وقد انتهى الناس من التعصب الديني، وعرفوا أن التسامح في العقيدة الدينية هو خير ضمان للسلم والأمن، بعد أن قضوا مئات السنين في الحروب الدينية التي لم ترد أحدا عن عقيدته ولكنها بللت الأرض بالدماء وزادت الأحقاد والضغائن وأخرت الأمم ودمرت الحضارة، وصار الناس الآن تتسع صدورهم للاختلاف في المذاهب الدينية وباتت الحرية الدينية أساسا من أسس الحضارة.
ولكن الاختلاف في المذاهب السياسية قد أوشك أن يأخذ المكان القديم الذي كان للاختلاف في المذاهب الدينية، فامتلأت النفوس إحنا وضغائن كثيرا ما بعثت الأيدي المجرمة على ارتكاب الجرائم، وصار هناك نوع من الهوس السياسي يشبه ذلك الهوس الديني القديم حين كان يشعر كل إنسان أنه على حق، بل يحتكر الحق، وأن غيره من الخصوم على باطل، لا يعرف سوى الباطل، وليس هذا الهوس أو التعصب إلا دليلا على ضيق الصدر وقلة الثقافة؛ لأن الجاهل لجهله مناحي الفكر الأخرى يتعصب لفكرته ، أما العالم فلعلمه بها وتوسعا في الدرس يرى في نفسه من التسامح وسعة الصدر ما يمنعه من التعصب، والرأي السياسي عند العالم المثقف لا يعدو أن يكون رأيا يقبل التنقيح والإبدال، ولكنه عند الجاهل عقيدة راسخة لا تقوم على عقل ورؤية، فلتكن دعوتنا إلى التسامح وسعة الصدر للنقد، ولتكن أدواتنا التي نتوسل بها إلى ذلك زيادة المعرفة ونشر الثقافة بين الناس حتى لا يقتصروا على وجهة واحدة من الرأي تتجمد في نفوسهم فتصير عقيدة راسخة، بل نعمل على إضعاف روح التعصب بزيادة الثقافة بينهم حتى لا يرون ما للشيء أو للشخص فقط بل يرون ما عليه أيضا.
الفصل الحادي والخمسون
البذرة
«فلتكن تلك البذرة الحسنة أو القدوة الفاضلة للجيل القادم»
عند الألمان أمثولة تقصها الأم على ابنها، ويرويها الكبير للصغير كي تكون غرسا صالحا يلذ لهم ويوجه قوى الناس للخير والبر. يسمعها الصبي فتنطبع بذهنه، وتختلط بدمه وتتأصل في عناصره، فإذا شب عمل بها واتجه نحو الغاية المقصودة منها، والمثل الشائع بين الأمة كمثل الأمثولة التي تقص على الصغار للعظة والعبرة، كلاهما يدل على عقلية هذه الأمة وما تتشوف إليه. بل يكن معرفة طبائع الأمم وأخلاقها من أمثالها.
يقول الألمان في أمثولتهم: «إن سائحين كانا قد نزلا في قرية، فبينما هما قاعدان في خان إذا بنار قد شبت في القرية
فقال أحدهما: ليس هذا شأني.
ولكن الآخر نهض، وعدا نحو النار، فأنقذ بعض الناس وكثيرا من الأثاث، فلما عاد إلى رفيقه سأله هذا: ومن أمرك بأن تخاطر بنفسك لمصالح غيرك؟
فقال الرجل الشهم: إن الذي أمرني بهذا هو الذي أمرني بأن أدفن البذرة كي تنبت وتكثر.
Página desconocida