Faisal I: Viajes e Historia
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Géneros
رحم الله فيصلا، صديق لبنان واللبنانيين، المحب لهم حبا جما، المعجب بهم إعجابا قلبيا، الراغب في استخدام مواهبهم ومعارفهم لخير البلاد جمعاء، بل لخيرهم قبل كل خير. ولقد طالما قال لي وللكثيرين غيري إنه يجب أن يرى اللبناني عاملا مكرما، مفيدا ومستفيدا، في كل بلد من البلدان العربية، فيشعر حيث كان أنه في وطنه وبين قومه.
ومن من اللبنانيين الذين عرفوا الملك فيصلا وحدثوه يشك بصدق تلك الكلمات الذهبية التي كان يفوه بها، وتلك العواطف السامية التي كان يفصح عنها، كلما ذكر لبنان لديه؟ ومن منا - نحن الفخورين بمعرفته، السعيدين بذكرى مجالسته - ينسى تلك الكلمة الوديعة العذبة يا أخي التي كان يخاطب بها جليسه؟ فقد كان حقا أخا للجميع، وخصوصا للبنانيين، وما كان ملكا بغير سجاياه الشريفة العالية.
ومع أن قسطه من العلوم لم يكن وافرا، فقد كان لعقله، كما كان لقلبه، أفق منفرج وجو فسيح. وإني لأذكره في دينه، وما كان يوحي إليه، قولا وعملا، من حقيقة الإخاء الإنساني، الممثلة في سائر الأديان الإلهية. وإني لأذكره في وطنيته، وما كانت توحي إليه من حقيقة الوحدة القومية التي كان يرفعها دائما، قولا وعملا، فوق كل وحدة من الوحدات الدينية المتعددة في هذه البلاد. •••
ولكن التاريخ يسجل على فيصل أمورا في سياسته السورية، وطنية ودولية، منها ما ضاق خبره في تلك الأيام دون إدراكه، ومنها ما كان في الإمكان تداركه. وقد كنت فيما كتبت مؤرخا أمينا لذاك العهد عهده
2
فحققت الحوادث، ومحصت الحقائق، بقدر ما مكنت المصادر والأحوال. وأسفت لأني لم أتمكن من إطلاق العنان لقلمي في مضمار الثناء والإعجاب.
ثم مرت السنوات، عشر منها، وأنا في أثنائها أراقب مجرى السياسة العراقية الإنكليزية، وأطالع ما استطعت إليه سبيلا مما كان يكتب فيها، وفي الملك فيصل وجهاده، وقد كنت مغتبطا بعملي الجديد؛ لأني أستطيع أن أكتب في عهد فيصل العراقي ما يسر به القلب ويقبله التاريخ. ولكني مع ذلك كنت أشعر بما يشعر به المصور عندما تحول الأيام دون إكمال صورته، فلا يستأنف العمل قبل أن يعود إلى المشهد ويجدد النظر فيه.
أحجمت لذلك عن التأليف، ووطنت النفس على أن أزور العراق ومليكه مرة ثانية، فكتبت مستأذنا بذلك، وأنا غير متيقن ما عسى أن يكون الجواب؛ نظرا لما أسلفت في الصراحة في الملك فيصل وفي سعيد الذكر والده. فإذا كان الإذن، فهل يقرن يا ترى بالترحيب؟ لقد أخطأت فيما كان من ارتياب؛ فقد جاءني من الملك جواب بخط يده، تجلت فيه تلك السجايا الشريفة - رحابة الصدر، وكرم الأخلاق، والتواضع - التي فطر عليها، وكانت تزين أعماله كلها وأقواله.
أممت بغداد ورفيقي، رفيق رحلاتي، الشيخ قسطنطين يني، فوصلناها في 13 آذار سنة 1932، وتشرفنا بمقابلة الملك فيصل في اليوم التالي، ففاق في جميل ترحيبه ما جاء في كتابه من اللطف والإكرام، وكان في أثناء الشهر الذي أقمته في العاصمة يدعوني - تارة وحدي، وطورا ورفيقي - ثلاث أو أربع مرات كل أسبوع إلى القصر أو إلى الحارثية، فأتحدث إليه بحرية عهدها بي، وكان يشجعني عليها بما يبدو في حديثه ومحياه من ألفة وارتياح. وقد شاء - رحمه الله - أن يحدثني في العام والخاص من الشئون التي لم يكن يفضي بها - على ما أظن - إلى غير القليلين من بطانته وأهل بيته، وكنت أدونها. وذاكرة الرفيق قسطنطين تعين في أكثر الأحايين ذاكرتي، عندما نعود من مجلسه.
تمثال الملك فيصل الأول في جانب الكرخ في الصالحية.
Página desconocida