En tiempos de ocio
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Géneros
وهذا الوسط هو الذي أحاط بمن نزل وادي النيل من قرون القرون، وهو الذي خلق الموجودات والناس ممن عاشوا فيه، ولم يؤثر فيه الناس ولا الموجودات إلا أقل الأثر.
فماذا عسى تكون الخلائق التي أوجدها؟ وماذا عسى يكون أثره فيهم؟ (1-2) الوسط الاجتماعي
لسكان وادي النيل مميزات خاصة امتازوا بها منذ القدم؛ مميزات في أنظمتهم الجسمية، ومثلها في أنظمتهم الأخلاقية والعقلية، وكلها خلق ذلك الوسط الطبيعي الذي يعيشون فيه. فكما أن طقس بلادهم طقس هادئ دائم السكينة قليل الغير؛ كذلك تلمح في وجوههم أثر السكينة الهادئة المطمئنة، وتلاحظ في أخلاقهم الاستسلام والعيش في الحاضر، وترى في تفكيرهم خلودا للماضي وعدم ميل للتغيير. هم يعيشون على نحو ما عاش آباؤهم، خلا أماني تجول برأسهم قد يتغنون بها أحيانا إذا ساعدهم الوقت على التغني، كما يتغنى الطائر ما دام الصيف وما أسعده الدفء، فإذا جاء الشتاء أسكته.
كذلك إذا تغيرت الظروف انكمش المصريون ونسوا أغنياتهم، ورجعوا إلى عيشهم الأول مكتفين من الحياة بحرث الأرض وبإنتاج مواد الرزق وما تستلزم المعيشة.
وهذا هو سبب ما نرى في التاريخ من تقلب الولاة والحكام الأجانب على هذه الديار، من غير أن يدفع أهلها لمناوأة حاكم ملكهم دافع، بل لقد بقيت الأسرار الفرعونية تتوالى واحدة بعد أخرى وليس من بينها أحد من سكان الوادي الصميمين. وهؤلاء السكان أبعد ما يكونون عن التفكير في إسقاط أسرة أو الطمع في الاستيلاء على العرش، ويبقى الحاكم متربعا في دسته آخذا بيده النهي والأمر؛ حتى يجيء سواه من جنسه أو من جنس آخر فيستعين عليه بالقوة أو بالدهاء حتى يسقطه ويأخذ الحكم مكانه. والمصريون ينظرون لذلك كله بعين مطمئنة، وقلب إن جالت به بعض الوساوس، فإنها لا تخرج إلى أكثر من الهمس الذي يزول يوم ينكشف النزاع بين المتجادلين. وأي منهما غلب كان صاحب الحكم وصاحب الحق على عرش وادي النيل وصاحب الرعاية على سكانه.
وعجيبة قوة الوسط الطبيعي للوادي في إخضاع من يقيم فيه لسلطتها، فلا يلبث الحاكم القديم أن يتدرك إلى ملابسة الناس من أهل الوادي ومخالطتهم، والعيش بينهم، حتى تداخله وتداخل أبناءه الأخلاق الخاصة التي امتازت بها الطبيعة. فهو سرعان ما يميل إلى الاستسلام للطمأنينة والأخذ في طريق الحياة الساكنة القانعة من العيش بما تنبت الأرض وبما يرزق الله؛ لهذا لم نر أسرة من الأسر بعد إذ غلبت على أمرها كونت لنفسها حزبا تناوش به من بزها عرشها سعيا وراء استرجاع ذلك العرش، اللهم إلا في ظروف نادرة ولوقت قصير.
ولقد كان من أثر هذه العوامل الرئيسية أن زادت في ذلك الاستسلام الطبيعي الموجود في النفس المصرية، فاصطبغ كل ما دخل إليها من الأخلاق والعقائد بصبغته، وأصبحت قواعد الأديان التي توالت على أرض مصر مرتكزة على أساس الجبرية والإيمان، كما امتازت الأخلاق المصرية بالسكون إلى حكم القضاء. ولم يكن من صالح الحكام المتعاقبين تغيير شيء من ذلك كله، فانغرست تلك الصفات وتأصلت ووصلت إلى حد الجمود.
لذلك كله كان واجب المصلحين في هذه الديار أشق وأتعس ما يتصور.
كان قاسم أمين والوسط الذي عاش فيه تحكمه كل هذه الصفات، ولكن كان إلى جانبه حركة اجتماعية جديدة قامت على أثر الحركات المتوالية التي تعاقبت على مصر في القرن الأخير.
حركة حرة قامت على أساس فكرة الإصلاح متأثرة بما حصل في البلاد في سنتي 1876 و1882، وبما عقب ذلك من أوجه الإصلاح الاقتصادي والنهضة الشابة العلمية التي أخذتها بيدها حكومة ذلك الوقت. وأعان هذه الحركة الإصلاحية الحرة على البقاء والتقدم المركز الخاص الذي وجدت فيه مصر بعد سنة 1883، والذي أدى لوجود حكم البلاد في يدين متنافستين تنافسا سمح بازدياد الحرية الفردية، وترك للأمة أن تبدي على الملأ ما كان يجول بخاطرها من الأماني، متأثرة في ذلك بما ورد إليها من نظريات الغرب الذي كان قد بدأ يهتم لها اهتماما خاصا لما خلقه لها قنال السويس من المركز الخاص.
Página desconocida