ليس في العالم بلاد اشترك فيها الحظ الحسن مع الحظ السيء في تاريخها مثل بلادنا، فبينما نرى تاريخنا مجيدا عظيما في عصر الفراعنة أو الفاطميين نراه قبيحا حقيرا في عصر المماليك والأتراك، فإننا نقرأ الآن تاريخ هؤلاء ونعجب للعلة التي منعت الناس من قتل ولاتهم الظلمة مع أنهم كانوا فئة قليلة سافلة الأخلاق لا تستطيع أن تصبر على جلاد، ولكننا إذا تدبرنا الثقافة السائدة في تلك الأيام عرفنا علة هذا الخنوع للظلم في آبائنا ورددناه إلى أصله، وهو أنهم كانوا بحكم هذه الثقافة متواكلين يقولون بالخضوع لأولي الأمر والطاعة للسلطان، ونحن نحمد الأقدار الآن على ألا نخضع لأولي الأمر إذا خرجوا عن دستور البلاد، وأننا منذ سنة 1919 قد عرفنا أن في الثورة فائدة ترد الظالم إلى عقله وتنزع من الغاصب سلطانه، ولكننا ما زلنا ننظر إلى بعض شئوننا نظر آبائنا مدة المماليك، وخاصة في نظرنا إلى أخينا وأبينا وعمنا وابننا هذا الفلاح.
فقد كان المماليك أجانب عن البلاد، حمر الوجوه، زرق العيون، لهم في معيشتهم وأجسامهم نعومة مزرية، وكانوا ينظرون إلى الفلاح المصري كما ينظر الأبيض إلى الزنجي، يحتقرونه ويسخرونه لأعمالهم ويسرقون أمواله ويهتكون أعراضه من ناحية، ومن الناحية الأخرى يبنون المساجد والأضرحة له ويحبسون الأموال التي اغتصبوها على الأربطة، فكانوا في صلاحهم أشبه بالمجرم يساوم ربه على الحسنات والسيئات، يقيم الأولى حتى يستطيع أن يترخص في الثانية، ونحن وإن كان حكم المماليك والأتراك الفعلي قد زال من البلاد زوالا أبديا فإن حكمهم المعنوي لا يزال قائما في احتقارنا للفلاح والصانع؛ ولذلك فإن القرية المصرية، مع تقدم العمران في بلادنا وارتقاء أحوالنا الاجتماعية لا تزال كما كانت مدة المماليك أكواخا قذرة من الطين المجفف بالشمس، ولا تزال هذه الأكواخ خالية من مبادئ الصحة والنظافة، ليس فيها مراحيض أو مطابخ ويختلط فيها مكان الماشية بمكان الناس، وبينما ينفق بعض الأفراد في بلادنا ألوفا من الجنيهات في العام لا ينفق الفلاح أكثر من عشرة جنيهات هو وعائلته يعيش بها وهو في بؤس وقذر وفاقة لازمة.
وريفنا جميل تنبسط فيه الأرض بساطا أخضر يغذو العين بنضرته طول السنة، ولكن القرية المصرية تبدو فيه كالرمة البالية، كدرة غبراء وبيئة لا تنزح عنها الأمراض حتى إن الأجنبي الداخل لمصر يجزع لرؤيتها ولا يكاد يصدق أننا أمة متمدينة، ولقد زارنا ابن سعيد وهو شاب أندلسي مدة الأيوبيين، وهم الملوك الأكراد الذين حكموا مصر في القرن الثالث عشر، فما راعه شيء بعد جمال الأندلس مقدار ما راعه منظر القرى المصرية، حيث قال: «ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها ويضيق الصدر بضيق أوضاعها.»
ولابن سعيد الحق في أن يقول هذا القول عن قرانا، فقد نشأ في أوروبا بين القرى الأندلسية، ومن يعرف القرى الأوربية يجزع من رؤية قرانا ويهوله ما فيها من قذر وكدر، فإن القرية في فرنسا متنزه جميل قد كسيت شوارعها بالبلاط، وفي هولندا تغسل الفلاحة جدران بيتها بالماء والصابون، ولا تدخل الماشية من الباب الذي يدخل منه أهل البيت، ومعظم القرى تضاء الآن بالكهرباء، وإذا بلغ الفلاح سن الستين في إنجلترا نقدته الحكومة معاشا سنويا قدره 30 جنيها.
ونحن في مصر قادرون على كل ذلك، لا يمنعنا منه سوى التقاليد التي ورثناها عن المماليك والأتراك في احتقار الفلاح والفلاحة، وهؤلاء كان لهم العذر القبيح في أن الفلاح كان أجنبيا عنهم لا يتكلم لغتهم ولا هو ناعم البشرة أزرق العين مثلهم، ولكن كيف يقوم لنا نحن عذر وهو من لحمنا ودمنا؟
الفصل الحادي والثلاثون
قصيدة الحياة
أتاح لي الحظ الحسن أن أجالس عظيما إنجليزي المولد وطني العالم، عرضت معه تاريخ حياته فكانت كالقصيدة العصماء تخرج منها من بيت سري إلى آخر أسرى، وتجتاز بالموقف الشريف إلى موقف أشرف وأنصع، وهذا العظيم هو السير «ويلكوكس».
وحياة السير ويلكوكس قصيدة لا تتخللها أدنى ركاكة أو تفاهة عاش إلى الثلاثين في الهند، وكان يشتغل بالهندسة، وبشيء آخر لا يزال يشتغل به إلى الآن وهو يحبو إلى الثمانين، أعني به البر، فالسير ويلكوكس رجل يحترف البر منذ شبابه إلى الآن. كان وهو مهندس في القرى الهندية يعالج المرضى ويغسل لهم جروحهم بيديه ويحادثهم عن المسيحية ويحادثونه عن البرهمية، وهو لا يزال للآن ذلك الرجل البار القديم يعمل في أحد المستشفيات في القاهرة يخفف آلام المرضى وينفق من ماله القليل على أرواحهم وأجسادهم.
وهو مع أنه إنجليزي يؤمن بفائدة الإمبراطورية البريطانية، فإنه وقف موقف الخصم لحكومته التي اتهمته بالقذف والفتنة كي يدافع عن مصلحة مصر في مياه النيل، فهو إنجليزي بمولده ولكنه يدافع عن الحق ولو كان على بلاده.
Página desconocida