وهناك من الصغائر ما تكون له أكبر النتائج، فقد يقتل الجراح مريضه إذا لم يعن بصغائر العملية، وقد يشيد أحد المهندسين جسرا عظيما سرعان ما ينهدم لأنه أهمل النظر في شيء كان يبدو في غاية التفاهة، ولا بد أنك سمعت عن النار تشب من مستصغر الشرر، ولكنك لو أردت لسمعت عن ناس مرضوا أو ماتوا لأنهم دعوا إلى وليمة وكان الطباخ قد أهمل الآنية وطبخ وبها مقدار صغير من زنجارة النحاس، ولو أردت أيضا لسمعت عن خراب عائلات يرجع إلى عوائد صغيرة اعتادها رب البيت أو ربة البيت ما كان يظن أحدهما أنها كبيرة الأثر إلى هذا الحد.
وقيمة الصغائر العظيمة تبدو في الأعمال الفنية أكثر مما تبدو في غيرها، فالنجار الدقي إنما يتفوق ويمتاز بمقدار ما فيه من العناية بالدقائق التي إذا ما تجمعت صارت جلائل، والمصور الذي يتقن عمله يمتاز عن غيره أحيانا كثيرة بعنايته بالصغائر التي لا يعنى بها غيره.
وقل مثل ذلك في سائر الأشياء والأعمال التي يقرن النجاح فيها إلى العناية بالصغائر، فالأجانب مثلا يحتكرون إدارة الفنادق والقهوات في مصر ويربحون منها أرباحا جزيلة ما كان أحرانا نحن بأن نربحها لولا أننا لا نعني بالصغائر مثلهم، فإن النظافة التي يتسمون بها ليست في الواقع سوى عناية زائدة بصغائر لو نظرنا إلى كل واحدة منها على حدة لما وجدنا فيها كبير طائل، ولكنها إذا تجمعت وتراكمت صار لها قوة تجذبنا وتحببنا في الفندق أو القهوة أو المطعم.
والسيجارة الأولى التي يدخلها الشاب ليؤكد بها بلوغه طور الرجولة تبدو صغيرة غاية في التفاهة، ولكنها إذا صارت عادة تملكت صاحبها في سن الشيخوخة حتى لو حسب بعد ذلك ما أنفقه في التدخين لبلغ آلاف الجنيهات، والكأس الأولى التي يشربها الشاب مجاراة لإخوانه وإثباتا لرجولته وتمدينه قد تكون سببا بعد ذلك لخراب عائلته إذا تملكته عادة الإدمان، وكلتا العادتين تبدو صغيرة في أول نشوئها ولكنها عظيمة الأثر في النهاية، والإنسان حزمة عادات والعادة عمل نتهاون فنكرره فيتملكنا.
فاحرص إذن أيها القارئ على أن تكون عاداتك حسنة، واعلم أن ما من شيء تعمله وتظنه صغيرا إلا وله أثر في نفسك وفي مقدار نجاحك في العالم، فعود نفسك إذن على العناية بالصغائر سواء في الوقت أو المال أو العمل.
الفصل الحادي عشر
المرأة أساس الحضارة
روت الصحف الإنجليزية هذا الشهر حادثين غريبين لكل منهما مغزى يجب أن يفقهه القارئ المصري ويطبعه في ذهنه طبعا لا ينمحي، فالحادث الأول أن فتاة أميركية عبرت بحر المانش سباحة، وهذا البحر أو المضيق يبلغ عرضه 36 كيلو مترا وكان أبو الفتاة في زورق يشجع الفتاة على العبور، ونجحت الفتاة وانتصرت على الأمواج، وأخذت الصحف تنشر صورها معجبة بقوتها وجرأتها وثباتها.
هذا حادث، وذكرت أيضا حادثا آخر خلاصته أنه يموت في كلكتا - المدينة الشهيرة بالهند - نحو 10000 شخص بالتدرن كل عام، وأن نسبة الوفيات بين الجنسين هي ست من النساء إلى واحد من الرجال، وبعبارة أخرى تقول هذه الصحف إنه يموت بالتدرن في تلك المدينة العظيمة في كل عام نحو 8500 امرأة و1500 رجل، وعزت الصحف هذه الزيادة العظيمة في وفيات النساء إلى العادة المتبعة في الهند من حجاب المرأة ومنعها من الحركة والسعي واضطرارها إلى الانزواء في عقر دارها بعيدة عن ضوء الشمس، حيث تعيش في خمول ودعة لا تتحرك عضلاتها ولا ينشط دمها، ومثل هذه الحال داعية إلى تفشي مكروب التدرن في جسمها.
ومغزى هذين الحادثين هو مما يحزن له كل من يرغب في خير الشرقيين؛ لأن معناه أن الغرب يقول برياضة المرأة وأن الشرق يقول بخمولها، وأن نظرية الغرب هي نظرية الحياة والصحة والعافية والقوة وأن نظرية الشرق هي نظرية الموت بالتدرن والضعف والمرض.
Página desconocida