ثم أليس من الدخل الغاش أيضا أن تكون هذه الأشياء لم تؤثر في الحياة الإسبانية العامة التي ورثها الإسلام وقام على آثارها؟! وكيف يقول مؤرخ إن إسبانيا القرطاجنية، أو التي استعمر جوانبها القرطاجنيون لم تتأثر بهم، أو أن إسبانيا الولاية الرومانية لم تتأثر بالعصر الروماني، أو أن إسبانيا الرومانية لم تتأثر بالعصر الروماني، أو أن إسبانيا القوطية لم تجد أثر هذا العصر القوطي في حياتها عامة، وإسبانيا التي تلونت بذلك كله، لم تجد أثر هذا كله في تاريخها؟ لعل القائل لا يعنيه أن ينكر ذلك، وإنما ينكر أن يكون هذا الأثر قد وصل إلى الحياة الإسلامية العقلية، التي خلفت على كل ما كان من هذا، وهي دخيلة أخرى مريضة؛ لأن ما وصل إلى إسبانيا التي ورثها المسلمون، لا يمكن أن ينفي وصوله إلى المسلمين، الذين خلفوا عليه، واتصلوا به، وتقلبوا فيه، وتمثلوه. وقد وصلت الآثار الإسبانية بجلاء إلى الحياة الإسلامية، على اختلاف ألوانها في هذه البلاد، ما في ذلك شك، ولا يلحقه إنكار، إنه الناموس الحق.
ومن الدخل الذي يأباه العلم - وإن بدا في حساب الأديب غير المتثبت سهلا - ما في هذا النص من «أن تأخر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على أن تندثر هذه المدنيات دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية.» فإنه لن يهون في رأي العلم وحكم الواقع أن تقوم مدنيات واضحة الأثر، طويلة العهد في إقليم من الأقاليم، ثم تمحى آثارها أو تنعدم، حتى ما يبقى لها في خالف الأجيال أثر مهما يتباعد بها العهد أو يتراخى الزمن. وإن العلم الذي يقدر أن الإنسان يتقلب في مختلف الأدوار التي تطورت فيها الحياة الحيوانية، ويمثلها في تكونه الجنيني، لما أبت تلك الأدوار من أثر في حياته، مع ما بينه اليوم وبينها من ملايين السنين. وإن العلم الذي يرتقب الوراثة البعيدة بعد الأجيال الطويلة، ويرصد آثارها في الفرد منحدرة إليه، من أجداد بينه وبينهم عقود السنين المتباعدة، والعهود المتمادية. وإن العلم الذي لا يزال يرى اليوم بعد آلاف السنين آثار حياة الغابة في إنسان المدينة، وإن العلم الذي لم يؤمن بعد بالفناء، ولم يسلم بالاندثار. هذا العلم هو الذي يعرف نواميس الحياة، ويجبر التاريخ حين يسجل ظواهر هذه النواميس على أن يكون علميا دقيقا غير متهاون، ومن هذا التاريخ المسجل لنواميس الحياة المنضبطة بالسير الدقيق، تاريخ الآداب والفنون. فلا سبيل لهذا التاريخ إلى التهاون والتساهل، وإلقاء القول على عواهنه، والارتياح إلى أن مدنية كالمدنية الفينيقية، أو أخرى كالمدنية الرومانية، وعهدا كالعهد القوطي، قد اندثر من الحياة الإسبانية، ولم يصل أثره إلى الحياة العقلية الإسلامية فيها؛ لأن النهضة العلمية والأدبية بها قد تأخرت إلى القرن الرابع الهجري!
وفرق جلي بين ما لا يرى، وما لا يكون. فما لا يرى وما لا يعرف، ليس هو ما لم يكن ولم يوجد. فلو صحت العزمة على شيء من الدقة وتقدير المسئولية؛ لشق على القائل هذا الاطمئنان إلى تقرير أن أثر تلك المدنيات لم يكن ولم يوجد. على أننا لم نقم بشيء من الدرس الصحيح، بل لم نقم بشيء من التهيؤ الصحيح لدرس الحياة الإسلامية في الأندلس، عقليا وعلميا وأدبيا، حتى نقول إننا نظرنا فلم نر، وحاولنا فلم نجد.
