إن الجامعة إن فعلت ذلك كانت مثلا للطلبة يحتذى في تصرفاتهم. إنهم يخجلون أن يتحزبوا إذا كان كل الجو الجامعي حولهم لا يتحزب. إنهم يعودون إلى آبائهم الروحيين إذا لعبت بهم الأهواء. إنهم يسمعون نبضات قلوب أساتذتهم كما يسمعون دقات ساعاتهم، يضبطون بأعمال أساتذتهم أخلاقهم كما يضبطون على ساعة الجامعة ساعاتهم. أما إن عكس الوضع وسير الخارج الأساتذة وسير الطلبة الأساتذة والخارج، كان ذلك هرما مقلوبا أو كان رجلا يمشي على رأسه، أو كان ضبطا لساعة المرصد على ساعة رجل الشارع، وفي ذلك إنذار بالخيبة.
بجانب أستاذ الجامعة وهيئة الأساتذة والإدارة عامل آخر كبير سو عوامل الخلق الجامعي، هو تكوين رأي عام بين الطلبة يشعر بالواجب ... المسئولية؛ وأعتقد أن تسعين في المائة من زلات الطلبة ترجع إلى فقدان هذا العامل الهام؛ فلو أن هناك رأيا عاما يحتقر الطالب إذا كلم فاه كلمة نابية أو نظر إليها نظرة شاذة فهل يجرؤ الطالب على ارتكاب هذا الخطأ؟ وإذا كان الرأي العام بين الطلبة يحتقر الكاذب ويحتقر المستهتر ويحتقر الهازل فما أعظم الإصلاح الذي يرجى من وراء ذلك!
إن معظم الزلات الخلقية من الطلبة لا تقع تحت سلطان القانون، فليس القانون يؤاخذ على كذبة ولا نظرة نابية ولا كلمة جارحة ولا ضحكة مستهترة ولا نحو ذلك من الشرور؛ إنما يترك ذلك كله للرأي الجامعي يعقب عليه بالازدراء والاحتقار والمقت؛ فما لم يوجد رأي عام من هذا القبيل واكتفى بالقانون فلا أمل في النجاح.
لا بد من الإكثار من اجتماع الطلبة بمناسبات مختلفة يتعرضون فيها للخطأ، ويهيأ الرأي العام فيها للنقد على هذا الخطأ، حتى يتبلور الرأي العام ويأخذ سبيله في سلطانه على النفوس - يجب أن يعودوا أن يحكموا أنفسهم بتكوين قضاة منهم يحكمون على زلاتهم وينفذون قضاءهم بأيديهم وألسنتهم؛ بهذا يسود في الطلبة الشعور بالشرف والندم على الهفوة - يجب أن تكون للجامعة تقاليد قد أسست على قانون الشرف، يخشى كل طالب من كسرها كما يخشى من ارتكاب السرقة أو الخيانة.
حكى لي أستاذي المرحوم عاطف بركات باشا، أنه لما سافر في بعثة إلى جامعة من جامعات إنجلترا، وكان حديث عهد بها، دخن في حجرة كان التدخين فيها محرما، فمر بعض رجال الجامعة في هذه الحجرة وشم رائحة الدخان، فسأل: من المدخن؟ فلم يجب أحد ولا عاطف بركات، فتركهم الأستاذ وانصرف. قال عاطف باشا: فأحسست أن كل من حولي من الطلبة ينظرون إلي نظرة فيها شيء كثير من الاحتقار. فمن ذلك اليوم عظم شأن الصدق في نفسي واستفظعت غلطتي ولم أعد بعد إلى مثلها.
ومما يتصل بهذا بث الروح بين الطلبة بشدة ارتباطهم بكليتهم؛ فيفخرون بأستاذهم الشهير بعلمه ومؤلفاته، ويفخرون بالنابغة فيها من أساتذتهم وطلبتهم، وبانتصار كليتهم في الألعاب وفي جميع أفعال البطولة وفي ميادين الأعمال الشريفة؛ ويستهجنون أعمال النذالة والسلوك الوضيع، وعلى الجملة يشعر كل طالب بأنه جزء من كل، يعتز بعزة الكل ويهون بهوانه. •••
أستاذ صالح يقوم مقام المنارة في الكلية، وهيئة صالحة من الأساتذة والإدارة، ورأي عام من الطلبة له سلطان على نفوسهم، هي أهم ما أرى من عوامل الإصلاح للخلق الجامعي والعلم الجامعي.
سلطة الآباء
رحم الله زمانا كان الأب فيه الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غنم؛ تحدثه الزوجة في خفر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال؛ من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي، أو يجادله في أمر. أما البنت فإذا حدثها لف الحياء رأسها، وغض الخجل طرفها؛ قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت، تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندى جبينها، ويصبغ الخجل وجهها؛ وإذا جاء حديث الزوج والزواج فإلى أمها الحديث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح، والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يفعل وما لا يفعل.
في جملة الأمر أن البيت ينقسم إلى قسمين: حاكم وهو الأب، ومحكوم وهو سائر الأسرة؛ منه الأمر ومنهم الطاعة، له السيادة وعليهم الخضوع، يرسم الخط وهم ينفذونها، يجلب الرزق ويتولى الإنفاق وهم يسيرون على ما رسم، وويل لمن عارض أو تبرم! فإن أحس الابن حاجة ملحة إلى مال، أو شعر بضرورة ملجئه إلى أكثر مما أخذ، لم يجرؤ أن يجابه بالطلب، إنما يحاور ويداور ويلمح ويرمز؛ فإن أعياه الأمر وسط الأم لعلها تستطيع أن تعبر تعبيرا أوضح وأصرح، وقل أن تنجح.
Página desconocida