En la casa de la revelación
في منزل الوحي
Géneros
يدلك على ذلك أن أرقى مدرسة بالمدينة اليوم هي مدرسة العلوم الشرعية، واسم هذه المدرسة ضخم يكبر حقيقتها، ولقد حسبتها أول ما سمعت هذا الاسم من نوع مدرسة القضاء الشرعي بمصر، فلما زرتها ألفيتها مدرسة ابتدائية تدرس أحكام الشريعة في الفصول العليا منها، وزرت مدارس أخرى فإذا هي دون هذا الطراز مكانة، وإذا هي تعنى بالصناعات اليدوية الأولية - كصناعة الجلود والنسيج البسيط - أكثر من عنايتها بأمور العلم، وهذه المدارس كلها تجرى عليها النفقة من هبات وأموال تجيء من الهند، وغاية مطمعها من ناحية الحكومة القائمة أن تنال عطفها، فكثيرا ما لقيت أمثال هذه المدارس العنت في العهد العثماني، وكثيرا ما اتهمت بأنها أقيمت لأغراض سياسية تناوئ مرامي الدولة ولم تقم لوجه الله ورسوله.
وثم مدرسة أنشئت في عهد هذه الحكومة الحاضرة، ولها من رعايتها الحظ الأوفى، تلك مدرسة الأيتام، ولقد دعيت إلى حفلة أقيمت لخيرها حضرها أمير المدينة وأعيانها، عرضت فيها مصنوعاتها لمن يشتريها، وألقى فيها تلاميذها مقطوعات وخطبا دربوا عليها، ولقد لمحت في هؤلاء التلاميذ - ومنهم بدو لم يألفوا الحضر قبل التحاقهم بهذه المدرسة - نجابة واستعدادا للعلم يدلان على أن المستبدين لم يخطئوا حين خافوا مغبة العلم على سلطانهم في هذه البلاد، لكن ما يتعلمه تلاميذ هذه المدرسة لا يزيد على المعلومات الأولية التي تلقى في غيرها، ولا يقصد منه إلى أكثر من المعلومات العملية ذات النفع البدائي في الحياة.
ماذا عسى أن ينشأ عن هذه الحال من ألوان التفكير وألوان العيش؟! يذكر الذين زاروا المدينة وعاشروا أهلها أنهم قوم على جانب عظيم من دماثة الطبع ورقة الخلق، وهذا طبيعي في البلاد التي تعيش على السياحة والسائحين أيا كان سبب السياحة، ويزيد بعضهم أن في مجاورة أهل المدينة قبر الرسول ومسجده ما يبث في نفوسهم هذه الدماثة وهذه الرقة، ولست أدري مبلغ الصحة في هذه الحجة بعدما ذكر لي غير واحد ممن اتصلت بهم أن كثيرين من أهل المدينة ينظرون إلى الحياة بعين مستهترة بالحياة مشغوفة بمتعها المادية ولذاذاتها الدنيا، وأن منهم من ينفق ما يكسبه في موسم الحج والزيارة في هذه المتع واللذاذات غير حاسب للغد حسابا، مطمئنا إلى الموسم المقبل وما تدره عليه أخلافه من رزق، ولست أتهم الذين حدثوني بهذا الحديث، وقد دعيت إلى غداء في بستان المصرع على مقربة من قبر حمزة، فكان مما أراده إخواننا أن يدعو مضيفنا مغنيا أو قينة وضارب عود، ولم يتردد مضيفنا في الأمر بادئ الأمر، لكنه خشي من بعد غضب أمير المدينة النجدي الوهابي المتزمت عبد العزيز بن إبراهيم، وذلك حين علم أن الأمير أتاه نبأ من هذه الدعوة وأسماء المدعوين فيها، وأنه سيقف أغلب الأمر على حديثها وعلى كل ما يجري أثناءها.
