يا أصحاب العروبة المتحكمة، ويا أصحاب الفرعونية المزعومة، ثم يا أصحاب أمثال هذه النزعات في الأقاليم المختلفة، إنما ندعو إلى الوحدة البيئية، والشخصية الإقليمية التي مزجت عناصرها كف الرحمن، وألفت أجزاءها سنن الكون، فكانت كائنا موحدا مهما تتعدد عناصره، وتتنوع أجزاؤه، قد حفظت له البيئة وطبيعة الإقليم ووحدة التاريخ شخصيته الواضحة، وكيانه الثابت. فحق على الذين يفهمونه ويدرسونه أن ينظروا إليه في هذا الكيان وتلك الشخصية، من أجل ذلك قلنا إننا إنما نتحدث عن الأدب المصري، وندرس الشخصية المصرية، والمزاج المصري، وهي الشخصية الواضحة، والمزاج المتميز، مع ما يطرأ عليه من عوامل المخالطة والمصاهرة، والمفاجأة والمداخلة، فيتمثل ذلك ويتغذى به، كما يتمثل الحي ويتغذى بما يدخل جسمه من ألوان الغذاء، وعناصر النماء؛ ليحفظ بها شخصه ووجوده. وإن تأثر بشيء من ذلك، فهو التأثر الذي يستطيع الفاحص تبينه ووصفه وتدوينه، في حياة كل أمة، وشخصية كل جماعة عرف لها طابع، وادعيت لها شخصيته وكيانه.
إذن نحن إنما نتحدث عن مصر والمصرية، بما ائتلف من هذه المصرية في فعل الزمن بعناصر تداخلت، ودماء تمازجت، وقوى تواصلت، فرعونية كانت وغير فرعونية ، من شرقية عربية، أو سامية، وغربية يونانية، أو رومانية. ولسنا دعاة عنصر من هذه العناصر وحده دون غيره، ولا المتعصبون للون من هذه الألوان وحده دون غيره، فإنا نذكرهم بأن وجود غيره مبطل لدعوى توحده، ومشاركته غيره مفسدة للتمسك بتفرده، وأصحاب الفرعونية في إنكار ما بعدها مبطلون، كإبطال أصحاب العروبة في إنكار ما قبلها سواء بسواء، ولا فضل لواحد منهم على صاحبه في حساب المنهج المحدد وأسلوب الدرس المنصف، كلهم غير صائب. •••
وإذن فالأصل الذي بنيت عليه فكرة الإقليمية يبطل بذاته وجوهره دعوة الفرعونية، ومثلها من الآشورية والفينيقية والبربرية، ويبقى بعد ذلك أننا حين ندرس هذا العصر الأخير والدور المماثل في حياة أمة من هذه الأمم، التي اتصلت بالعروبة فتركت لها العروبة لغة وفنا نقلت إليها دينا وتقاليد؛ لن نستطيع إنكار هذه الصلة الشاهدة القائمة التي نجمع مواد درسها ونقف جهدنا عليها. وقبل الآن قلت إن الذي ينكر مصرية مصر تكذبه أهرامها وما إليها من سواطع ماضيها، والذي ينكر عروبة مصر يكذبه لسانها، وتنادي على خطئه مآذنها. مصر إذن ليست إلا هذا كله، قد ألفت منه بيئتها وشخصيتها وذاتيتها. «فإذا لزمتم بيئتكم؛ فما حول الأدب - ثم الأدب - ثم تاريخ الأدب».
وإذا أدرك كل قبيل أنهم من بيئتهم منذ أول الدهر، وقد ربطهم القدر بها، وكتب تاريخهم فيها، حتى ما تفهم صلتهم ببعيد عنهم، أو قريب لهم، في خارجها إلا على هدى من تاريخها، ونور من ماضيها، فلا بد إذن من أن يرتبط كل درس لحياتهم في جوانبها المختلفة بهذه البيئة، التي توجه بواقعها الطبيعي المادي حياتهم، وتلون بهذا الواقع المادي كل نشاط معنوي لهم فيها.
وعلى أساس ما بينا من منهج مصحح، تدرس الحياة الأدبية في كل بيئة من البيئات المتميزة المنحازة، من حيث هي جانب من حياة العربية بعد الإسلام، إن يتفق مع سائر الجوانب والنواحي، فإنه لا بد أن يمتاز ويختص بشيء له في اللغة وأدبها وفنها، ما دمنا إنما أقمنا تقسيم البيئات - كما كررنا ذلك مرارا - على أساس من الفواصل المادية والفوارق الفطرية.