وإذا جاوزنا تلك الملاحظات العامة لننظر في أصل الفكرة التي يردون بها الإقليمية، وهي وحدة التراث الأدبي العربي في الفنون والموضوعات والمعاني والتناول، وجب أن نلفت أصحاب هذا القول إلى أن الحياة الأدبية الإنسانية، بأوسع آفاقها، وأبعد ظواهر اختلافها، فيها وراء ذلك نواح للتوافق والتشابه، أو للاتحاد إن شئت. فقد نجد أصول التقسيم للفنون الشعرية أو النثرية، في آداب الأمم على اختلاف الألسن والألوان، مما يمكن أن يلتقي في أمور مشتركة وأصول معينة. وقد نجد فن كذا من فنون الشعر، أو النثر، كالغزل أو الوصف أو الرثاء، أو الخطبة، وأضراب ذلك؛ نجدها فنونا مشتركة متماثلة في الآداب كلها، تقوم على أصول بذاتها، يمكن أن ينتظمها درس واحد أو ينتفع فيها برأي باحث واحد، فننظر في كتاب ككتاب الخطابة أو الشعر لأرسطو مثلا، لأنه ليس إغريقيا فقط، بل هو مما يمكن أن يكون عالميا، ثم إن وراء ذلك من أوجه التشابه أو التوافق في الآداب العالمية ، على تباين الأمم نواحي أخرى، فإنك لتجد أصول الحس، ومصادر المعنى من العاطفة الإنسانية، والمشاعر البشرية واحدة متشابهة متفقة في الشرق مع مثلها في الغرب؛ فالحب والبغض، والغيرة، والانتقام، ألوان للحياة النفسية، أعراضها في البشرية متماثلة، وخصائصها في الناس متوافقة، فهل نجد أن الناظم أو الناثر أو القاص الذي يغني عاطفة من هذه العواطف، ويترجم عن حس من هذه الأحاسيس، يتميز غناؤه، ويتباين فنه، ويختلف غرضه، عن غيره، حتى ما يلتقي في ذلك شرقي وغربي، ولا يتقارب فيه أبيض وأصفر وأسود؟! أحسب أن ذلك شيء ليس صحيحا ولا مقولا به، وهو في العلم نفسه لا يلتزم ولا يدعى، فلا أصل لالتزامه في الآداب بالأولى.
ومن أبين المثل لإيضاح الافتراق والتخالف مع وحدة الأصل، هذه الأجناس البشرية، يقيم العلم بينها الفواصل المفرقة، ويقرر المميزات المغايرة بين جنس منها وآخر، ثم لا ترى هذا التفريق - مهما يتسع القول فيه ويعمق - قد قضى على الوحدة الإنسانية، أو وحدة أصل هذه الأجناس في رأي العلم وتقريره! فالأمر على غرار هذا في الميدان الفني، بل هو في الحقيقة أفسح مما في العلم وأوسع؛ فلقد تلتقي الآداب الإنسانية في الأقاليم المتعددة، والعصور المختلفة، على لسان المتفننين المختلفين في ظواهر مشتركة، فيتفق فيها أدب أمة آرية مع أدب أمة أخرى سامية، ويتشابه فيها عصر جاهلي مع عصر حضري حديث، ونحو ذلك؛ لأن لهذه الآداب على تنوعها وتغيرها، بل على تخالفها وتباينها، وحدة عليا بعيدة، تتلاقى عند فروعها المختلفة، وأنماطها المتعددة، كما التقى الجنس البشري في وحدة الأصل ووحدة الجنس العليا، ثم اختلفت وراء ذلك فصائله وتمايزت في كل شيء. فليس يجب حين نقرر إقليمية الأدب أن تكون هذه الآداب في أقاليمها قد تقطعت بينها الوشائج حتى ما تتشابه فنونها. فيبطل الغزل في الشرق إذا تغزل من في الغرب، ولا يقال الرثاء في الغرب إذا قاله الشرقيون، وحتى ما تتشابه موضوعاتها بحيث لا يعرض هؤلاء لما عرض له أولئك، من موضوع رسالة أو خطبة أو مناجاة شاعر، أو موادة مترسل؛ لأن هذا مما لا يكون بين أدبين غير موحدين. أو حتى ما تتشابه الصور البيانية، والأساليب الأدائية بين الشرق والغرب اللذين تأثرا بمؤثرات متشابهة، فتكون للشرق استعارات وتشابيه لم يعرف الغرب مثلها ولا نوعها، وحتى يستقبح هنا ما يستجاد هناك، وبدون هذا لا يكون افتراق الشرق في دأبه عن الغرب في أدبه، بل تكون لهما وحدة تامة جامعة! •••
وإني لأستوفي البيان فأشرح لكم فكرة عن تقسيم المعاني الأدبية، كنت قد أوضحتها في بحث المعاني من البلاغة الفنية
6
فقسمتها إلى معان كبرى ومعان صغرى.
قسمت المعاني الأدبية إلى كبرى وصغرى؛ فالأولى هي مواد الفن القولي، وأدوات العمل الأدبي، من حب متغزل ناسب، أو عتاب متلطف، أو استعطاف متشوق، أو هجاء كاره، أو ما إلى ذلك من معان، أو إن شئت من عواطف وأحاسيس بشرية، تعطيك مجال العمل الفني في القول أو غير القول من الفنون.
وأما المعاني الصغرى فهي الصور الجزئية في هذا الأصل الأكبر، كأن يكون تغزل المتغزل، أو استعطاف المستعطف، أو رثاء الراثي بقول كذا دون كذا، أو بفكرة كذا دون كذا، أو بصورة أداء دون صورة أخرى، أو بلون تعبير دون غيره، وتلك الأخيرة هي التي نسميها المعاني الصغرى.
Página desconocida