En la casa de la revelación
في منزل الوحي
Géneros
وفيما نحن سكون نسمع مر بنا طبيب السفينة فحيانا وجلس معنا ودعا الخادم ليجيء بقهوة، وأنبأنا أنا نرسو بالطور ظهر غد، وطمأننا إلى أن الحج نظيف هذا العام، وأنا لن نلقى لذلك بالطور عنتا، ونقلنا الحديث عن الطور من صمتنا إلى الحديث عن مصر وما يجري فيها، وبذلك انتقلنا خطوة جديدة نحو حياتنا الأولى.
وأرسينا بالطور ظهر الأربعاء الثامن من أبريل، فتناولنا طعام الغداء على ظهر السفينة، ثم نزلنا إلى المحجر فذهبت وبعض أصحابي إلى حزاء (10) وجيء إلينا بمتاعنا بعد تبخيره، والحزاء لفظ لا تعرفه اللغة العربية بمعناه المعروف بالمحجر، فهو مكان قبيح محاط بالأسلاك، به مبان غاية في البساطة لمبيت الحجاج، أما الحزاء (10) فحزاء أمير الحج، ولأمير الحج به بيت ينزل فيه حين مرور المحمل بالطور، وهو بهذه المثابة أول مظهر للنظام والتفاوت يشعر به العائد من الحجاز.
وقضينا بالطور ثلاثة أيام، محجوزون في الحزاءات بحكم القانون، وعلينا من الحراس أمثال حراس السجون، مع ذلك كانت أيام نعمة ورخاء، فقد كنا في حاجة إلى استجمام النفس بعد الذي صادفنا في الحج من هزات مختلفة الأطوار، وكنا في حاجة إلى راحة الجسم بعد مشقة السير والركوب في البادية والصعود في الجبال والانحدار عنها، وكنا في حاجة إلى استعادة صورة الحياة في مصر وما تضطرب به من منافع وأهواء حتى لا نعود إليها، وفي النفس نبو ظاهر عنها، وكان بعضهم في حاجة إلى هذه الأيام الثلاثة لينظم فيها مظهره حين عوده إلى بلده ومقابلة الناس فيها بوجه الحاج التقي النقي، ولقد حصلت من استجمام النفس والجسم على ما كنت في حاجة إليه، واتصلت بالحياة المصرية بمن لقيت من معارفي المصريين في المحجر، وما كان يرد لي كل يوم من الصحف به.
فلما آن لنا أن يفرج عنا وأن تقلنا «كوثر» من الطور إلى السويس، تفضل الدكتور هريدي مدير الحجر فدار بي أثناءه وأراني ما فيه من مواطن الماء الصالح، والمستشفيات، وغرف التحليل والمباخر، وما إلى ذلك من آثار العلم، وما يطوع لمصر أن تكون الحاجز الصحي بين الشرق والغرب، ولئن سرني أن يكون للعالم بمصر هذه الثقة، لقد ساءني أن تكون البلاد الإسلامية المقدسة هي سبب الحجر الصحي دون سواها من بلاد العالم، وألا تكون كذلك إلا في أعقاب أشهر الحج، كأنما العالم الإسلامي متهم في نظر الغرب بأنه حين الحج مثابة العدوى بالأمراض القتالة، فأما البلاد الأخرى في أواسط إفريقية وفي غيرها فلا خوف منها، وأما البلاد الإسلامية منفردة كل منها عن الأخرى فلا خوف كذلك منها، وإنما الخوف من هذه البلاد مجتمعة صادقة التوجه إلى الله وفي سبيل الله!
خرجنا من المحجر إلى «كوثر» ظهر السبت الحادي عشر من أبريل، فلما وقع نظري عليها وتخطيت رصيف المرفأ إليها هزني إحساس كذلك الذي يهزنا حين نلقى صديقا، وتركناه والخوف يساورنا على حياته، ثم لقيناه يمرح في صحة وعافية، وجعلت أكرر وأنا في طريقي إلى غرفتي: «حمدا لله على سلامتك يا كوثر!» فلما اطمأننت إلى متاعي عدت إلى ظهرها أنعم بهواء البحر الجميل.
