والخلاصة التي نريد أن نكتبها بالأحرف البارزة لتظهر للأعمى وللأعشى وللمبصر على حد سواء - قبل أن نمضي في الحديث - هي اختلاف طريقتين في تناول المشكلات: طريقة «الأديب» وطريقة «المفكر»، فبرغم أن الأدب الخالص قد يجسد فكرا في ثناياه، وأن الفكر قد يصاغ في عبارة لها جمال الأدب وخصائصه، إلا أننا إذا ما تطرفنا هنا وهناك لنميز بين الطرفين رأينا أنه حتى لو جعل كل منهما «مشكلات الحياة» المباشرة موضوعا له، لكان لكل منهما طريقته الخاصة.
فالأدب تجسيد لما يجرده الفكر، والفكر تجريد لما يجسده الأدب، على أن الأدب والفكر كليهما إذ يجيئان على مستوى رفيع - لا يجعلان من «مشكلات الحياة المباشرة»، موضوعا لهما؛ لأن ذلك متروك للصحافة ولأصحاب التخصصات العلمية، فأما الأدب فيعالج تلك المشكلات بطرائقه الرامزة الخفية، وأما الفكر فيعالجها بالتحليل والتعليل اللذين من شأنهما أن يطيرا عن أرض الواقع المباشر إلى سماء التجريد.
لكن هناك نفرا من الشباب الكاتب، لا يعجبهم العجب ولا الصوم في رجب؛ لأنهم في اللحظة نفسها يكرسون أنفسهم فيها «للفكر المجرد» يسوقونه في مقالات قصيرة أو طويلة، ويضطرون - شأنهم في ذلك شأن عباد الله المفكرين - أن يعلوا عن تفصيلات المشكلات كما هي واقعة، أقول: إنهم في تلك اللحظة نفسها، يوجهون اللوم لغيرهم من رجال الفكر، على تقصيرهم في تناول «مشكلات الحياة»، وهل تكون للكاتب قيمة إلا بمقدار ما يواجه بفكره تلك المشكلات؟ هكذا يقول شبابنا الكاتب الغاضب، ولست على يقين من أنهم إذ يقولون ذلك قد وقفوا لحظة ليسألوا أنفسهم: إلى أية صورة تئول مشكلات الحياة عندما تصبح موضوعات للنظر عند رجل الفكر؟ إذ يجوز أن تبعد الشقة - في الظاهر - بين ما يتداوله المفكرون في عصر من العصور من ناحية، وما يعانيه الناس ويكابدونه في ساحات الأخذ والعطاء وأسواق البيع والشراء من ناحية أخرى، على حين يكون الطرفان - في حقيقة الأمر - على صلة وثيقة أحدهما بالآخر، برغم اختلاف الصورة في حالة الفكر عنها في حالة لواقع بتفصيلاته وكثرة عناصره المتشابكة.
إن «الحياة» التي يريد شبابنا الغاضب أن نقصر الفكر والكتابة على «مشكلاتها» لا تجيء في واقع الأمر إلا مجسدة في «أحياء» كلهم أفراد، يلتقون أو يفترقون على صور وأشكال لا سبيل إلى حصرها: أعضاء الأسرة الواحدة، والعمال في المصنع، والركاب في سيارة أو قطار، ومجموعة الناس في السوق، والطلاب اجتمعوا في غرفة الدراسة وهكذا وهكذا، على أن هؤلاء الأفراد إذ يجتمعون قد تتفق بينهم الأهداف والأساليب وإذن فلا اختلاف، أو قد لا تتفق فيقع الصراع إما على الهدف ماذا يكون، وإما على الوسيلة كيف تكون.
وإني لأتصور «المشكلات» التي قد تقع للناس في حياتهم على نوعين رئيسيين، ثم يعود أحد هذين النوعين فينشعب شعبتين: فأولا قد تكون مشكلات الناس «خاصة»، وقد تكون «عامة»، ولا أحسب الشباب الكاتب الغاضب الذين يحثوننا على تناول «مشكلات الحياة» دون سواها، لا أحسبهم يريدون منا أن نعالج بمقالاتنا مشكلات الناس الخاصة لنعرضها على الملأ - رضي أصحابها أو كرهوا - فنعرض للزوج وقد اختلف مع زوجته على شأن من شئون الحياة، أو نعرض للجار وقد اعترك مع جاره، فتلك - على أبعد الفروض - صور مما قد تسرع إليه صحافة الخبر حين تكون الصحافة لاهية في أمة عابثة، وهي نفسها المشكلات التي إذا مستها أصابع الفن بسحرها حولتها إلى أدب من مسرحية وقصة، وفي كلتا الحالتين لا يكون لرجل الفكر - من حيث هو كذلك - شأن بها في حد ذاتها، وأما المشكلات العامة التي تمس أبناء الإنسانية كلها، أو أبناء الوطن الواحد جميعا، أو مجموعات ضخمة من هؤلاء وأولئك، فهي التي تنشعب شعبتين: إحداهما مشكلات هي من شأن البحوث العلمية المتخصصة وحدها؛ لأنه لا حيلة «للفكر» بمعناه الأعم حيالها، فماذا يصنع رجل الفكر في مواجهة الأمراض المتوطنة؟ ماذا يصنع في توسيع الرقعة الزراعية؟ ماذا يصنع في تحسين الطرق وإقامة الجسور؟ لا شيء، وإذن فأحسب أن الشباب الكاتب الغاضب لا يريدون منا أن نعالج أمثال هذه المشكلات، وإذن فقد بقي نوع واحد هو الذي يجوز، بل يجب أن يتناوله رجل الفكر بكل ما أوتيه من قدرة على التحليل والتعليل والحل، وهو المشكلات التي تكون عامة من جهة وتنصب على علاقات الناس بعضهم ببعض من جهة أخرى، فماذا تكون العلاقة الصحيحة بين المواطن ومواطنه؟ بين المحكوم وحاكمه؟ بين المتعلم ومعلمه؟ ماذا تكون العلاقة بين الفرد الواحد وبقية الأفراد؟ بين الأمة الواحدة وبقية الأمم؟ وهكذا وهكذا.
