فسألت نفسي لماذا؟ ثم حملت القلم لأجعل أخوتي في الوطن يشاركونني السؤال، ويحاولون معي أن نجد الجواب.
ونمد أبصارنا إلى ما وراء البحر، فنرى شعوبا أخرى تمسي في نشاط وتصبح في نشاط، لها ساعة الضحى من كل يوم كشف علمي جديد، ولها ساعة الظهر من كل نهار برهان على قوة وجبروت، ثم لها في ساعات الأصيل من كل يوم إبداع جديد، في الفن، في اختراق الآفاق، في الصناعة، في الطب، في كل شيء يخطر لنا في بال أو في الخيال، أو لا يخطر. نعم، نعم، ولهم كذلك في كل ساعة قتل وفتك وعنف وتخريب، يوجهونه إلينا نحن الضعفاء الكسالى والمساكين، أكثر مما يوجهونه إلى أنفسهم.
ونسأل: لماذا؟ ماذا أصابنا؟ فلا نجد إلا الحيرة، أو الصمت الذاهل، ولكن ينطق لك مجيب من تحت الغطاء ليقول لك: هم ماديون، ونحن روحانيون! وهنا يتحول السؤال ليكون: أحقا ما تقولون؟ وبأي معنى يا ترى تكون تلك المادية الملعونة وهذه الروحانية المزعومة؟
كلا، لا تغضب، فهو سؤال جاد لا هزل فيه، ومعذرة إذا وجدتي أسير بك ومعك نحو دقة في التحليل، ربما لم تكن قد ألفتها، لكن الأمر هو أمر حياتنا، كرامتنا، وجودنا، فلا يحتمل أن نمر عليه بلمسات على السطح، نستخدم فيها ألفاظا مبهمة وغامضة، قد لا يكون فيها من القوة إلا تكرارها في أحاديثنا ألف ألف مرة كل دقيقة من نهار أو ليل. فترسخ فينا لتكرارها، فنظنها من حقائق الكون الثابتة، كشروق الشمس مع الصباح، وغروبها مع المساء.
روحانيون نحن؟ وبأي معنى؟ إننا إذا نزعم المعنى لأي لفظ مما نستخدمه في حديث أو كتابة، فلا بد أن نكون على استعداد لبيان ذلك المعنى، إذا سألنا عنه سائل. على أن «المعاني» ليست كلها من نوع واحد، بل هناك منها عدة أنواع، تختلف باختلاف الألفاظ ذوات المعنى، وأهم تلك الأنواع ثلاثة: أولها هو أن يكون معنى اللفظ شيئا مجسدا محسوسا، يمكنك الإشارة إليه، كأن تسألني عن معنى «تمثال نهضة مصر» فأصحبك إلى التمثال المقام على الطريق المؤدي إلى جامعة القاهرة، وأشير إليه قائلا هذا هو معنى «تمثال نهضة مصر»، والنوع الثاني هو معان تكون في أذهاننا تصورات عقلية لا هي مجسدة ولا محسوسة، فإذا سألتني عن معنى «الحرية» ما هو؟ أجبتك بشرح يشرح ما «أتصوره» في ذهني عن الحرية. وبعد ذلك قد نجد ذلك التصور مجسدا في أنماط سلوكية نراها في حياة الناس الفعلية، ويمكن رؤيتها بالعين، وقد لا يكون لها وجود فعلي على الإطلاق، وفي هذه الحالة تكون الحرية بالمعنى الذي أردته لها، مجرد وهم عندي أتخيله، دون أن يكون له تطبيق يجسده في دنيا الواقع، وأما النوع الثالث من ضروب «المعنى» فهو ذلك الذي نجده في الحالات التي يكون فيها الحديث عن كائنات ليس لها وجود في عالم الأشياء وإنما هي من محض الخيال، الذي لا كان ذات يوم أمرا واقعا، ولا هو الآن كائن، ولن يكون أبدا متحققا في كائن من كائنات الواقع الفعلي، مثل «هاملت» في مسرحية شكسبير، ومثل «طائر الرخ» في حكايات ألف ليلة وليلة، وأمثال هذه الأسماء التي ليس لها مسميات في عالم الواقع، كثيرة الورود في الروايات وما يشبهها من مبدعات الخيال، وفي هذه الحالات، أين نجد «معنى» تلك الأسماء؟ الجواب: نجده في السياق الذي وردت فيه، فهذا السياق هو بمثابة العالم الطبيعي الذي نرجع إليه كلما أردنا أن نتثبت عن شيء مما ورد فيه من أسماء وعبارات، فمثلا، إذا سألت قائلا: هل صحيح أن هاملت قتل عمه؟ فأين نجد الإجابة عن سؤالك؟ في المسرحية المعروفة. وهنا أرجو من القارئ أن يركز انتباهه، حتى لا تفلت منه هذه الحقيقة الهامة - الهامة جدا في تكويننا العقلي - وهي أن هنالك أسماء كثيرة وكلمات لا حصر لعددها، ليس لها معنى إلا فيما ورد عنها في الكتب التي هي مذكورة فيها، أي إنها لا تعني شيئا على الإطلاق في دنيا الأشياء والكائنات.
Página desconocida