Faisal I: Viajes e Historia
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Géneros
سأل الأستاذ كانونيكا الملك أن يدير وجهه إلى النور، فحدق بناظريه كأنه يتحقق لونهما العسلي، وغرضه الشكل لا اللون، ثم طلب منه أن يغير وقفته، فغيرها وهو يسأل النحات: «ألا تتعب؟»
ثم أمر بالشاي، وأشعل سيكارة، وأعاد سؤاله باللغة الفرنسية: «ألا تتعب؟»
فأجاب الأستاذ وهو يشتغل في اللحية بالإبهام والسكين معا: «إني مسرور جدا.»
وكان الجو يبرد ويقتم، فأحس الفنان وأحسست أنا أن لا بد من شيء يعيد إليه اللمعة والحرارة، فرويت نادرة من نوادر الفنان الشهير وسلر، فسر الملك بها، فعاد النور يتألق في وجهه وناظريه، فهتف كانونيكا بالفرنسية، قائلا: «هكذا! هكذا!» ومرت يده مسرعة من اللحية إلى الأذن ومنها إلى مؤخر الرأس.
الملك فيصل الأول في المعرض الزراعي الصناعي الذي أقيم ببغداد سنة 1932 ومعه أخوه جلالة الملك علي (من اليمين: داود الشلبي، محمد طيب - بين الملكين غازي - جعفر العسكري، نوري السعيد، ثابت عبد النور).
وانتقلنا كذلك في الحديث، مسرعين من لندن إلى الأستانة، فحدثنا الملك عن نفسه يوم كان صفوت العوا المعلم الخاص لأولاد الشريف حسين هناك. ثم قال: «أنا أعرف طعم القضيب وأكثر من الطعم، ما كنت مجتهدا مثل أخي عبد الله، بل كنت متأخرا دائما في العلم وكان معلمنا (هز صفوت رأسه مبتسما) يعلمني أنا هكذا (ضم الملك أصابع يده بعضها إلى بعض وطفق يضربها بكف اليد الأخرى) وهذا صفوت اسأله.» والشيخ الجليل المكلل شعره الأبيض بسدارة سوداء، الضام يديه إلى صدره، الواقف في الزاوية كتمثال للحشمة والوقار؛ أحنى رأسه ثانية وابتسم.
وبينا نحن نتناول الشاي انتقلنا من الأستانة إلى باريس. يظهر أن الفرنسيس، خصوم فيصل بالأمس، هم اليوم جانحون إلى الولاء؛ فقد أدركوا أنهم أخطئوا في صيف عام 1920؛ لأنهم ما فاوضوا فيصلا بدل أن يحاولوا القضاء عليه وعلى آماله، فلو فعلوا لكان أمرهم في سوريا اليوم على ما يرام، ولما كانت الثورة التي جرت على فرنسا الخسائر الباهظة من مال ورجال، وخير برهان على تغير موقفها المأدبة التي أقيمت للملك فيصل بباريس في صيف سنة 1931، والنخب الذي شربه مدير الوزارة الخارجية يومئذ المسيو برثيلو، نخب الملك فيصل، «ملك العراق وسوريا». إن هذا الحدث لا يزال حديث الصحافة وموضوع اهتمام السياسيين العرب والفرنسيس حتى اليوم.
في حديث الملك عن برثيلو نذكر سلفه في الوزارة الخارجية بيشون، وشد ما كان الفرق بين الاثنين. بيشون خصم العرب في مؤتمر فرساي أساء معاملة فيصل وأثار غضبه؛ فعندما سافر من بيروت وحاشيته في الباخرة الحربية البريطانية إلى مرسيليا، استقبلتهم السلطة هناك بأمر يمنعهم من السفر في فرنسا، فأرسلت برقيات الاحتجاج إلى لندن، فجاء الجواب مشيرا على الوفد العربي بالسفر حول الحدود الفرنسية إلى البلجيك، ريثما تتم المفاوضات بين الحكومتين البريطانية والفرنسية، فداروا تلك الدورة وسمح لهم بالدخول إلى فرنسا من حدود البلجيك.
وقد اعترضتهم في باريس عقبات أخرى أقامها بيشون، الذي أنكر على العرب حق التمثيل في المؤتمر، وبذل ما في طاقته ليقفل الأبواب كلها دون فيصل، كان الكرنل لورنس يومئذ مع الأمير، فاستشاط غيظا لسلوك الحكومة الفرنسية، وراح يحتج إلى الوفد البريطاني، فاهتم لويد جورج بالأمر في الحال، وفي أصيل ذاك اليوم قرع جرس الهاتف في منزل الأمير: «وزير الخارجية بيشون يريد أن يكلم الأمير فيصل.» - «تفضلوا، فيصل يخاطبكم.» - «قد منحنا العرب حق التمثيل في المؤتمر.»
كان الخبر قد بلغ الأمير - جاءه به لورنس - وأحسن ما فيه أن العرب نالوا الحق بممثلين بدل الممثل الواحد. فقال فيصل لنا، وهو يروي الحادث في الحارثية: «اغتنمت الفرصة لإدراك ثأري من بيشون، فقلت له: «جاءنا العلم بذلك، وقد علمنا أيضا أن المؤتمر منح العرب الحق بممثلين اثنين.» فما أجاب بكلمة.»
Página desconocida