ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا نحن لم نغير من معاني «الجاه»، فلمن تكون الصدارة في المجتمع: المكدود المنهوك بالعمل أم صاحب البطالة والفراغ؟ فنحن بما ورثناه من تقليد اجتماعي نرفع من شأن من استطاع العيش الرغد بالعمل القليل، ونخفض من شأن من اضطره أكل الخبز إلى العمل المجهد الشاق، حتى لتخلع على أي رجل شئت منصبا رفيعا، فيقترن في ذهنه المنصب الرفيع بكثرة المعاونين والمرءوسين والحجاب ... وانظر مليا في كلمة «حاجب» لتعلم أن صاحب السلطان بحكم التقليد الاجتماعي يحتاج إلى من يحجبه عن الناس أو يحجب الناس عنه، ولا فرق في الجوهر بين تقليد يرفع الإقطاعي على رءوس أرقاء الأرض، هؤلاء يفلحون الأرض ويحملون الأثقال ويرعون الماشية، وذلك في حصنه المنيع محتجب عن الأنظار لا يدري الناس ماذا يعمل وكيف يعمل، لا فرق بين هذا وبين صاحب المنصب الكبير الذي يقيم الحجاب بينه وبين الناس.
ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا لم ننقل مواضع الزهو، فبدل أن يزهى المرء بنفسه لأنه ليس مضطرا للخضوع للقانون كما يخضع له عامة السواد، يزهى المرء بنفسه بقدر ما هو خاضع لقانون الدولة سواء جاء خضوعه هذا علانية أمام الملأ أو سرا في الخفاء، فنحن بحكم التقليد الاجتماعي الذي ورثناه ما نزال نعلي من مكانة الذين لا تسري عليهم القوانين سريانها على الجماهير، فإذا قيل - مثلا - يكون اللحم بمقدار أو يكون السكر والزيت بمقدار، رأيت صاحب المكانة الاجتماعية قد ملأ داره ودور أقربائه وأصدقائه لحما وسكرا وزيتا؛ لأنه لا يكون صاحب جاه - بحكم التقليد - إلا إذا كان في وسعه الإفلات من حكم القانون.
الإرادة هي نفسها إرادة التغيير، ولا يكون التغيير لمجرد تبديل وضع بوضع بغير قيود ولا شروط، بل يكون تبديل وضع أدنى بوضع أعلى، ومقياس التفاوت في العلو، إنما يقاس بعدد المواطنين الذين ينتفعون بالوضع الجديد، «إن السؤال الذي طرح نفسه تلقائيا غداة النصر العظيم في السويس هو: لمن هذه الإرادة الحرة التي استخلصها الشعب المصري من قلب المعركة الرهيبة؟ وكان الرد التاريخي الذي لا رد غيره هو: إن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون لغير الشعب، ولا يمكن أن تعمل لغير تحقيق أهدافه.»
المهم في إرادة التغيير أن نعرف ماذا نغير من حياتنا وكيف نغيره، والذي نريد له أن يتغير هو القيم التي نقيس بها أوجه الحياة، وكيفية تغييرها هي أن نختار لكل موقف معيارا من شأنه أن يتحقق أكبر نفع وقوة وكرامة واستنارة وأمن لأكبر عدد من أبناء الشعب.
وحدة التفكير
مشكلة صادفتها الفلسفة في كل عصورها، وعلى أيدي رجالها أجمعين، وهي مشكلة قد تبدو بعيدة عن أرض الواقع، مع أنها - شأن سائر المشكلات الفلسفية - بهذه الأرض لصيقة اللمسة عميقة الجذور، وأعني بها مشكلة الوحدة التي تضم في طيها كثرة كثيرة الأجزاء والعناصر، فما من شيء حولك إلا وهو كثرة في وحدة: هذه المنضدة التي أمامي هي أجزاء صغرى تراكمت، وحالات كثيرة تعاقبت حالة في إثر حالة، أو تعاصرت حالة إلى جوار حالة، وهذا النهر المتدفق بمياهه، ما زال منذ أبعد العصور متجدد الماء، تتجمع فيه قطرات المطر ملايين ملايين، ثم تنساب تيارا واحدا يندفق في البحر ليتصل السير والجريان، وأنت وأنا وكل كائن حي من نبات وحيوان، كتلة جمعت من الأجزاء ما لا يكاد العدد يحصيه، لكن المنضدة التي أمامي «واحدة» والنهر العتيد «واحد» وأنت وأنا وكل كائن حي كيان «واحد» - ولقد تمضي عنك هذه الحقيقة لا تأبه لها، حتى يجيئك فيلسوف ينبهك إلى أن «واحدية الكثرة» مشكلة تريد النظر والتفسير، فكيف ترتبط كثرة الأجزاء والعناصر في كيان واحد؟
والأمر في هذه المشكلة كالأمر في سائر المشكلات الفلسفية، من حيث اختلاف الرأي وتعدد الحلول، وحسبنا هنا أن نذكر اتجاهين رئيسيين شائعين يقسمان الفلاسفة مجموعتين: فاتجاه منهما - وهو أكثر من الآخر شيوعا - يرى أصحابه أن لا مناص من افتراض وجود كائن يخفى على البصر، ويكمن وراء الظواهر الكثيرة في الشيء الواحد، هو الذي - بواحديته وثباته - يخلع الواحدية على الشيء مهما كثرت ظواهره، ويطلق الفلاسفة على هذا الكائن المختبئ وراء الظواهر البادية اسم «الجوهر»، ولا فرق في ذلك بين شيء وشيء، فلئن كنا نعتقد أن الفرد الواحد من بني الإنسان، يكمن في جوفه «روح» هو الذي يجعله فردا واحدا منذ ولادته وإلى أن يموت، بل وبعد أن يموت، برغم كثرة أجزائه وكثرة حالاته وتعدد مراحله التي يجتازها في نموه وذبوله، فقد لزم علينا أن ننظر النظرة نفسها إلى كل شيء آخر فيه واحدية تجمع ظواهره الكثيرة في كيان، وإنه ليجوز لك في هذه الحالة - بعد أن تجعل لكل شيء جوهرا يضم أشتاته - يجوز لك في هذه الحالة أن تفاضل بين جوهر وجوهر، أو ألا تفاضل، لكنك في كلتا الحالتين قد اخترت لنفسك طريقة الحل في مشكلة الوحدة التي تضم في ردائها كثرة.
