En la casa de la revelación
في منزل الوحي
Géneros
وقد روى ابن جبير في رحلته أن عثمان استشهد في هذه الدار الكبرى، وذكر السمهودي أن قتلة عثمان تسوروا عليه من الدار الصغرى إلى الدار الكبرى التي كان يقطنها يومئذ، ومن العسير أن يحقق اليوم المكان الذي تسوروا منه أو الطريق الذي سلكوه في انتقالهم بين الدارين بعد أن استحالت هذه الدور غير صورتها الأولى، وبعد أن أصبح تعيين الموضع الذي قتل عثمان فيه تعيينا دقيقا غير ميسور.
لشد ما تختلف الذكريات التي تبعثها هذه الدار إلى الذهن عما تبعثه دار أبي أيوب، كانت دار عثمان من أفخم دور المدينة في ذلك العصر، على حين لم تكن دار أبي أيوب تختلف عن دور أوساط الناس من الخزرج، مع ذلك توحي هذه الدار إلى النفس ما رأيت من ذكريات، فأما ما بقي من ذكر لدار عثمان فقتله بها، واختلاف المسلمين بعده ثم انقسامهم واتخاذ دمه ذريعة لهذا الانقسام، ومع ما رأت دار عثمان في عهد خلافته من فتح المسلمين بلاد الروم والفرس ومنه امتداد ملكهم إلى تونس وإلى قلب إيران ومن استيلائهم على جزر البحر الأبيض المتوسط، لقد غشى على ذلك كله ما حدث في آخر هذا العهد حين اتخذ عثمان مروان بن الحكم كاتب سره، وحين آثر بني أمية على قريش وعلى الأنصار وعلى سائر المسلمين، مما أدى إلى الفتنة وانتهى إلى قتله، غشى ذلك على هذا الفتح الذي انفسحت به رقعة المملكة الإسلامية، وبقيت صحف التاريخ تقلب مقتل عثمان أمام الذهن في صورة تثير النفس وتلذع بالألم كل مسلم لما ترتب على هذا الحادث من آثار ما زال خلف المسلمين يتناقلونها عن سلفهم، وحق ما قيل: «إنما الأعمال بخواتيمها.» ولو أن أجل عثمان حم قبل أن تثور الفتنة لإيثاره بني أمية فمات ولم يقتل، لتغير وجه التاريخ أغلب الأمر، ولما نجمت في المسلمين هذه الشيع التي أنشأها قتله والخلاف على دمه، وما أثاره هذا الخلاف من حفائظ قديمة بين بني هاشم وبني أمية.
إلا أن في هاتين الدارين المتجاورتين - دار أبي أيوب ودار عثمان - العبرة أبلغ العبرة؛ عبرة الأخوة بين المسلمين، وما في الأخوة من قوة يضاعفها الإيمان الصادق، والخلاف بينهم وقيام الحكم فيهم على التنازع والغلب يناجز به بعضهم بعضا، ولقد كان هذا التنازع في صدر الإسلام، وحين كانت أسوة الرسول حاضرة في الأذهان، أفكتب على المسلمين أن يظل الانقسام ديدنهم، وألا يذكروا مؤاخاة النبي بين المؤمنين أول ما جاء المدينة، وقبل أن ينتقل من دار أبي أيوب إلى منازله، وأن ينسوا قوله - تعالى:
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ؟ أم آن لدورة الزمن أن تدور وأن تصبح للأمم الإسلامية عصبة تدعو إلى الإسلام والسلام متآخية إخاء المسلمين في الصدر الأول، يوم خرجوا من شبه الجزيرة فأضاءوا العالم بنور التوحيد ونشروا فيه أسمى المبادئ؟!
تقع دار عثمان إلى جوار المسجد من جهة الجنوب الشرقي، وتقع دار مروان بن الحكم مقابلها من الجهة الجنوبية الغربية في جوار باب السلام، ولقد ولي مروان بن الحكم إمارة المدينة في عهد معاوية بن أبي سفيان بعد أن كان كاتب السر لعثمان بن عفان، فأتم من أعمال الإصلاح فيها ما جعل أهلها يلهجون بحمده والثناء عليه وينسبون باب السلام إليه فيسمونه باب مروان، ويظلون على ذلك إلى عهد العباسيين، أجرى مروان العين الزرقاء، ورصف أطراف المسجد النبوي بالحجارة، وجعل للمدينة من أموال الفتح الأموي ما لعله أنساها مقتل علي بن أبي طالب بالكوفة لولا مقتل الحسين ابنه بعد ذلك بكربلاء، وسخاء مروان هو الذي جعل المدينة أقل مقاومة من مكة في عهد معاوية وأول أيام يزيد، ومن يومئذ بدأ أهل المدينة من الأوس والخزرج يغادرون مدينتهم إلى بلاد المملكة الإسلامية الفسيحة الأطراف، ويقيمون بها ليحل المسلمون من بلاد هذه المملكة محلهم فيها، ولم تنقض إلا أجيال حتى لم يبق فيها إلا الأقلون من أبنائها الأولين.
