En la casa de la revelación
في منزل الوحي
Géneros
وكان الجو في هذه الساعة رقيقا صفوا من كل شائبة، وكان هواء الجبل صحيحا منعشا يبعث إلى النفس الغبطة وإلى القلب المسرة، وكانت الشمس ترسل أشعتها المحسنة تحيي بها الكون وتفيض منها الدفء والنور، فتزيد النفوس غبطة والقلوب مسرة، وكان زملاؤنا جميعا فرحين أن بلغنا الغاية بعد ساعات تنقلنا أثناءها من الطائف إلى سد ثمالة، فإلى الطائف كرة أخرى، فإلى هذا المكان الذي بلغناه بعد جهد ومشقة، لعلي كنت أكثرهم اغتباطا ومرحا، فهذا كله جديد في حياتي وهو متداول في حياتهم، فإن لم يكن بعض ما يزاولونه كل يوم فهو بعض ما يتعرضون له الفينة بعد الفينة، ومنهم من تكاد تكون هذه المشقة بعض حياته، كالشريف حمزة الغالبي، وربما كان فرح هذا الرجل أن بلغ بنا ما نبغي، وأن حدثنا عن كثير مما أريد أن أسمع عنه، أعظم من فرحه لمرأى دار مضيفنا في الهدة، ولقد رأيت السرور يلمع في عينيه ونحن نترجل عند دار هذا المضيف وهو يسألني في شوق من يريد أن يطمئن: «لعلك لم يبلغ منك التعب؟»
ودلفنا إلى بيت مضيفنا محمود المغربي، فدخلنا بابا وارتقينا درجا وأوينا إلى غرفة أذكرتني بداوتها وسذاجتها منازل العزب في مصر، ولقينا أهل الدار مؤهلين فرحين، ودخل بعضهم معنا الغرفة الخالية، وجاء أحدهم بحصير من هنا وآخر بسجادة من نسج أيديهم من ها هنا، وفرشوا ما استطاعوا فرشه من جوانب الغرفة، ثم جاءوا بوسادتين أتكئ عليهما مبالغة في إكرامي، وأعد لنا القوم الغال - وهو طعام «التصبيرة» كما أسلفت - بيضا وخبزا وتمرا، وقام رب الدار على قدميه عند الباب لا يتناول معنا طعاما ولا يلقي إلينا نظرة، وكل همه أن يجيء بالماء للظامئين، وسمعته يتحدث إلى أهله.
جزيت يا مستر فلبي! أهذه اللغة العربية الفصحى الصميمة التي هديتني إلى موطنها؟! إنها لهجة لا أكاد أفهمها إلا كما أفهم أهل لبنان أو أهل المغرب إذ يتحدث بعضهم إلى بعض، يرحم الله شعراء ثقيف وخطباءها! ويرحم الله الحجاج بن يوسف الثقفي يوم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ورحم الله أمية بن أبي الصلت الثقفي في الجاهلية! ورحم الله المغيرة بن شعبة، وغيلان بن سلمة، وعروة بن مسعود، والفارعة بنت أبي الصلت وغيرهم وغيرها من رجال ثقيف ونسائها الشعراء والحكماء، أين شعر هؤلاء وأين حكمتهم؟ وأين هم من أولئك الذين أرى اليوم فلا أكاد أستبين لهم حديثا أو أفهم لهم قولا؟! وأسأل السيد صالح القزاز في ذلك فيذكر لي أنه الجهل المطبق الذي خيم على البلاد أجيالا بل قرونا، والذي ألفه الناس حتى ما يفهمون غيره، فإذا أنشأت لهم الحكومة الفاتحة اليوم مكاتب للتعليم تلكئوا في الإقبال عليها واعتبروها عدوا لهم أي عدو، هذا على شعورهم بالحاجة إلى المعرفة بعد إذ رأوا السيارة والبرق، وأيقنوا أن الحياة في عصرنا الحديث بغير علم مستحيلة، وأن الجهل والبهيمية فيها سواء.
