قال: أي رضوان وأي راحة؟ إنهم ليعذبون أبدانهم ويقدعون نفوسهم ويشلون أعضاءهم بمشيئتهم، فكيف ينشدون الرضوان والراحة بهذا العذاب؟
قلت: هل يعذبون أبدانهم إلا لأنهم راضون بهذا العذاب ومطمئنون إلى عقباه؟ وهل شاء الإنسان أمرا لا يشاؤه أو يختار أمرا لا يختاره، أو يرضى بأمر لا يرضاه؟
لعمري لئن لم يفتح النساك فتحا عظيما في جانب المعرفة، لقد فتحوا أعظم الفتوح في جانب الأخلاق، بل أقاموا الأخلاق على أوثق أساس حين علموا الإنسان أن رضوان النفس مطلب يهون في سبيله كل عذاب، وأنه لا جزاء أوفى من رضوانها، ولا عذاب أنكأ لها من سلب ذلك الرضوان، وأي فهم لمعنى الثواب والعقاب أكمل وأفضل من هذا الفهم، الذي لم يأت من جانب البحوث والفروض؟ لا عذاب للنفس أنكأ لها من شعورها بالنقص، ولا نعيم لها أنعم من شعورها بالرضوان، فكفى بهذا الفتح انتصارا في معترك الأخلاق، وإن لم ننسك كما ينسكون ولم نتعذب كما يتعذبون.
قال صاحبي: الحق أنني لم أشق في حياتي بشقاء أمر وأوجع من اتهامي لنفسي وسوء الظن بطويتي، ولو لم يكن هذا الشقاء أمر الشقاء على الطبيعة البشرية، لما تحصنت منه بحصن الغرور، وهو أعم الخلائق في البشر أجمعين.
قلت: إن الغرور هو الجوهر الزائف الذي نتحلى به كلما أعوزنا الجوهر الصحيح، وإنه على هذا لحصن مطروق لا يستعصم كل الاستعصام من ذلك الرقيب الحسيب. فربما اغتر الإنسان فكبرت قيمته عنده ولم يقنع بما دونها، فآلمه النقص وفاتته نعمة الرضوان.
ولقد قال اليونان قديما: اعرف نفسك، فإذا قلنا معهم: نعم، وارض عن نفسك أيضا بلغنا كمال العلم وكمال الأخلاق. ترى هل يطلب الناس أجرا؛ لأنهم يلبسون حلل الحرير ولا يلبسون الكرابيس؟ ترى هل يأكل الناس الطعام المريء اللذيذ، ويصدفون عن الطعام المسقم الخسيس لأنهم يخشون العذاب؟ فإذا عرفوا الكمال وعرفوا النقص، فهل تراهم يطلبون أجرا؛ لأنهم تجنبوا النقص وتعلقوا بالكمال؟ وإذا عرفوا صحة النفس، فهل تراهم يلتمسون الأجر على الصحة كما يلتمس الأطفال أجرهم على تناول الدواء؟ إنما الخوف من النقص هو أمر العذاب، والرضوان عن الكمال هو أحسن الجزاء، وقد يتعذب الإنسان في طلب الكمال وهو راض، وقد يرفض النعمة فرارا من النقص وهو لا يخشى العقاب، فارض عن نفسك وأنت في غنى بعد هذا عن الوعد والوعيد في نشدان الكمال؛ لأنك لا تحتاج إلى الوعد والوعيد لتستطيب ما أنت شاعر بطيبه ، وتنفر مما تعاف.
قال صاحبي: أكبر الظن أن «الذوق» هنا قد يغني ما ليست تغنيه المعرفة، أو تغنيه التقاليد والموروثات، وهنا يستوي الفن الجميل في مكانه إلى جانب المعرفة وإلى جانب الدين.
وكان صاحبي يداعب على القرب رفا أمامه يقرأ عليه عناوين الكتب في تماثيل اليونان، ومدارس الفن القديم والحديث، فما هو إلا أن طرأ اسم الفن الجميل على لسانه حتى تناول واحدا منها، ثم تناول ثانيا وثالثا ورابعا، وهو يقلب صفحاتها ويقابل بين صورها، ويقرأ سطورا هنا وسطورا هناك في التعقيب على تلك الصورة أو ذلك التمثال، ولم يفته أن يدرك ما أدركته الأجيال بداهة وارتجالا من ذلك الفضل السابق على جميع الأفضال في باب التماثيل: وهو فضل الإغريق الأقدمين. فراح يقول: صدق الذين أطنبوا في شأن هؤلاء الإغريق، ووصفوهم بأنهم تراجمة الطبيعة الصادقون في كل باب، ولا سيما باب التماثيل وباب التمثيل، فما يبصر الإنسان تمثالا إغريقيا إلا اتصل بصره بالطبيعة على بساطتها بغير حائل وبغير حجاب، وما يقرأ قصة من قصصهم المسرحية إلا اتصل بصره بالطبيعة كما يعيش فيها، وتسيطر عليها العناصر والأقدار.
واختطف كلمة في هذا الكتاب وكلمة في ذاك عن فن مريون وفيدياس وليسبس ومن تلاهم من المتخلفين، فإذا الفن أيضا مظهر لبروز الفرد الإنساني من الغمار الشامل إلى مكان التخصيص والتمييز، فالتمثال القديم نموذج للشكل والقالب والقوام يتساوى فيه كل ذي خلق سوي من الناس، ولكنه شامل عام لا تتميز فيه الملامح والتعبيرات ولا يتمثل فيه التخصص والانفراد، ثم تتعاقب صور الأفراد بروزا وتباينا حتى ينسى الناظر إليها النماذج الشاملة، ويتناولها بالتقسيم والتفصيل، ويظهر هذا في تماثيل العصور الإغريقية؛ لأنهم صدقوا وصف الطبيعة وصدقوا الشعور بها على السواء، وكأنهم حين يمثلون الأبطال الأقدمين يمثلون عناوين شتى لكل نموذج من نماذج البطولة، يصنع على غراره قالب باق وتتعدد منه أنماط متكررات.
ولم ينته صاحبي من تقليب تلك الصور إلا وهو يقول: فن جميل، نعم فن جميل. ولكن ما غناء الفنون الجميلة في عصرنا هذا عصر العلوم والصناعات! وأية أمة في عصرنا هذا تفرغ للفن كما فرغ له الإغريق، وعليها ذلك الإلحاح الدائم من حاجتها إلى العلم وحاجتها إلى الصناعة؟
Página desconocida