فإذا تألب عليه الصحاب تندرا وسخرية ومزاحا شهر عليهم هذا السلاح، وأسكتهم عنه بالبدء بنفسه والعدل في توجيه نقمته. ومن دلائل عدله أنه لا يطلق على أحد شبها من الأشباه إلا وافقه الحاضرون جميعا ما عدا صاحب الشبه؛ فإنه قد يمانع هنيهة ثم يلقي يد السلم، ويعترف «بالخلعة السنية» التي خلعت عليه.
أما المرجع الآخر فاحسبني أنا المسئول عنه من حيث أريد أو لا أريد، فإن عادة عندي - بل أقوى من عادة - أن أشعر بوحدة الخلق كله، وأن أنظر إلى جميع الأحياء كأنها تجربة واحدة تنجلي عن مقصد واحد، وإننا ربما فهمنا مقصد التجربة من مسوداتها الأولى قبل أن نفهمه من النسخة المنقحة المصقولة.
وإن كانت النسخة المنقحة المصقولة أجود في التعبير وأفصح في الأداء.
وما قرأت قط خرافات الأقدمين عن وشائج الأحياء، إلا خيل إلي أنها تنطوي على أكثر من خرافة أو لعبة خيال، وتساءلت قبل نيف وثلاثين سنة عن مغزى تلك الأساطير، التي تحكي عن أناس لهم أجسام آدميين ووجوه كلاب، أو مغزى تلك التماثيل التي تجمع بين أجسام الوحوش ورءوس الآدميين، فقلت من كتاب الفصول: «ما مغزى هذا الإجماع والتواتر؟ وماذا في طي هذا الاعتقاد بأن الإنسان يتحول أحيانا من هيئته إلى هيئة حيوان أدنأ منه، أو أن في عالم الحياة مخلوقا بعضه إنسان وبعضه حيوان؟ هذا شعور لم يرد إلينا من ناحية الحواس ولكنا لا نجهله، وصحيح أن الخيال مفطور على مزج أشكال الحس، وإلباس الموجودات لباس الإنسانية، ولكن لماذا فطر الخيال على ذلك؟ أكان يستحيل أن يفطر على غير هذه الفطرة؟ وهل لو خلق الإنسان من غير عنصره المعروف كان يتخيل هذا الخيال بعينه؟ ألا يجوز أن يكون مغزى هذا الإجماع والتواتر أن في جبلة الإنسان شعورا راسخا بوحدة الخلق، وتلاحم سلسلة المخلوقات شعورا أعمق من الفكر لا بل أعمق من الخيال نفسه، يتكلم باللسان فيكني ويلفق ويتكلم بالبديهة فيصرخ ويصدق؟ ولماذا ننفي وجود شعور كهذا يصل الإنسان على وجه ما بشيء من أسرار الحياة مع علمنا أن الإنسان قد اتصل بالحياة قبل أن يصله بها عقله وحواسه؟ أليس ترجيح وجود هذا الشعور أولى وأحرى بقدم العلاقة بين الأحياء والطبيعة؟ فلا يبلغن من قصور العقل ألا يصدق إلا بالعقل وحده، ولا يبلغن من ضيق النظر أن نقسر حواس النفس كلها على أن تنمو نمو الحواس الخمس، كأن الإنسان لا يتصل بالدنيا إلا بها، وكأنما الخيال ليس جزءا من الإنسان كما هي جزء منه ...»
وهذا الشعور الكمين لا أحسبه كان غائبا عني يوم نشرت خلاصة اليومية، وكتبت في تصديرها «إن الإنسان حيوان راق ولكنه لا يزال حيوانا» ويوم كتبت مجمع الأحياء وعقدت فيه مؤتمر الحياة بين الحمامة والأسد والنمر والقرد والثعلب والإنسان والمرآة وسائر الأحياء، ثم يوم رثيت كلبي بيجو وجعلته شاهدي على بعض المذاهب في التربية، والدراسات النفسية. فإذا كانت «حديقة الحيوان» فكاهة من فكاهات المجالس ، فليست هي من الفكاهات العابرة ولا من الفكاهات الرخيصة؛ لأن لها أصلا أصيلا من الجد بعيد القرار.
ونظر صاحبي إلى يمينه وأوشك أن يجفل جفلة الخوف؛ لأنه رأى هنالك تمثالي بومتين دقيقتين، يحفان بالساعة الصغيرة عن اليمين وعن الشمال، وقال: رب هذا من ذاك! ثم قال ترى لو دخل صاحبك ابن الرومي هذه الحجرة، ونظر إلى هذين التمثالين المخيفين؛ ماذا كان يصنع يا ترى؟
قلت: لا شك أنه كان ناكصا على عقبيه على الأثر، وإن كنت قد وضعت هذين التمثالين في موضعهما، وتحديت الشؤم كله لأجله هو جزاه الله.
لاحقه الشؤم في حياته وقل منصفوه بعد مماته، وضل معظم النقاد في أمره؛ لأنه من طراز غير الطراز الذي يقيسون عليه، فهو عندي - بغير خلجة من الشك - وحيد شعراء العالم من مشرقه إلى مغربه، ومن قديمه إلى حديثه في ملكة «الوعي والتصوير»؛ وهي أنفس الملكات التي يرزقها رجال الفنون، فلا يضارعه في هذه الملكة شاعر عربي ولا شاعر أعجمي، ولا يناظره فيها فحل من فحول التشبيه والتصوير في أدب اليونان والرومان، ولا في أدب الغربيين المحدثين، ولم أعرف بين أدباء الأمم الأخرى التي اشتهرت بدقة التشبيه - كأدباء الصين واليابان - من يجري في غباره أو ينسج على غراره، ومثل واحد يغني عن مئات الأمثال، وهو وصفه لحقل الكتان حيث يقول في بيتين اثنين:
وجلس من الكتان أخضر ناعم
توسنه داني الرباب مطير
Página desconocida