En la casa de la revelación
في منزل الوحي
Géneros
ترى من ذا صاغ لهن هذا القول الحلو ولحن لهن هذا النشيد العذب؟ لعله فتى من شعراء المدينة، أولع بالنبي حبا من قبل أن يراه، ولعله أحد هؤلاء الفتيان المتظاهرين يتدافعون بالمناكب حوله وهم يتنادون نشوة وفرحا: «جاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» والحبشة يلعبون أثناء ذلك بحرابهم فرحا بقدومه، فيطلق اسم الحبشة لذلك على الزقاق المجاور لدار أبي أيوب.
وأولئك جوار من بني النجار يقبلن يضربن بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار
يا حبذا محمد من جار
ويبتسم لهن محمد ويقول: «أتحببنني؟» فيجبن: نعم يا رسول الله، فيردف: «يعلم الله أني أحبكن!»
أية غبطة هذه الغبطة؟! وأي فيض من السرور أضاء المدينة في هذا اليوم الخالد في صحف التاريخ؟! لقد نسي الناس طعامهم فما يريدون الانصراف إليه، وهم لم ينصرفوا حتى قام النبي إلى بيت أبي أيوب يقيل فيه من حر ذلك اليوم القائظ من الصيف، هنالك بدءوا ينصرفون ولا حديث لهم إلا مقدم رسول الله وما اختار الله للمدينة من فضل بمهاجرته إليها.
لم يكن هذا اليوم على جلاله هو الذي خلد لدار أبي أيوب كل ما لها من جلال الذكرى، إنما خلد لها ذلك مقام النبي بها شهوره الأولى بالمدينة، وما أتم أثناء هذه الشهور من عمل كان له في الإسلام وسياسته الأثر الباقي على التاريخ، أثناء مقام محمد بهذه الدار آخى بين المسلمين مهاجريهم والأنصار، ووضع سياسة المعاهدة بينه وبين اليهود، وأقام في المدينة بذلك نظاما لم يكن مألوفا من قبل، ولم يدر بخلد أحد يوم وضع أنه يصور سياسة بعيدة المدى تنتهي بالمدينة إلى وحدة أساسها الإخاء والتضامن، وتنتهي باليهود إلى الجلاء عنها، ثم تنتهي بالإسلام إلى الانتشار في بلاد العرب كلها لينتشر منها بعد ذلك في أنحاء العالم وربوعه جميعا.
وهذا نوع من التفكير السياسي كان جديدا يومئذ في حياة محمد، فهو لم يرم حين مقامه بمكة إلى تنظيم سياسي، أو أن يجعل من التنظيم السياسي وسيلة إلى الدعوة للدين الذي ألقي عليه تبليغه للناس، لكنه ما لبث حين أقام بدار أبي أيوب واتصل بالمسلمين من أهل المدينة أن قدر ما بين العقيدة ونظام الحياة من صلة، وأن العبادات التي تدعو العقيدة إليها تتصل بنظام الحياة ويتصل بها هذا النظام أوثق اتصال، فالعقيدة أمر فردي من حيث اتصالها بالرأي وتكييفه، فإذا انتقل الأمر إلى مظهرها العام وإلى العبادات المتصلة بها وإلى الفضائل التي يتحلى بها صاحبها، أصبحت مسألة اجتماعية لا مفر من أن يتناولها التنظيم، وليس يقف تنظيمها عند فرائض العبادة من وضوء وصلاة وصوم وزكاة وحج، بل يتعدى الأمر هذه الفرائض إلى صلات الناس بعضهم ببعض، والأمر في تفاصيل هذه الصلات أمر دنيا، والناس في كل عصر أعلم بحاجاتهم فيها، لكن المبادئ العامة التي يجب أن يقوم التنظيم عليها، كالمبادئ العامة التي تقوم عليها صلات المسلمين بغيرهم من الناس، يجب أن تتسق مع تنظيم هذه الفروض التعبدية، ويجب أن تظل أبدا على هذا الاتساق وإن اختلف تصويرها واختلف تفصيلها باختلاف الزمان والمكان، هذا ما اتجه إليه تفكير الرسول أثناء مقامه بدار أبي أيوب، وكان من أثره هذه المؤاخاة بين المسلمين وهذه الموادعة مع اليهود.
تقع دار عثمان بن عفان إلى الشمال من دار أبي أيوب لا يفصل بينهما إلا زقاق الحبشة، والمعروف أن عثمان كان له في هذا المكان داران متصلتان بناهما في عهد الرسول - عليه السلام، دار صغرى ودار كبرى، أما الدار الصغرى فيقوم موضعها اليوم رباط للمغاربة يدعى رباط سيدنا عثمان، وبهذا الرباط اليوم مكتبة تحوي كتب الفقه المالكي وغيره موضوعة في خزانات تدل نقوشها على أنها من مصنوعات الدولة العباسية، ويقال: إن هذه الخزانات كانت بالحرم وكانت مهداة إلى الحجرة النبوية ثم أخرجت منه ووضعت في هذا الرباط، أما الدار الكبرى فموضعها اليوم رباط العجم، وهي مخصصة لشيخ الحرم النبوي، وبها قبر أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين الأيوبي وقبر والد صلاح الدين الذي دفن مع أخيه.
Página desconocida