وبلغنا السويس صبح الأحد، وفي الساعة التي انقضت بين وقوف محركات الباخرة وإرسائها على الرصيف تولانا السأم الذي يتولى المسافر دائما في مثل هذه الحال، فلما قربنا من الشاطئ ألفيت قوما من أهلي وألفيت والدي في انتظارنا، ونزلنا من «كوثر» وتخطينا الجمرك وركبنا السيارة، فانطلقت بنا في طريق السويس إلى القاهرة، ها أنا ذا على أرض الوطن، لك الحمد ربي ولك الثناء! وشعرت وقد رأيت أهلي من حولي برضا النفس وطمأنينة القلب إلى أني أديت واجبا وقضيت فرضا وعدت إلى الوطن سالما، ففاض القلب شكرا لله على جميل رعايته وعظيم نعمته، وبلغنا مصر الجديدة فازداد القلب اطمئنانا، وألفت العين كل ما حولها من المناظر، فلما بلغنا الدار ألفيت أهلي وأبنائي وقوفا في انتظاري وكلهم في لباس العيد، وألفيت لدى الباب عجلا ينحره القصاب ساعة دخولنا ليوزع على الفقراء قربانا إلى الله أن غنمنا السلامة.
هذه هي المرة الثانية لتي يلقاني فيها أهلي بمثل هذا الترحاب وهذه الحفاوة حين أوبتي من سفري، أما المرة الأولى فكانت سنة 1911 حين عدت من أوروبا لأول مرة بعد سنتين من مقامي بها طالبا أدرس بجامعة باريس، ولقد سافرت فيما بين ذلك إلى أوروبا وإلى السودان وإلى الشام وإلى تركيا مرات كثيرة، وقضيت في بعض هذه الرحلات زمنا يزيد على ضعف ما قضيته بالحجاز، مع ذلك كنت أعود إلى مصر فيخف أصحابي وأهلي للقائي، لكن في غير ضجة وفي غير قربان، ولا عجب؛ فقد كنت في المرة الأولى في فورة الصبا وبدء الشباب، وكنت قد اغتربت لأول مرة عن وطني، وطالت عنه غربتي، ثم عدت إليه وأهلي في شوق لرؤيتي، فرحون لذلك بمقدمي، وكنت في هذه المرة الثانية قد قضيت لله فرضا، ووقفت بين يديه تائبا منيبا، ضارعا إليه أن يعفو عني، وأن يغفر ذنبي، ولي في الله كبير رجاء، وقد ذهبت إلى بيته المحرم خاشعا خاضعا متجردا من زينة الدنيا مقرا بضعفي وعجزي، أن يقبل توبتي ويعفو عن حوبتي، ويدخلني بفضله في عباده الصالحين، وهم من أجل هذا الرجاء يحتفلون بمقدمي فرحين متهللين، وهل الحياة إلا رجاء أن يعيننا الله على أداء واجبنا في الحياة؟
ولو علم أهلي ما فتح الله به علي حين سرت حيث سار رسوله، وحين وقفت حيث وقف، وما رأيت من آيات الله في مسيري وفي وقوفي، لزادوا بمقدمي تهللا وفرحا، ولقد رأيت حقا من آياته الكبرى، فسمت هذه المواقف بنفسي إلى حيث لم تسم من قبل قط، رأيت نور الله ماثلا في كل دقيق وجليل من خلقه، ورأيت آية الهدى متجلية يشهدها كل من أراد أن يفتح لها قلبه وبصيرته، ورأيت سنته في الكون تتبدى لكل من أخلص إلى الحق وجهه ثابتة لا تبديل لها، رأيت هذا كله رأي العين، وآمنت به إيماني بما يقع عليه حسي وما تلمسه يدي، وأيقنت أن العلم بهذا كله هو الحياة الراضية المرضية، نعم! كذب الظن من يحسبون التكاثر بالمال والجاه والسلطان شيئا في وجودنا، إنما الشيء الذي هو كل شيء في الحياة فذلك إيماننا بالحق عن بينة، وسمونا بهذا الإيمان فوق منافع الحياة جميعا، وازدراؤنا هذه المنافع أن يصيب الحق من جرائها مساس، وهل يعدل كل ما في الكون من مال وجاه وسلطان قبسا من نور الحق وضياء الهدى؟! وهل يبقى على الحياة غير الحق وضيائه؟! والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا.
ربنا لك الحمد على ما أنعمت وتفضلت، ربنا فاهدنا صراطك المستقيم، ربنا ثبت إيماننا، واجعل تقواك رداءنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
خاتمة الكتاب
Página desconocida