وأما الاتجاه الثاني في حل المشكلة، فهو ألا نفرض وجود كائن غيبي وراء الظواهر الكثيرة ونحاول أن نرد الواحدية التي تجعل من الأجزاء الكثيرة شيئا واحدا، إلى شبكة العلاقات التي تربط تلك الأجزاء بعضها ببعض، فحتى لو تشابهت الأجزاء الصغيرة وتجانست ، فهي من كثرة العدد بحيث نستطيع أن نتصور - على أساس رياضي - ملايين التشكيلات الممكنة التي يجوز لتلك الأجزاء أن تتشكل بها.
وسواء أأخذت بفكرة الجوهر أو بفكرة العلاقات في تفسيرك لواحدية الشيء الواحد، فالأمر الذي يهمنا هو أنك - لا بد - باحث عن وحدة تضم الأشتات فيما تظنه كيانا واحدا، ليس لك في ذلك اختيار، فمن الوجهة العملية لا تستطيع أن تستخدم الأشياء أو تنتفع بها إلا إذا تناولتها من حيث هي وحدات، غاضا بصرك عما تحتويه تلك الوحدات من أجزاء تدخل في تركيبها، فالمناضد والمقاعد والكتب والأوراق والأقلام والأشجار وأفراد الناس والمدن والقرى والأنهار والبحار إلخ لا مناص من النظر إليها - في العمل والتعامل - على أنها وحدات، تقول - مثلا - إنني أعيش في «القاهرة» ولا تبالي أن يكون هذا الاسم مطلقا على مجموعة كبرى من العناصر والأفراد، يدخلها كل ساعة ألوف الناس ويخرج منها ألوف، وتبنى بها بيوت وتهدم فيها بيوت، لكنها في العمل والتعامل قاهرة واحدة ... ومن الوجهة النفسية لا تستطيع إلا أن تنظر إلى نفسك بكل ما فيها من ألوف الخبرات والتجارب على أنها نفس واحدة، ثم تعود فتخلع واحدية نفسك هذه على سائر الأشياء، بل قد تخلع واحدية نفسك هذه على الكون كله فتجعله كونا واحدا على غرار ما تحسه في نفسك من واحدية تضم حالات الخبرة والتجربة في تيار واحد، ... ومن الوجهة المنطقية لا تستطيع أن تتحدث إلى سواك بجملة واحدة إلا إذا صغت كلماتك على نحو يوهم بواحدية الأشياء، تقول - مثلا - قابلت أخي وكتبت مقالا، وتناولت الغداء، وفي كل جملة من هذه الأقوال توحيد لما هو مكون من أجزاء كثيرة، ولو وقفت لتحلل كل وحدة إلى أجزائها قبل أن تنطق لتتفاهم، لما نطقت بجملة واحدة لمن تريد أن تتحدث إليه، ... ومن الوجهة الأخلاقية لا يتاح لنا أن نحاسب الناس على أعمالهم إلا إذا فرضنا في كل فرد منهم واحدية تجعل إنسان اليوم هو نفسه إنسان الأمس، وإلا لما تحمل إنسان اليوم تبعة الفعل الذي أتاه بالأمس ، ... ومن الوجهة الجمالية محال أن ينشأ في الأثر الفني جمال ما لم نلتمس في أجزائه وحدة تجعل منه كيانا واحدا، ... ومن الوجهة السياسية لا يستقيم أمر إلا إذا سلكت مجموعة من الأفراد في أمة واحدة، وقد تتداخل الوحدات السياسية، فما هو كل هنا قد يكون جزءا هناك، فالفرد الواحد كل من أجزاء، لكنه يعود فيكون جزءا واحدا من كل أعم وأشمل هو الأمة، والأمة الواحدة التي هي مجموع أفراد تعود فتصبح عضوا واحدا في وحدة سياسية أعم وأشمل وهلم جرا.
ومن أنواع الوحدة التي نوحد بها الأشتات لتستقيم لنا الحياة، وحدة التفكير التي نلتمسها عند الشخص الواحد أو عند الأمة الواحدة، لنربط بها وحدات فكرية صغرى تتفرق في موضوعاتها وفي وجهات النظر إلى تلك الموضوعات، لكنها على تفرقها وتباينها تنضم برباط لتكون حياة فكرية واحدة، وإلا لما تكاملت لأحد شخصيته الفريدة التي تميزه من سائر الأفراد ولا تكاملت لأمة خصائصها التي تفردها بين سائر الأمم.
Página desconocida