ولقد أذكرتني الوليمة ببستان المصرع قول البتانوني في رحلته: «ومن عادات أهل المدينة الرياضة والتنزه بين البساتين خارج المدينة، فيخرجون إليها في يوم الثلاثاء والجمعة بعد صلاة العصر جماعات جماعات ويعودون في المساء، وقد يخرجون إلى الرياضة من أول اليوم ومعهم غداؤهم فيمضون نهارهم بأحد البساتين التي بضواحي المدينة في سرور وحبور، ويسمون هذه الفسحة مقيالا.»
والطبيعة المحيطة بالمدينة تعاون على هذا اللون من الحياة، فالبساتين حولها كثيرة، والخضرة بسامة، والحياة ضحوك، ولولا أحداث الزمن وما أصاب هذا البلد الطيب من بأساء وما تركه ذلك في نفوس أهله من أثر لما تعرضوا لما يصيبهم من تفاوت الحظ. ومقام أهل المدينة إلى جوار الرسول والحجرة النبوية، وتأثرهم بالتطور الذي حدث في التفكير الإسلامي أكثر من سواهم، وهذا التوكل المطلق الذي أصبح بعض خلقهم، يجعلهم أدنى إلى الصبر والرضا وأقل جزعا لكوارث الدهر، من ذلك ما لاحظه غير واحد من أنهم لا ينوحون على موتاهم ولا يبكونهم، وأنهم يسرفون في التجلد والصبر إسراف المصريين في الجزع لدى الفاجعة والحزن لها، وهم في توكلهم لا يحسبون لغد حسابا، وماذا ينفعهم أن يحسبوا وقد ألفوا من فجاءات الدهر بالسراء والضراء ما يضل معه كل حساب؟! وقد علمهم تعاقب الأجيال أن الأمر في مدينتهم ليس لهم، بل للحاكم الأجنبي عنهم، الذي يعنى بسياسته وتطبيقها عندهم أكثر من عنايته برقيهم ورخائهم.
ولقد كان من أثر ذيوع الأمية والجهل بالمدينة أن لم يعن أحد من أهلها بتنظيم المكتبات العامة الموجودة بها، فبالمدينة مكتبات عامة تحتوي من المخطوطات والكتب المطبوعة على ألوف المجلدات، ومكتبة السلطان محمود ومكتبة السلطان عبد الحميد مكتبة بشير أغا من المكتبات التي يتحدث الناس في المدينة عنها، فأما أكبر مكتبة بها فمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، وفي وصف هذه المكتبة يقول البتانوني: «هي قريبة من باب جبريل إلى جهة القبلة، وهذه الكتبخانة آية في نظافة مكانها وحسن تنسيقها وترتيب كتبها، وأرضها مفروشة بالسجاد العجمي الفاخر، وفي وسط حوشها نافورة من الرخام فيها صنابير للوضوء، وفيها كتب ثمينة جدا، لا يقل عددها عن أربعة وأربعمائة وخمسة آلاف كتاب، ولقد رأيت بها شيئا من غرائب الصناعة النادرة في بابها، وهو كتاب أسفار فارسية مكتوب بالخط الأبيض الجميل لملا شاهي، وبينا نحن نعجب من جودة الخط وإتقان الصناعة ونظافتها وحسن تنسيق حروفها على صغرها ودقتها لفت نظرنا حضرة مدير الكتبخانة إلى أن حروف الكتابة إنما هي ملصوقة على الورق، فتأملناها فوجدنا شيئا يبهت الطرف لرؤيته ويعجز اللسان عن نعته، خصوصا عندما أخبرنا أنهم كانوا يكتبون هذه الكتابة ثم يفصلونها عن ورقتها بظفرهم ثم يلصقونها على ورقة أخرى.»
