وعلى هذا سنقدر في بحثنا دائما أن الإسلام والعرب قد جاءا مصر، على قديم من أمرها، وماض من دولتها، وسابق من فنها، ومستقر من حياتها؛ فكان بين الإسلام والعرب في مصر، ما يكون حين يلتقي كائنان، ويتبادلان التأثر والتأثير. وسنعود إلى هذا بالبيان بعد.
ومما سمعت في إنكار الإقليمية أن هذا القرآن وما إليه من أصول الإسلام كالسنة، قد وحد الثقافة الإسلامية في هذه البلاد التي اعتنقت الإسلام؛ فكانت الثقافة ذات الأصل أو الأصول الواحدة، مصدرا لأدب واحد متماثل، لا يفرق فيه بين مصري وأندلسي ومشرقي.
وهذه القولة في جملتها تندرج تحت الوحدة العامة المدعاة آنفا، والتي وقفنا عندها وقفة غير قصيرة، إلا أن هذه الوحدة هنا تخصص بأصول أدبية معينة، وتعد هذه الأصول دينية اعتقادية؛ ليكون لها بذلك ضرب من قوة التأثير على معتنقيها، يوحد منها ما افترق مع ضرب من قوة الإقناع، لسامعي هذه الدعوى. ولكنها مع ذلك كله لن تكون في حساب العلم وتصحيح البحث قوية التأثير ولا قوية الإثبات. •••
فأما وحدة هذه الأصول الثقافية، وأما أنها لونت الثقافة الإسلامية تلوينا متشابها، فنعم. وأما أن هذا التشابه يهيئ لوحدة تامة، وأن هذه الوحدة تصنع من الحياة الفنية لهذه البلاد كيانا لا يختلف فيه قطر عن قطر، فلا، ثم لا.
إن هذه الأصول من قرآن وسنة، خليقة أولا بأن تكون منابع شريعة واحدة، وقد رأينا هذه الوحدة التشريعية ادعائية، أكثر كثيرا مما هي حقيقية، وسمعت من صور الاختلاف التشريعي ما شرحنا من قبل، وقد عرضنا عند ذلك للاختلاف الاعتقادي بما فيه الكفاية. فإذا كانت هذه الأصول - وهي أصول الاعتقاد والعمل - لم تترك لنا وحدة في المقالات الاعتقادية، ولا في تفاصيل التقنين، فقد هان أمر ما تحدثه من وحدة أخرى وراء ذلك.
وأحسب أن صاحب هذه القولة المشتبهة وسامعها، يشعران بأن شيوع هذا القرآن بين تلك الأمم على اختلاف ألسنتها وألوانها، وأن كونه كتابها المعجز، ومثال أدبها السامي الفريد، كاف لأن يوحد تذوقها الأدبي، ومزاجها الفني، ويردها إلى أصول في ذلك مستقرة، تقيم حياتها الأدبية على أساس واحد. ولعل ذلك من أقوى ما يحسه المعترض ويشعر به سامعه، ولكن، لا أيضا. ففي قضايا التاريخ قضية في تاريخ الأدب، والنقد الأدبي في العربية، وما إلى ذلك من دراسة أدبية، قضية كبرى في حياة هذه الدراسات وتاريخها؛ هي قضية «إعجاز القرآن». وقد رأينا معتقدي هذا الإعجاز ومتذوقيه، تختلف بهم السبل؛ فمنهم من ينكر على غير العربي أن يجده فهو يرده إلى حس أدبي لا يعلل، ومنهم من يعلل هذا الإعجاز، ثم منهم بعد ذلك من يقول في التعليل بكذا وكذا، ومنهم من يقول فيه بكيت وكيت.
على أن منهم مع ذلك من ينكر هذا الإعجاز البلاغي إنكارا، وما القول بالصرفة إلا إنكار جلي لأن يكون القرآن في لفظه ومعناه غير مقدور للناس ولا مستطاع، بل هو في متناولهم ومستطاعهم.
وإذا كانت تلك مذاهب القوم المختلفة في إدراك قيمة هذا الكتاب الأدبية - وهي مسألة أدبية آزرتها دعوة دينية عامة، وتوجيه قرآني موحد شامل - فهل تراهم في تأثرهم بهذا الكتاب إلا جارين على نحو هذا الافتراق والاختلاف، ومنقسمين شيعا وطرائق؟! فإن اجتمعوا على قراءته ما شاء الله أن يجتمعوا، وإن اجتمعوا في بعض فهمه على ما يصح أن يجتمعوا، وإن اجتمعوا في بعض فهمه على ما يصح أن يجتمعوا عليه، فما أحسب ذلك سينتهي بهم إلى شيء من وحدة أدبية، أو إلى قريب من هذه الوحدة، بحيث يذهب عملهم الأدبي في حساب التاريخ مذهبا موحدا، ويكون في رأي الزمن كائنا متمثلا مشخصا، يؤرخ في ظروف واحدة، وبخطوات واحدة، أحسب أن لا! •••
وبعد، فما يستطيع البحث الصحيح أن ينكر قط أن أشياء قليلة أو كثيرة، قد ألفت بين الأقاليم الإسلامية، وردت أهلها إلى ألوان من التشابه، وضروب من الاشتراك، قد يكون من بينها ما هو أدبي محض، صدرت عنه آثار قد تتشابه في هذه الأقاليم على تنائيها، ولكن الذي يسلم بهذا التشابه وأسبابه لا يسلم بأنه التشابه المطلق التام الذي يصير إلى وحدة تلغي أسباب الافتراق والاختلاف، التي هي أمور طبيعية واقعية عملية، مادية أو نفسية، لها آثارها البعيدة الواضحة. فلا تسليم التشابه يثبت الوحدة، ولا تقرير التعدد ينفي في شيء ما ضروبا من التشابه، وذلك قدر من الحق ينبغي ألا نغفله أو يغفله الباحثون حينما يلمحون مظاهر هذا الشبه أو يشعرون بأسبابه، وتلوح لهم عوامله، في أمور عقلية أو عملية أو فنية.
وليست الدعوة إلى هذه الإقليمية إلا محاولة مدققة في تاريخ الأدب، تقوم على أساس من سلامة بسلامة المنهج العلمي المحرر الذي يحاول تسجيل الحقائق الصحيحة مهما تكن خفية المظهر، ومهما تكن مستورة وراء ظواهر خلابة أو خداعة، وطالب هذه الدقة في عصرنا لحاضر لا ينبغي له، بل لا يحسن منه، أن يخطئ الفوارق أو يساير الظواهر، وينخدع بها.
Página desconocida