مشكلة يقترح لها حلان، بحيث إذا أصاب حل منهما تحتم أن يكون الآخر باطلا، وها هنا يكون صراع فكري. (2)
مشكلة يقترح لها حلان، لكن كل حل منهما لا يتناول من المشكلة إلا جانبا واحدا، وهنا لا يكون صواب أحدهما نافيا لصواب الآخر؟ (3)
مشكلة يقترح لها حلان، لكنهما لا يختلفان في المعنى وإن اختلفا في الصياغة اللفظية، وهنا يكون صواب أحدهما هو نفسه صواب الآخر. (4)
سؤال يدمج في صياغته أكثر من مشكلة واحدة، فيعالج أحد المفكرين مشكلة منها، ويعالج مفكر آخر مشكلة أخرى، وهنا يكون لكل منهما صوابه أو خطؤه مستقلا عن صواب الآخر أو خطئه، فلا صراع بينهما ولا ما يشبه الصراع.
وسبيلنا الآن إلى مزيد من الأمثلة، نأخذها من حياتنا الفكرية، توضيحا لهذه الحالات الأربع.
لو نظرنا إلى الحياة الفكرية - كما ينبغي أن ينظر إليها - باعتبارها مرحلة نظرية لا بد أن تلحقها مرحلة التنفيذ والتطبيق؛ أعني لو نظرنا إلى الحياة الفكرية، لا على أنها لهو ومتاع لأصحابها، بل على أنها هي مرحلة التخطيط التي تنتهي بالتصميم ثم بالتنفيذ، وجدنا أن الحالة الأولى من الحالات الأربع المذكورة - أعني حالة الصراع الفكري بمعناه الدقيق - هي الحالة الوحيدة التي يؤدي اختلاف الرأي فيها إلى اختلاف في طرائق التنفيذ، وبالتالي فإن اختلاف الرأي فيها معناه اختلاف فيما نغيره أو لا نغيره من أمور الواقع، ومن ثم تجيء أهميتها وخطورتها بالقياس إلى زميلاتها، إذ لا يؤدي اختلاف الرأي في الحالات الثلاث الأخرى إلى أي ضرب من ضروب التغيير على أرض الواقع، وإذن فهو - على أحسن تقدير - لا يعدو أن يكون رياضة ذهنية يلهو بها أصحابها كما يلهو لاعبو الشطرنج، ولنضرب أمثلة من «صراعاتنا» الفكرية الحقيقية والمزعومة ليتضح المعنى الذي نريد.
إن أقرب مثل حي نسوقه للصراع الفكري في أتم معناه، هو هذا الذي حدث ويحدث في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية منذ قيام الثورة، فقد كانت تلك الحياة قبلها تقوم على فكرة أو أفكار أساسية، وجاءت تلك الحياة بعدها لتقوم على فكرة أو أفكار تنقض الأولى لتحل محلها، فإذا كانت الفكرة السابقة تأخذ بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الرئيسية، فإن الفكرة الجديدة تأخذ بالملكية العامة لتلك الوسائل، وبين الفكرتين من الاختلاف ما يحتم الأخذ بإحداهما دون الأخرى، فإما هذه وإما تلك، مع استحالة الجمع بين الفكرتين في شيء واحد بعينه، وإذن فقد كان بين الفكرتين صراع، كانت الغلبة فيه للفكرة الجديدة، وهي غلبة لا تقف عند حد الرياضة الذهنية، بل يكون لها طريقها إلى التطبيق والتنفيذ، بحيث تتغير الأمور على أرض الواقع تغيرا يجعل لها صورة غير التي كانت، وبهذا يصبح لكلمة «ثورة» معناها العيني المحسوس.
خذ مثلا ثانيا لمثل هذا الاختلاف الذي يحتم علينا أن نأخذ بأحد الطرفين دون الآخر، لما بين الطرفين من تناقض يمنع الجمع بينهما في لحظة واحدة، الاختلاف على مبدأ التعليم، أيكون واجبا على الدولة إزاء المواطنين بحيث تتكفل الدولة بنفقاته في كل مراحله، أم يكون من الخدمات التي تباع لمن يملك المال لشرائها؟ ها هنا كذلك «صراع» بين الفكرتين؛ لأن قبول الفكرة الأولى بالنسبة إلى مرحلة معينة من مراحل التعليم، يقتضي رفض الفكرة الثانية، فلو فرض أن كان لكل من الفكرتين أنصار، كان بين الفريقين صراع فكري، وهنا نلاحظ للمرة الثانية أن الصراع عندئذ إذا انتهى إلى انتصار فكرة على فكرة، كان معنى ذلك تغيرا حقيقيا في دنيا الواقع.
وهاك مثلا ثالثا للصراع الفكري حين يتم معناه، قضية المرأة وحريتها حين أعلنها قاسم أمين، فهل تخرج المرأة - التي هي من أوساط لم تكن تسمح للمرأة فيها بحقوق معينة - هل تخرج تلك المرأة إلى حيث تظفر بحقوقها تلك، من سفور ومن تعليم ومن مشاركة في الأعمال العامة؟ هنا تكون الإجابتان بالإيجاب والنفي إجابتين متعارضتين تعارضا يجعل صواب الواحدة منهما مؤديا بالضرورة إلى خطأ الأخرى، ونلاحظ للمرة الثالثة أن مثل هذا الاختلاف الفكري مؤد إلى تبديل صورة الحياة الواقعة إذا ما كتب النصر للفكرة الجديدة على الفكرة القديمة.
ومثل رابع وأخير للصراع الفكري بمعناه الذي حددناه له، تلك المشكلة التي ثارت في أربعينيات هذا القرن عن الكتابة العربية: أنبقي عليها كما هي بأحرف عربية، أم نبدل هذه الأحرف بأحرف لاتينية؟ ها هنا أيضا ترى كيف يجيء الأخذ بإحدى الفكرتين مبعدا للفكرة الأخرى، وفي هذه القضية قد حدث أن كان النصر للفكرة القديمة فاختفت الفكرة الجديدة، فلبثت صورة الواقع على حالها لم يصبها تغير.
Página desconocida