وتتوزع هذا الدرس وحدات جيش المعرفة في البيئة، فإذا ما ذهب أهل الأدب والتاريخ الأدبي ليدرسوا تلك الحياة الأدبية، على الأسلوب الدقيق الذي وصفناه قبل الآن - فيما ناقشنا من أمر المنهج الأدبي ونظمه قديما وحديثا - وجب أن نبدأ هذه الدراسة بالنظر فيما سميناه «ما حول الأدب»، أو «ما لا بد منه لفهم الفن الأدبي».
وإذ ذاك يجب أن تقوم بهذا الدرس الوحدة المختصة به، وأن يلتمسه أصحاب الأدب عند أهله كاملا دقيقا، مفصلا عميقا. ففيما حول الأدب يجب أن نعرف الشعب الذي سكن تلك البيئة عن طريق دراسة جنسية شعبية مفصلة، وندرس البيئة المادية دراسة إقليمية مفصلة كذلك، على أن نطلب ذلك كله عند أصحابه، والمتفرغين له، من المتصدين للدراسة الجغرافية وما إليها، لا أن نقوم به على صورة ناقصة وتناول قاصر؛ لأن أصحابه الأولين قد شغلوا عنه بغيره من دراسة أوروبا وأمريكا، في انصراف عن الواجب القومي، الذي ينبغي أن يحكم في البرامج والدراسات، لتكون كلية الآداب في مصر مصرية لمصر قبل كل شيء آخر، بل دون شيء آخر لو أمكن ذلك.
وفيما حول الأدب يجب أن نعرف البيئة المعنوية في مظاهرها المختلفة التي بيناها في الخطوة الثانية من معالم المنهج، فتعرف أكثر ما يمكن أن يعرف عن الحياة العلمية في فروعها المختلفة. فالحياة الفنية في ألوان الفنون المتعددة، والحياة الاجتماعية بأوسع ما تشمله من نشاط المجتمع، فرديا، أو أسريا، وجماعيا، واقتصاديا، أو سياسيا وعمليا ... إلخ. على أن نطلب ذلك كله كذلك عند المختصين به والمتفرغين له، من أصحاب الدراسة التاريخية وما إليها، لا أن نقوم به نحن بصورة ناقصة، وتناول قاصر، كالذي وصفناه في الدراسة الجغرافية؛ لأن أصحابه الأولين قد شغلوا عنه بغيره من دراسة، أو قد تناولوا منه جوانب وأهملوا جوانب. فإذا ما تيسر لطلبة الأدب أن يقصدوا إلى قسم الجغرافيا وإلى قسم التاريخ وإلى غيرها من الأقسام، أو أن يتفضل عليهم أساتذة هذه الأقسام، بما فيه وفاء حاجتهم من هذه المواد التي لا بد منها ليستطيعوا التقدم إلى فهم النصوص الأدبية، التي هي - كما قلنا - لون من الفنون لا تفهم إلا بعد فهم ما سواها؛ إذا ما تيسر ذلك كانت الكلمة للواجب القومي، وكانت المنفعة العلمية الموجودة قريبة التحقق.
وبعد الإلمام بهذا يتقدم أصحاب الأدب لفهم النصوص الأدبية بعد جمعها المستوعب الشامل، على أن يتأثلوا ما لا بد منه لهذا الفهم من خبرة بالنفس الإنسانية، يلتمسونها كذلك عند أهل هذه الدراسة المختصين بها، وهنا نشعر أنه لا بد أن يدرس قسم الفلسفة دراسة نفسية وافية، يكون من بين فروعها علم النفس الأدبي، الذي وصفنا ما نحتاج إليه منه، في الحديث عن البلاغة وعلم النفس، أو الأدب وعلم النفس، والتفسير وعلم النفس، فإذا ما ظفروا بذلك كله على وجه مرض من مقاومة وحدات الجيش العلمي، كان العنصر نصيب هذا الجيش المتماسك الموحد، الذي يصوب إلى هدف واحد، هو رفع مستوى حياة وطنه وإقليمه الذي هو أعرف الناس به، وأقدر الناس على فهمه، وأعظمهم واجبا أمامه، وأوفاهم بحقه عليه.
ومن فهم الأدب بهذه الوسائل كلها استطاع بلا مراء أن يؤرخ الأدب هذا التأريخ المرجو، الذي حدثنا عنه من قبل، فوصف سير الحياة الأدبية، وأثر النواميس الكونية فيها وصفا دقيقا صحيحا جديرا بأن يسمى تاريخ الأدب، ويقسم أقساما وأدوارا على أساس مفهوم سليم، لا يؤخذ عليه شيء مما أخذناه على التقسيم الزمني السياسي الذي لا وجه له، ولا دلالة فيه، إلا على أيسر العوامل تأثيرا في حياة الأدب والأدباء. •••
Página desconocida