وما أحرانا بأن نتذكر ذلك في كل مناقشة أو جدال يحمل فيه أحد المتناقشين على خصومه بالسباب واللعن، فإن عندنا طائفة من الكتاب يبدو مما يكتبون أنهم لم يتعلموا اللغة العربية إلا ليصيدوا منها كل لفظة مفزعة يرمون بها خصومهم، حتى لينقلب الجدل بينهم إلى مهاترة تشبه المفاحشة التي تسمع من السفلة غير أن ألفاظها عربية وألفاظ هؤلاء عامية، ففي مثل هذا الجدل تكون الهزيمة أشرف من الانتصار.
ويجب أيضا ألا ننسي ميدان السياسة حيث يفوز الخطيب المفوه الذي يستثير عواطف الجمهور بما يخيله لهم من آمال كاذبة على ذلك السياسي الرصين الذي يسكن إلى الحقائق ولا يتطوح مع الأوهام، فإن مثل هذا الفوز لا يشرف صاحبه كما أن هزيمة الآخر لا تعيبه.
الفصل السابع والأربعون
المناقشات حول الأدب
كتب مدير جامعة شيكاغو مقالا جاء فيه قوله:
لما كنت طالبا في غوتنجن في ألمانيا كانت هناك جالية من الطلبة الأمريكيين الملتحقين بجامعتها، وكانوا منقسمين فئتين إحداهما تنوي درس اللغة الألمانية فقط والأخرى تنوي درس موضوع بعينه من المواضيع التي تدرس بالجامعة كالعلوم مثلا، فلما مضى علينا نحو ستة أشهر اتضح أن أولئك الذين قصروا همتهم على تعليم اللغة لم يعرفوا من اللغة الألمانية مقدار ما كان يعرفه أولئك الذين جاءوا لتعلم شيء آخر غير اللغة.
وأظن أننا نحن هنا في مصر نرى مصداق هذا الكلام، فأولئك الذين يختصون بدرس النحو واللغة والبلاغة والبيان ليست لهم تلك القوة على الأداء والبيان التي لأولئك الأدباء أو العلماء الذين يمسون موضوعات الحياة ويكتبون عنها، وهذا يدلنا على أن اللغة ليست موضوعا يدرس بذاته بل هي يجب أن تدرس عرضا بدرس موضوع آخر، وكذلك الأدب ليس سبيل التفوق فيه أن نعرف أقسامه وأساليبه وأصوله وفروعه، بل أن نعمد إلى الحياة ذاتها فندرسها كما هي في طبيعتها بحيث إذا كتبنا عنها لم نعد الحقائق الحية، وذلك أن موضوع الأدب هو حقائق الحياة، فأحسن الأدباء وأنفعهم للقراء ليس هو ذلك القادر على سرد قواعد اللغة والوقوف على ما فيها من ثروة لفظية يحفظها عن ظهر قلب وهو قابع في غرفته بين الكتب والأقلام، بل هو ذلك الذي يختلط بالناس ويدرس مسائلهم الاجتماعية والاقتصادية، يعرف كيف يعيشون وكيف يموتون وكيف يحبون ويكرهون؛ لأن موضوع الأدب هو الحياة التي إذا وقفنا على شيء من أسرارها تفتحت لنا أبواب المعاني وانقادت لنا اللغة في التعبير عنها. أما إذا أردنا أن نتعلم الأدب بدرس اللغة فإننا لا نخرج من هذا الدرس إلا بصورة حائلة عن أصلها ومسخ بعيد الشبه عن الحياة.
نكتب هذا بمناسبة المساجلات التي عقدت حديثا بشأن الأدب وهل يجب أن يكون مكشوفا أو مستورا، وهل الأدب العربي فيه ما يشبع الأديب المصري أولا، وهل يجب أن يكون المصريون القدماء أساس الثقافة أولا، وأيضا ما يقوم أحيانا من مناظرات عن كفاية اللغة العربية أو نقصها، ونحو هذا من الأبحاث التي تشبه وضع القواعد للأدب، وأنا أرى أن الأدب لا يثمر بهذه الأبحاث.
وإنما سبيلنا في الأدب أن ندرس الحياة من جميع وجوهها، لأن الأدب وصف الحياة ونقدها، والتوسعة فيها، بإظهار القارئ على ما يجهله من معانيها وإرشاده إلى الطريقة المثلى للمعيشة، فليست الغاية من الأدب أن نكتب ونجيد الكتابة الأدبية بل أن نعيش من المعيشة الأدبية؛ ولذلك فالقاعدة الوحيدة للأدب هي أن يطابق الحياة المثلى ويصورها، ولهذا يحتاج الأديب كي يبلغ هذه الغاية أن يدرس كل ما يتصل بالحياة من أنظمة اجتماعية إلى اكتشافات علمية إلى مضاربات فلسفية، ولهذا السبب فإن المحامي أو الصحفي أو الطبيب أو النجار الذي لم يشتغل قط باللغة أو الأدب يعرف منهما أكثر مما يعرفه أولئك الذين عنوا بدرسهما من الكتب والمعاجم؛ لأن هذا قد مس بضاعته ناحية من نواحي الحياة وباشرها ونفذت بصيرته إليها أما هؤلاء فلم يعرفوا من اللغة والأدب سوى نوع من التحنيط المعنوي، ومما يزيد صدق ما نقوله ونؤيد به قول مدير جامعة شيكاغو أنه ليس عند الإنجليز مجمع علمي، ومع ذلك فإن اللغة الإنجليزية الآن أوسع من اللغة الفرنسية ألفاظا والأدب الإنجليزي أغزر مادة وأوفرها مواضيع من الأدب الفرنسي؛ لأن الإنجليز بتعلقهم بالعلوم زادوا اتصالهم بالحياة فاتسع بذلك أدبهم، أما الفرنسيون فبإدمانهم الكلام عن الأدب وأصوله وقواعده ابتعدوا قليلا عن الحياة ورفعوا من شأن الصنعة، فصرنا نجد في أدبهم لذة الموسيقى دون الهداية التي نهتدي بها في الحياة، وخلاصة القول أنه كما يجب أن نجعل الموضوع وسيلة لدرس اللغة كذلك يجب أن نجعل الحياة وسيلة لدرس الأدب.
الفصل الثامن والأربعون
Página desconocida