خرجنا بعد «الغال» من دار مضيفنا ندور في الهدة من سطح كراء، وأطلقنا للدواب أزمتها تجري مرسلة العنان لا تخاف وعرا ولا وعثا، ويدفعها أصحابها البدو الفرحون بجريها إلى مزيد منه، فهي تستبق ما انفسح الطريق أمامها، فإذا قام النبات عن جانبيها وضاق الطريق سارت بعضها في أثر بعض، ونبات الحنطة المزروع في هذا السطح من الجبل لا تجاوز مساحته المنثورة ها هنا وهناك بضعة الأفدنة لكل قطعة منها، وهي تقع أغلبها في حضن سفح أو على رأس هاوية، فأما ما وراء ذلك من سطح الجبل فخلاء منثورة فيه الأحجار المتباينة الأشكال والأحجام، وقد مررنا بحجر ضخم قائم في الفلاة يكاد ارتفاعه يبلغ ثلاثة الأمتار أو يزيد عليها، فذكرت لمرآه أحجار الهرم الأكبر بالجيزة، وإن لم يهذب ولم يسو ما هذبت وسويت، ووقف أصحابي أمام هذا الحجر فإذا عليه كتابة ونقوش، حاولوا قراءة ما يمكن قراءته منها، وحاولوا أن يردوه إلى عصور قديمة ترجع إلى صدر الإسلام وإلى ما قبل الإسلام، قال صاحبي وهو يحاورهم: «أوتحسبون صخرة كهذه الصخرة معرضة للريح والمطر تحتفظ ألوف السنين أو مئاتها بكتابة لم يعمق صاحبها نقرها؟! لشد ما تغلون! وإني لأظنكم تحرصون في غير موضع للحرص أن تخلقوا تاريخا منقوشا على صخور هذه الأماكن الغنية بما وعت من عهد الرسول فأغناها عن كل نقش، وحسب هذا المكان فخارا أنه - عليه السلام - مر به في مجيئه من مكة إلى الطائف يستنصر أهلها، فأما ما ترونه منقوشا على هذه الصخرة أو غيرها من الصخور فلا أحسبه يشفي غلة أو يروي ظمأ، وإن ألفى الذين يحلون طلاسمه تاريخ البشر مطويا في ألفاظه.»
كانت غايتنا من سيرنا أن نبلغ البركة القائمة عند منحدر جبل كراء إلى الكر، فمن هذه البركة يرى الإنسان الطريق إلى شداد فوادي نعمان فمكة، وهو الطريق الذي يسلكه المشاة وتسلكه الدواب بين مكة والطائف، وهو الطريق الأثري الذي سلكه الرسول من ستين وثلثمائة وألف سنة مضت، وهو هذا الطريق الذي نصح إلي الحاج عبد الله فلبي أن أسلكه لأسمع عربية البادية، أما ولم يتسن لي أن أتعدى ما بعد وادي نعمان يوم جئت إليه من مكة، فلأذهب إلى الكر من ناحية الطائف فأكون قد قطعت من هذا الطريق أكثره، وانطلقت الدواب بعد أن قرأ أصحابي ما استطاعوا وما لم يستطيعوا قراءته مما على الحجر الضخم حتى بلغت منحدر الطريق على سفوح كراء إلى البركة، هنالك عادت إلى مجازفتها وحذرها، ولم يطل بنا الطريق فيرتاع القلب من خشية الخطر والانزلاق، بل كنا عند البركة بعد دقائق من بدء المنحدر، وكان من البدو الذين معنا من سبقونا إليها ونادونا من عندها لنطمئن بندائهم إلى قصر الطريق ويسره .
والبركة مربعة، بنيت بناء محكما، ومهد إليها انحدار الماء من الجبل في قني أحسن نظامها، كما نظم انحدار الماء منها ليظل ماؤها جاريا ما نزلت السيول أو ذابت الثلوج، وشرب منها بعض رفقتنا تيمنا وتبركا، وأدرت المنظار المقرب فيما حولي، فألفيت انحدار السفح فيما دوننا وعرا عموديا أو يكاد، فسألت أصحابي في صعوده؛ فابتسم أحدهم وقال: «إن من أهل شداد الواقعة في السهل عند نهاية كر من يطيب لهم المجيء إلى هنا ليشربوا القهوة، وليتحدثوا ولينعموا بهواء الجبل ما طاب لهم، وليعودوا بعد ذلك مغتبطين بنزهتهم لم يصبهم نصب ولم يمسسهم تعب؛ وإنما تحسب أنت للأمر حسابه وترى فيه عسرا لأنك لم تتعوده، والحياة عادة، ولو كنت تصعد الجبل اليوم للمرة الأولى ولم تكن قد سبقت إلى صعود حراء وثور لوجدت من المشقة أضعاف ما تجد.»
وحق ما قال، وإني لأذكر يوما من سنة 1910 كنت فيه بلوسرن من أعمال سويسرا، وقد قضيت الليل بفندق في قمة جبل الپيلات، فلما تنفس الفجر خرجت أشهد مشرق الشمس على قمم الجبال، فألفيت جماعة من أهل الجبل في هذه المنطقة سبقوني وقد تسلقوا من أدنى السفح إلى أعلاه في بكرة الصبح خفافا يتغنون أغاني الجبل ويتصايحون صيحاته، وهم في جذل ومرح دونهما مرح الطير الطليق من عشه مع تباشير النور، وقديما ثقل هواء السهل على أهل الجبل، فكان تحنانهم إلى السفوح والقمم ينساب في شعرهم نغمات كتغريد الطير حين أوبته إلى عشه وأفراخه.
Página desconocida