En la casa de la revelación
في منزل الوحي
Géneros
على أن ما حدث من ذلك لم يصرف المؤمنين عن إرسال الهدايا من الذهب والفضة من جميع أقطار العالم الإسلامي.
ولما آل الأمر إلى بني عثمان زادت هذه الهدايا نفاسة وقيمة، ويقول البتانوني في «الرحلة الحجازية»:
في مقابلة الوجه الشريف على جدار المقصورة حجر من الماس البرلنتي في حجم بيضة الحمام الصغيرة، يحيط به إطار من الذهب المرصع، ويقدرون ثمنه في ذاته بثمانمائة ألف جنيه، أما في شرف نسبته إلى الحجرة النبوية فقيمته أكبر من أن تقدر بثمن، ويسمونه بالكوكب الدري لشدة تألقه وعظيم سنائه وبهائه، وهو مثبت في لوحة من الذهب، ورصع محيطه بمائتين وسبع وعشرين قطعة من الجواهر الثمينة، وهذا الكوكب أهداه للحجرة الشريفة السلطان أحمد خان الأول ابن السلطان محمد خان من سلاطين آل عثمان في مبادئ القرن الحادي عشر الهجري، وقد علق تحته كف من الذهب المرصع بالجوهر، في وسطه حجر من الماس أصغر من الكوكب الدري، أهداه إليه السلطان مراد الرابع ابن السلطان أحمد الأول في سنة سبع وأربعين وألف للهجرة، وهناك لوح كبير من الذهب المنقوش فيه بخط جميل جدا بحجارة الماس البرلنتي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أهدته إليها صاحبة السمو والعصمة عادلة سلطان بنت السلطان محمود سنة ألف ومائتين وإحدى وتسعين هجرية، وفي هذه الحجرة الشريفة غير هذا كثير من الجواهر الفاخرة التي لا تقدر بثمن، منها قطعة كبيرة على مثال الكردان مكتوب فيها بالماس اسم السيدة فاطمة الزهراء.
وبعد أن ذكر البتانوني ما هنالك من نفائس أخرى كمصاحف مجوهرة وشمعدانات من الذهب الخالص المرصع بالجواهر الكريمة ومكانس من اللؤلؤ، قال: وبالجملة فقد قدر ثمن ما للحجرة الشريفة من الذخائر بسبعة ملايين من الجنيهات.
لم تبق هذه النفائس اليوم بالحجرة، وليس يرجع ذلك إلى ما أخذه الوهابيون منها في غزوتهم الأولى للحجاز في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي، فقد رد محمد علي باشا والى مصر الشيء الكثير مما أخذوا، وبقيت هذه النفائس التي ذكرها البتانوني، والتي رآها في أول العقد الثاني لهذا القرن العشرين، فلما كانت الحرب الكبرى وثار العرب بسلطان آل عثمان نقل الأتراك الكوكب الدري وقطعة الماس التي كانت معلقة تحته وأنفس نفائس الحجرة إلى الآستانة ولم ترد إلى الآن.
كنت واقفا أمام الحجرة يوما وأحد أصحابي يقص علي نبأ هذه النفائس وما سلب منها ويبدي لذلك أسفا ولوعة، وأطرقت مليا أسمع له، فلما أتم حديثه قلت: وهل أغنت هذه النفائس قبر النبي الكريم شيئا؟! نظر إلي الرجل بعينين واسعتين فتحهما وكأنهما ملئتا مما أقول عجبا، ولم يصدني عجبه ولا صدتني نظرته عن الاستطراد في بيان فكرتي فأردفت: «ما كان قبر محمد النبي العربي بحاجة إلى جواهر تضيء جوانبه وهو مضيء بالحقيقة العليا التي جاء بها صاحبه من عند الله هدى للناس ونورا، وليس البهرج الذي يخدع الناس به هو العبرة التي تلتمس في هذه الحجرة، وما سلب من جواهرها ولآلئها إنما سلب يوم أراد الله لدينه أن يعود فيملأ النفوس سموا على كل زينة وبهرج، وإنما العبرة الكبرى التي تملأ النفوس رهبة وجلالا، ويخشع أمامها القلب مهابة وإكبارا، فتلك ما تتحدث هذه الحجرة عنه من سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام، ومن سيرة صاحبيه ووزيريه وخليفتيه؛ أبي بكر وعمر، ومن وقف أمام الحجرة وشغل عن سيرة صاحب الرسالة وبلاغه إياها الناس، وعن سيرة صاحبيه وجهادهما في سبيل الله ليظل لواء الإسلام العالم كله وكان شغله عن ذلك بزخرف البناء وما كان فيها من تحف وجواهر، فقد فاتته العبرة ولم يبلغ من زيارة قبر الرسول ما يجب أن يجعله كل مسلم غايته من هذه الزيارة.»
