En tiempos de ocio
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Géneros
لم تجب باترا ولم تتحرك ولم يبد عليها من التغير إلا احمرار وجنتيها ودمعتان جالتا بعينيها ورعشة سريعة نمت عن تأثرها لحال خالد. فلما أعيته الحيلة صاح: حدثيني وإلا فاهجريني.
قال هذا وخر إلى الأرض صعقا كأنه بنيان تداعى فقطعت هي صمتها بالبكاء. ثم انهدت إلى الأرض ووضعت رأسها على ركبتها وجعلت تعول كأنها الطفل. فرجع هو يناجيها ويتودد إليها. وبعد لأي أجابت: إنما أتيت إليك طمعا في أن أنال منك الإذن بمغادرتك. لم يبق في قوس صبري منزع. إن ما أراك عليه من كثرة الفكر وسوء الحال يجعلني أشعر في أعماق قلبي بألم لا أطيق احتماله. وإذا لم يكن في عملي هذا ما يجب علي من الاعتراف بجميلك، فقد أبديت لك عذري عنه فسامحني.
كاد الرجل يجن لما سمع، وفي مآقيه الفانية ترقرقرت دمعة انحدرت على خده، ونم كل وجهه عن ألم عميق. - وكذلك تهجرينني يا باترا بعد إذ ربيتك وأحببتك حب الأب لابنته؟ ... ما أتعسني! هل هذا أجري عما سلف؟! كنت أمام عيني ملكة الوجود وملكة حياتي، وكنت أبدا أحبك وأعزك. أفيكون هذا جزائي منك؟ إن كنت قد صممت على الرحيل فأرجوك الانتظار يوما أو يومين علي أقضي نحبي أسى وأرفع عنك وزر الكفر بالنعمة.
قالت الفتاة: ما إنكارا لجميلك يا سيدي أريد أن أهجرك. لكن نفسي تتألم لأقل ما يصيبك. وقد رأيتك دائم الحزن، مكبا عليه، مسلما نفسك له، أضعاف ما أسلمتها من قبل للمسرة. فكأنك تريد أن تجمع في أقصر وقت أكبر حزن لتكون خالي الدين من هموم العالم وملذاته. وحزن كهذا لا طاقة لفتاة مثلي باحتمال مرآه.
قال خالد: وهل أتيت هذه الساعة لغير شيء إلا أن تخبريني أنك مفارقتنا؟ أحسب أن ثمت سببا آخر. - نعم. وذلك أني أريد أن تكون سعيدا لأقيم معك سعيدة. وأي نفس لا تحب السعادة؟ وأحسب أن في هذه الكتب التي عندك وتخفيها عنا سرا مكنونا هو السم الذي اندس إلى حياتك فأفسدها عليك وعلينا؛ لهذا أريد أن أصل إليها لأطلع سيدتي عائشة عليها. - ما أبلغ خطأكم. هذه كتب لا تنفعكم ولا تضرني. هي ككل الكتب نقرأ ما فيها قطعا للوقت واستعانة على الملال. ولو علمت أنكم تجدون فيها لذة لأعطيتكم إياها. لكنها تزيدكم ملالا وضجرا. وتجعلكم لحياتنا الحاضرة أشد بغضا.
هنا دخلت عائشة وقد سمعت طرف الحديث وعرفت أن باترا قد وصلت للب ما اتفقتا عليه، فرأت أن تشاركها وتتعاون وإياها على انتزاع هذا السلاح الخطر من يد أبيها المسكين. وما كادت تدخل حتى ارتمت إلى أقدامه قائلة: رحمة بنا يا أبت وأسلمنا هذه الكتب! وما دمت تراها لا تنفعنا ولا تضرك فذرنا نشترك معك فيها علنا نجد منها نحن أيضا بعض العزاء عن الوقت وطوله. ورب فتاتين مثل باترا ومثلي تستطيعان بعد ذلك إيصال المسرة إلى نفسك. فاسمح ولك منا أجزل الشكر. - إذا كنتما تلحان إلى هذا الحد فإني مطلعكما عليها جميعا. غير أني لا أرى ما دخل هذه الكتب في سعادتي وفي شقائي. ستجدانها جميعا كتبا قديمة جادت بها خيالات المتكلمين وأبحاث المفكرين في الحياة المستقبلة.