ولقد حرصت على زيارة هذه المكتبة لكثرة ما سمعت عنها بمكة، فلما زرتها أعجبت بالسجاد العجمي ونافورة المياه التي ذكرها البتانوني، لكنني حرصت مع ذلك على أن أقف على نظامها، فسألت أمينها عن فهارسها وعن طريقة القراءة والمراجعة فيها، ولم يثر دهشتي نقص الفهارس ولا أثارها عدم العناية بتنظيم الانتفاع بالمكتبة بعد الذي عرفته من انتشار الأمية بالمدينة، والواقع أن أمين الدار، وهو شيخ حسن الحديث، واسع الاطلاع على محتوياتها، يكاد يكون هو الفهارس وهو المرشد إلى كل ما دق وجل فيها، وقد دلني حينئذ على قلة رواد المكتبة من أهل المدينة، ومن الحجاج، وأن الذين يجيئون إليها يجيئون يدفعهم التطلع للإحاطة بها في نظرة عامة أكثر مما يدفعهم الحرص على مراجعة كتبها أو الانتفاع بها، ومعظم ما يطمع الأمين فيه أن يجد من يعنى بمخطوط من المخطوطات فينقله مأجورا؛ وهو لذلك جد حريص على أن يؤكد صحة المخطوطات التي بالمكتبة ودقة اتفاقها مع الأصل الذي نقلت عنه إن لم تكن هي هذا الأصل بالفعل، وقد أطلعني على «معجز أحمد»، وهو شرح أبي العلاء المعري لديوان المتنبي، وأكد لي صحة نسبته إلى الأصل ودقة نقله، وأوشكت أن أطلب إليه استنساخه لولا أنني علمت من أحد أبناء المدينة حين طالعته بما دار من ذلك بخلدي أن هذه النسبة إلى المعري موضع ريبة وأن القول بدقة النقل مبالغ فيه.
وتمنيت مذ عرفت تعدد المكتبات بالمدينة أن يبنى لها جميعا دار واحدة تجمع كل ما فيها وتنظم تنظيما حديثا يكفل الاستفادة منها، لكنني إذ عدت إلى نفسي ألفيت أن ما أطلبه من ذلك أدنى إلى المنى التي لا تحقق، فأهل المدينة يحسبون هذه المكتبات زخرفا، وقل منهم من يقدر ما تعود به المكتبات من فائدة إذا وجدت المنتفعين بها الحريصين على نشر كنوزها وتبويب ما فيها تبويبا علميا صحيحا.
وكيف يتسنى لبلد لا يزيد سكانه على ثلاثة عشر ألفا، وهو ليس مركزا علميا، أن يفكر في مثل هذا الأمر؟! وكيف يتسنى له أن يفكر فيه ومبلغه من العلم ما رأيت؟! حسبه أن يكون متحفا لآثار تظل محفوظة رجاء يوم يسعد الحظ فيه المدينة فيكون أهلها من العلم أوفر نصيبا، ويكون زائروها أكثر على البحث والدرس توفرا؛ ليكون هذا التفكير بعض ما يدخل في حيز الممكنات .
ولعل هذا اليوم يكون قريبا! فقد تعود سكة الحجاز سيرتها، فيعود إلى المدينة الرخاء ويكثر فيها السكان، ويزداد النشاط، ويطرد ذلك زمنا تستقر فيه الأمور وتصبح غير ما هي اليوم، ألا ما أكثر ما أتمنى ذلك! وما أكثر ما يتمناه كل محب لهذا البلد! بل ما يتمناه كل محب للإنسانية! لقد تنقلت خارج أسوار المدينة حيث كانت تقوم الدور والأحياء حين بلغ سكان المدينة ثمانين ألفا، فأسفت لحالها الحاضرة، وعجبت كيف تطاوع ساسة الغرب أنفسهم على التآمر لقتل بلد مثله من اليسير إحياؤه بما لا يضر أحدا وما يعود بالخير على الجميع، ولولا أني أكبر هؤلاء الساسة وأحسبهم أسمى نفسا من أن يدفعهم التعصب الديني إلى محاربة المدينة لوجود قبر نبي الإسلام بها لخلت هذا الدافع أقوى ما تتأثر به نفوسهم، ومهما يكن من الأمر فما أراني أسيغ هذه الصعاب التي يقيمونها دون تعمير السكة الحديدية وقد استطاعت السياسة بأوضاعها المرنة أن تحل ما هو أعسر منها وأشد تعقيدا!
Página desconocida