دار أبي أيوب هي التي نزل رسول الله بها أول مهاجره إلى المدينة، ويقابلها داخل المسجد موضع حجرات أزواج النبي التي ضمت إليه في عهد الوليد بن عبد الملك، ويفصل زقاق الحبشة بين دار أبي أيوب ودار عثمان، وتقع دار مروان بن الحكم في جوار باب السلام، أليس لأبي بكر ولعمر وعلي آثار باقية اليوم حول المسجد تكمل بها سلسلة التاريخ في هذه الفترة؛ فترة نصف القرن الأول من الهجرة؟ أما أبو بكر فله بجوار المسجد الغربي الخوخة التي أوردت عند الحديث عن المسجد بعض خبرها، وله فيما تذهب إليه الرواية، دار تجاور دار عثمان بن عفان من الشمال، ولا يفصل بينهما إلا طريق البقيع، وهذه الدار هي التي مات بها، وليس حول المسجد مكان ثابت النسب إلى عمر بن الخطاب باعتباره موضع داره، وإن حاول بعضهم أن ينسب إليه دارا في شمال المسجد، لكنما تقع في جنوب المسجد دار تطل على الحجرة النبوية تعرف بدار آل عمر، ويقول السمهودي: إنها دار عبد الله بن عمر بن الخطاب، آلت إليه عن أخته حفصة أم المؤمنين، وكان لهذه الدار نفق يصلها بالمسجد حتى سنة 888 من الهجرة إذ سد هذا النفق وردم بالتراب.
ولا تعرف باسم علي بن أبي طالب دار ولا موضع لدار فيما حول المسجد، وإنما يعرف باسم زوجه فاطمة ابنة رسول الله مكان من الحجرة النبوية، يزعم بعضهم أنها مدفونة فيه، والرواية الراجحة أنه موضع دارها التي كانت تقيم بها والتي أقام بها أبناء الحسن والحسين من بعدهما حتى ضمها الوليد بن عبد الملك إلى المسجد، أما قبرها فبالبقيع.
أما دار نائب الحرم اليوم، وهي التي تلاصق دار أبي أيوب من الجنوب، فتنسب إلى جعفر الصادق الحسيني، والمقيم اليوم بهذه الدار بعد إلغاء وظيفة «نائب الحرم» هو القائم بإدارة أوقاف الحرم النبوي.
ألا ما أكثر ما تثير ذكريات هذه الدور من أثر في النفس! إنها تثير عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين كله، ويقع على مقربة منها أثر يثير في النفس من ذكريات البطولة والإقدام ويرسم أمام الذهن صورة من الفتح الإسلامي تهز القلب إعجابا وإكبارا، فقبالة باب النساء من أبواب المسجد وإلى جانب الأثر الباقي من دار أبي بكر، قبة صغيرة مبنية باللبن والطين واقعة بمقدم رباط يدعونه رباط خالد بن الوليد، هذه القبة تقوم في الموضع الذي كانت تقوم فيه دار بطل الإسلام خالد، ويعيد صغرها إلى الذاكرة ضيق هذه الدار ضيقا شكا خالد منه إلى النبي، فقال له: «ارفع البناء في السماء، وسل الله السعة.»
أويظن أحد أن تكون هذه البقعة الضيقة دار خالد بن الوليد، بطل قريش وفارسها المعلم وصاحب لوائها قبل أن يسلم، وبطل الإسلام وسيف الله المسلول بعد إسلامه؟! خالد الذي ضاقت الأرض بفتوحه شرقا وغربا في فارس وفي بلاد الروم، والذي كان في عهد الرسول بطل مؤتة وقائدها بعد موت أصحابه، تكون داره بهذا الضيق؟! يا للنزاهة ويا للإباء! حق إن هذا العرض من متاع الدنيا لا وزن ولا قيمة له، ولا يساوي عند الله جناح بعوضة، كم من ملوك في زماننا هذا وفيما سبقه من القرون يودون لو حفظ التاريخ لهم قطرة من بحر مما حفظ لخالد من ذكرى فلا يغني عنهم مالهم من ذلك شيئا ولا يجدون إليه الوسيلة، ألا إنها عظمة النفس هي الباقية، وسلطان النفس على الحياة هو الخالد في صحف الحياة.
Página desconocida