إن هذه العلاقات الإنسانية كلها تتمثل في مواقف الواقع المحسوس، إما على صورة حسنة أو على صورة رديئة، لكن رجل الفكر إذ يتناولها يكاد لا يقف إلا لحظة قصيرة عندما قد وقع منها بالفعل، ليجاوزه إلى ما وراءه من مبادئ، ليقبل بعضها ويرفض بعضها، غير أنه بإزاء مناقشة المبادئ المجردة تراه وقد بعد عن أرض الواقع بعدا يوهم المشاهد المتعجل أنه - أي رجل الفكر - قد شطح مع الخيال إلى أبراج عالية لا يكاد يسمع منها أنات المعذبين الذين يعانون في حياتهم مشكلاتها ويكابدون أزماتها، انتظارا للفرج يأتيهم من حيث لا يعلمون.
تعالوا نطف بأبصارنا في تاريخ الفكر، لنرى كيف كانت وقفات المفكرين بإزاء مشكلات حياتهم؟ لعلنا نهتدي إلى الوقفة الصحيحة، حتى لا يلوم أحد منا أحدا على أنه يبلبل خواطر الناس دون أن يعالج لهم مشكلات الحياة التي يريدون لها حلولا على أيدينا.
هذا هو شيخ الفلاسفة سقراط يواجه مشكلة من أعوص «مشكلات الحياة»؛ وأعني بها طريقة التوفيق بين واجب المواطن الصالح في إطاعة قانون دولته، وواجبه - في الوقت نفسه - في نقد تلك القوانين ومحاولة تغييرها إذا وجد فيها مواضع نقص وضرورة تغيير، فهل يلجأ المواطن في ذلك إلى التماس المؤامرات أو اصطناع وسائل العنف؟ أو هل يظل المواطن مطيعا للقانون حتى يتمكن من إقناع مواطنيه بالحجة العقلية ليغيروا من أوضاعهم ما يراه معيبا فاسدا.
تناول سقراط هذه المشكلة الحية التي مست حياته هو مسا مباشرا، ذلك أنه وهو في سجنه ينتظر الموعد المحدد لموته بجرعات مسمومة - كما حكم عليه رجال القضاء - جاءه تلميذه الغني أقريطون يعرض عليه الفرار من الدولة وقوانينها الجائرة، بعد أن أعد له الطريق برشوة الحراس، لكن سقراط - رجل الفكر - سرعان ما أسقط من الموقف تفصيلاته التي هو جزء منها، وارتفع بالمشكلة إلى مستواها المجرد المطلق، الذي يصلح للإنسان كائنا من كان، مهما يكن مكانه وزمانه، فانتهى به التفكير إلى أنه لا مناص للمواطن من إطاعة قانون دولته إلى أن يتاح له تغييره - إذا استطاع - بالحجة والإقناع، وفي محاورة أقريطون الجميلة الرائعة، التي تصلح إلى يوم الناس هذا أداة فكرية رادعة لمن يدبرون وسائل العنف للحصول على ما يريدونه لأنفسهم من أوضاع أمتهم، في هذه المحاورة الجميلة الرائعة، يتخيل سقراط قوانين الدولة وقد تجسدت أمامه تسائله وتحاسبه إذا هو فر من وجهها، كيف يجوز له أن يتمتع بحماية القوانين، ثم يخونها ويخرج عليها غدرا؟ وهل تظل للدولة قوائمها ودعائمها إذا لم تعد لقوانينها قوة، وإذا قابلها الأفراد بالعصيان كلما حكمت عليهم بما لا يحبون؟
ها هنا كانت «مشكلة الحياة» خاصة برجل واحد في موقف واحد، لكنها تحولت عند رجل الفكر إلى مشكلة عقلية نظرية صرف، حتى لينسى قارئ المحاورة أن البحث قد بدأ خاصا بشخص معين في موقف معين؛ لأن هذا القارئ سيرى الماثل أمام عقله قضية عامة عن موقف المواطن كائنا ما كان موطنه - تجاه قوانين دولته التي قد لا يكون راضيا عنها. •••
Página desconocida