1
فكان مما قلت فيها عن: (1) إقليمية الأدب «منذ اقتبس المتصلون بالغرب هذا النمط من الدراسة التاريخية الأدبية، ووجدوا الغربيين يقسمونه إلى عصور لها وحدة اجتماعية واضحة؛ قسموا تاريخ الأدب العربي الإسلامي إلى عصور زمنية؛ مجاراة لمن أخذوا عنهم. واستقرت قواعد هذا التقسيم يقفي فيها الخلف على آثار السلف، في أكثر من طبقة، ولم ينلها تغيير إلا ما كان أخيرا من إنكار دوران تاريخ الأدب، رفعة وانحطاطا، مع العظمة السياسية والضعف الحكومي؛ فعدل تقسيم العصر للعباسي تلافيا لذلك، وظل هذا التقسيم الزمني يجعل دمشق ثم بغداد مركز تاريخ الأدب، ويدير عصوره حول رفعة هاتين العاصمتين وسقوطهما، وكأن هناك وحدة تامة شاملة للأمة الإسلامية أو العربية تتعرض بها لظروف واحدة، ومؤثرات متحدة، تتغير بها تغيرا متسقا مطردا، مظهره الوحيد هو النفوذ السياسي والسلطان الحكومي، الذي يمثل وحدة التدريج الاجتماعي فحسب.
وهذا الصنيع نستطيع أن نسميه خطأ، ونطلب بل نسعى إلى إصلاحه، وذلك أنه إن كانت الأمة الإسلامية المنبثة من بحر الظلمات - الأطلنطي - غربا، إلى سور الصين شرقا، ومن مجاهل آسيا وأوروبا شمالا، إلى ما يسامت جنوب أفريقيا، قد اكتملت لها وحدة سليمة ذات مزاج أدبي واضح، وكونت جسما قامت منه العاصمة في الشام طورا، وفي العراق تارة، مقام القلب من الجسم، وكانت مجمع النشاط ومحور الحياة. إن كان ذلك فإن لسائر أجزاء هذا الجسم عملها في هاتيك الحياة، ومشاركتها في ذلك النشاط، ولكل إقليم منها طابعه الخاص فيما يحمل عنه إلى دار الخلافة، وينتقل ولا بد إلى قاعدة الدولة. وإذا ذاك لا يهون فهم حياة هذا القلب دون فهم أجهزة الجسم المختلفة، ولا يتيسر إدراك حقيقة هذا المزيج إلا بعد إدراك بسائطه عنصرا عنصرا.
وإن كانت الأخرى، ولم نفرض تماسك هذه المملكة الإسلامية المترامية الأطراف، تماسك الجسد الواحد، بل قدرنا في دقة، أن هذه الأمة الإسلامية - في حقيقة الأمر - ليست إلا خليطا غير تام التجانس، خليطا لم يصبر طويلا على التوحد المركزي حتى في السياسة، بل بدأت تتشعب منه الدويلات المستقلة منذ عهد مبكر، وفي عنفوان قوة الدولة المركزية، وكانت مصر مثلا من أسبق هذه الدولات ظهورا؛ إذ تحيزت وحدها لعهد الطولونية في القرن الثالث الهجري. فإن قدرنا أن هذا هو الذي كان إذ ذاك؛ فليست للأمة الإسلامية في كل حال تلك الوحدة المدعاة في تاريخ الأدب العربي، وليس من اليسير تقسيم هذا التاريخ عصورا زمنية لا غير.
ولئن كانت المدرسة الأدبية قد حملت أخيرا على الفكرة السياسية، ورأت من الخطأ أن يقصر تدرج الأدب على تقلبات السياسة وحدها؛ فلقد كان يجب أن تنظر إلى أبعد من ذلك المرمى، وأوسع من ذياك الأفق، فتتحرر من الخطأ المكاني في تاريخ الأدب كما تحررت من شيء من الخطأ الزماني، بل لعل التحرر من الخطأ المكاني كان أولى وأهم - فيما أرى - لأن هذه الوحدة التي يدعونها للناطقين بالعربية، وهذا الامتزاج التام بين أقطار مترامية البعد، من الشرق النائي إلى الغرب الأقصى، وبين أمزجة متباينة الخصائص، من آرية وسامية وغيرها، وبين ألوان مختلفة من بيضاء وصفراء وسمراء، وبين حضارات متفاوتة من قديمة أزلية؛ قد ذهب عرقها في أغوار الدهر، إلى حديثة غضة، إلى ما بين هذين من درجات متغايرة. هذا الامتزاج الغريب لا يسهل قبول ادعائه، وهذا التوحيد الشاق على الدهر نفسه لم يكن ليتم بمجرد أن يحكم كل أولئك بدولة واحدة، أو ببسط سيطرة سياسية، أو نفوذ حكومي واحد.
والعجب أن دارسي الحياة الإسلامية الفكرية يرون اختلاف الأقاليم في المقالات الاعتقادية والآراء الدينية، ويشهدون توزع المذاهب الفقهية العملية المختلفة، على تلك الأقطار، إلى غير ذلك من مظاهر التخالف التي يقررونها في صور متغايرة وألوان شتى، ثم لا يلتمسون مثل ذلك في الفنون الأدبية وتاريخها، مع أنها أشد خضوعا لعوامل المغايرة، وأسباب المخالفة من تلك الآراء الاعتقادية، وهاتيك المذاهب العملية.
وعمل هؤلاء الدارسين لتاريخ الأدب على نظام العصور الزمنية، متناقض متدافع؛ فهم حين يزعمون أنهم يدرسون تاريخ الأدب في عصر من العصور، إنما يقصرون جهدهم العملي على بيئة واحدة من تلك البيئات المتعددة التي غشيتها اللغة العربية، ونشأ فيها أدب عربي. فيعنون بالعراق وما حوله من الشرق القريب مثلا، حتى ليجدوا في أنفسهم الحاجة الشديدة إلى أن يفردوا بالبحث أقاليم أخرى، يدركون بعدها واضحا كالأندلس مثلا. وما المغرب، أو أقصى المشرق، بأقل حاجة إلى الإفراد بالبحث من الأندلس، بل إن مصر تحتاج إلى مثل ذلك الدرس المفرد تماما إذا ما أنصفنا.
وأخيرا - بل أولا كذلك - نحن نرى العلم يقرر أثر البيئة فعالا عنيفا ينازع الوراثة أثرها، فكيف يريد علماء تاريخ الأدب أن ينسوا أو يهملوا تأثير البيئة؟ وكيف يريدون أن يجعلوا هذه الدنيا العريضة التي حكمها الإسلام، وسكنتها العربية، بيئة واحدة؟! ذلك ما لا قوة لمنصف عليه.
فالرأي الصائب أن يعدل مؤرخو الأدب عن توزيع دراسة الأدب العربي الإسلامي على عصور زمنية، وأن يقدروا الأثر القوي لكل بيئة نما فيها أدب عربي، وأن يتتبعوا هذا الأثر بالدرس المستقل، وأن يدرسوا العربية في المواطن المختلفة التي نزلتها، موطنا موطنا، فيكون أساس التقسيم هو اختلاف البيئة وتغايرها، ووحدة المؤثرات المادية والمعنوية فيها - وإن لم يسر ذلك مع التقسيم المتعارف عليه للأقطار والبلدان - بل تفرد كل بيئة متجانسة بدرس خاص، لا كل قطعة من الزمن ببحث.
ولقد تكون حول نظرية «البيئة في تاريخ الأدب العربي» وفكرة التقسيم المكاني له، مناقشات أو اختلافات، أرجع إلى استيفائها في غير هذا المقام،
Página desconocida