وخلوت يوما إلى نفسي، وعدت أفكر في هذه الجواهر وفي إهداء أصحابها إياها إلى الحجرة وفي قوله - عليه السلام - لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله.» أترى المسلمين اليوم ما يزالون حديثي عهد بكفر فلا ينفق أحد كنز الحجرة في سبيل الله؟! أوليس إنفاقه في هذه السبيل الكريمة خيرا من تركه تعدو عليه الأيدي ولا يفيد منه أحد شيئا؟ إن الذين وهبوه للحجرة التماسا للقربى قد بلغوا من هبتهم غايتهم، فحسب المرء أن ينفذ صادقا ما نواه مخلصا لتتم له نيته، فإذا خرج عمله أو ماله من يده وأصبح ملكا عاما فقد أصبح حقا لبيت مال المسلمين، يتصرف فيه صاحب الأمر ما يتصرف في بيت مال المسلمين؛ يجعل منه للحجرة وزينتها ما يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وينفق سائره في سبيل الله.
ولو عرض الكوكب الدري بعد أن بقي في الحجرة النبوية زمنا ليحوزه من يقدر على ثمنه لأقبل أصحاب الملايين من أمراء الهند وغيرهم يتنافسون في اقتنائه ويبذلون فيه أضعاف قيمته، ويومئذ ينفق هذا المال في سبيل الله تيسيرا للحج أو إعلاء لكلمة الله ورفعا لمنار الإسلام، وما كان لأحد أن يغضب لذلك بعد إذ تكرر الاعتداء على نفائس الحجرة فسلبت غير مرة، هذا، وما دار بخلد النبي - عليه السلام - أن يكون قبره يوما من الأيام متحفا للجواهر، وهو الذي أراد أن ينفق كنز الكعبة في سبيل الله، لكن قوما رأوا هذه الهبات وقفا على الحجرة لا يجوز التصرف فيها بحال، فشرط الواقف عندهم كنص الشارع، وليس يجوز في رأيهم صرف شيء من قناديل الحجرة في عمارتها وعمارة المسجد، وعند كثيرين أن هذا غلو في تقديس إرادة الفرد بعد موته، والشرع الإسلامي الحنيف لا يجيز إرادة الإنسان إلا في حدود حياته.
ومهما يكن الرأي في ذلك كله فهذه الهبات أوضح شاهد على تطور التفكير الإسلامي إلى ناحية الأثرة، مع أن كتاب الله وأسوة رسوله كلهما الدعوة الخاصة للإيثار، وماذا يبتغي من يهب القناديل أو الجواهر للحجرة؟ إنه لا يريد بذلك سد حاجة للمسلمين، وآية ذلك أن القناديل كانت تبلغ من الكثرة أن تخزن قناطير الذهب منها في القبة التي تتوسط المسجد، وأن إضاءة الحجرة لا تقتضي هذا الذهب ولا هذه النفائس، إنما يهب الواهبون يبتغون القربى إلى رسول الله وشفاعته لهم عند ربه، هم لا يفكرون في المسلمين ولا في أخوتهم ومحبتهم حين يفتنون في زخرف هذه الهبات، وإنما يفكرون في أنفسهم، وكم من ملك أو أمير وهب النفائس ثم لم يصرفه ما وهب عن الاستبداد بغيره وابتزاز حقه والطمع في ماله، والطمع مع ذلك في شفاعة رسول الله من أجل ما قدم من قناديل الذهب أو نفيس الجواهر! هذه عقيدة تدهور إليها المسلمون مذ نسوا أن المرء مجزي بعمله، وأن قيمة العمل بالنية التي تبعث عليه، وأن هذا العمل أقرب إلى الله ما كان البر والتقوى والجهاد في سبيل الله.
عدت إلى التفكير في هذا التطور يوما إذ كنت بموقفي من الحجرة أستعيد أمام ذهني هذه الصورة الأخاذة بالنفس لأيام مرض الرسول ووفاته ودفنه، فقد أقبل رجل مندفعا نحو الحجرة كأنما أراد أن يلقي بنفسه على أبوابها وأن يقبل أعتابها، ودهشت لمرآه في اندفاعه بعد إذ حالت حكومة الوهابيين بين زوار الحجرة وما وراء السلام على ساكنها - عليه السلام، ومنعت أن يقبل الناس الأعتاب أو أن يتمسحوا بالمقصورة كما كانوا يفعلون من قبل، لما تراه في هذه الأعمال من مخالفة قواعد الإسلام الصحيح، دهشت حين رأيت هذا الرجل في تحمسه وفي اندفاعه، وأيقنت أن خدام الحجرة لا ريب مانعوه من غرضه، لكن الرجل لم يلق بنفسه إلى الأرض ولم يقبل الأعتاب، بل اندفع يدعو ويبتهل ويستغفر، ويطلب إلى رسول الله الشفاعة يوم الحساب، وكان يطلب ذلك في صوت مسموع وفي ضراعة وإنابة انهمل لهما دمعه وفاضت معنا عبراته، فلما فرغ من دعائه وتضرعه وابتهاله اقترب منه رجل يقول له: ألم تقرأ قوله - تعالى:
Página desconocida