كان الوقت قد أمسى وهبطت كسف الليل تغطي الصحراء وتشتمل الواحة الصغيرة في رداء الظلمة. ففضل خالد أن يقوموا إلى داخل الدار اتقاء طقس الليل وسوء أثره على صحته.
وساروا يتوسط العجوز الفتاتين وهما في اللباس الأبيض ملكان يسريان يحملان على أجنحة من الخيال والوهم هذا الخالد الفاني يريدان نقله من سعير الشك إلى جنة اليقين والشباب. ووجد هو في جوارهما ذكرا حلوا، وسرى إليه من أجسامهما الشابة تيار أنساه شعوره البيضاء وتجاعيد جبينه، وأنساه الكتب والمتكلمين واللاهوت والناسوت ... وبعد لحظة صامتة قضاها ذاهبا في أحلامه قال في بطء وسكون: ما أحلى هواء هذه الساعة. إنه ليبعث للنفس السرور ويشرح الصدر الحزين. إنه شفاء لكل دواعي الشجن. اقتربي مني يا باترا وضعي يدك في يدي. وأنت كذلك يا عائشة. ادنوا مني وحدثاني. ابعثا بنغمات أصواتكما العذبة على أوتار هذا الهواء الرقيق ما يرسل إلى قلبي العجوز بعض ذكرى الشباب الذاهب. ألا تريان في هذا السكون الصامت المحيط بنا، وفي هذه الرمال الفسيحة الممتدة حولنا، وفي عزلتنا الهادئة المنقطعة ما يؤسي قلبي الكليم أدماه الناس بلؤمهم ونفاقهم. ألا ما أحوجني للوحدة والسكون وللطمأنينة والراحة. تكلما يا فتاتي.
وساد بعد كلام خالد صمت ظل زمنا، ثم قالت عائشة: أتذكر يا أبت موت أمي. ما كان أرقها وأحناها. - نعم عائشة أذكره. ولعله بعض السبب في هجرتي المدن والناس. ألا إن نعمة النسيان لأعظم نعمة. لو بقي قلبي فيما كان فيه من هم يوم فارقتني ومد لي مع ذلك في الحياة إلى اليوم لما رأيتما لعيني دمعة ترقأ، ولظل قلبي دائم الخفقان حتى يصيبه الوقوف الأخير. لكن سير الوقت يأسو الألم وتقادم العهد يبرد اللوعة. هما مرهم الجرح وطبه. هما دواء وشفاء. يقذفان بنا إلى المستقبل ويحجبان عن عيوننا الماضي. وفي هذه اللحظة الذاهبة الباقية التي نسميها الحاضر يتركان لنا الذكرى عزاء وتعلة. نعم أذكر موتها يا عائشة. وموتها هو الذي أخرجني من نعمتي وسعادتي وجعلني أهيم بما بعد الموت. ولو أنها صبرت لنموت معا لبقيت فيما كنت فيه من قبل من سعادة وعماية ... ولكنها ماتت وتركتني فريسة للشك واليأس. وهأنذا اليوم أتقلب على أشواكهما وكلي الأمل في أن يأتيني اليقين. ولعلي أجد فيه ما يردها إلي بعد موتي لنستعيد من جديد ذاهب سعادتنا.
بلغوا الدار ودخل العجوز إلى مخدعه وجلس على سريره. وكأن هواء المساء وجهد الحديث قد أشعراه بالحاجة إلى الراحة والسكون، أو هي ذكرى زوجته في العالم الآخر قد أشعرته الحاجة إلى الوحدة. فأهدى الفتاتين التحية وطلب إليهما أن يتركاه، ونادى - كعادته - بالخادم حمزة ليكون على مقربة منه الليل كله. فلما كان الصباح ذهب حمزة فأيقظ سيدته عائشة وقال لها: لقد قضى سيدي ليلة مملوءة بالأحلام. وكثيرا ما سمعته في أحلامه يذكر اسم سيدتي المرحومة أمك. ولما تبدت نجمة الصبح من خلال النافذة انقطعت أحلامه، وبقي ساعة مستغرقا في نوم عميق. ثم هزت جسمه رعشة فتح معها عينيه ونادى باسمك. وبعد فترة كرر النداء. فرأيت أن أدعوك إليه.
Página desconocida