وبعد، فكل عاطفة من عواطف الإنسان - على كثرتها وتعددها - موضوع للأدب وخير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة؛ فالشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب في عذاب والذي يذوب رقه وحنانا، ليس - في نظري - مؤسسا على عاطفة صحيحة، كالذي في شعر العباس بن الأحنف وأمثاله؛ وهذا الشعر إن أرضى الجمهور ولذهم هو في كثير من الأحيان أجوف، وهو في كثير من الأحيان نتاج عاطفة مريضة. وليس من الحق أن يبيع الإنسان عواطفه بهذه السهولة - والشاعر المثير هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبينها على أساس عميق؛ أما إن هو غالى في ذلك وأثار عواطف حادة لأسباب واهية كان أدبه أدبا خفيفا ضعيف القيمة مهما استلذه الناس وأعجبوا به.
هناك عواطف حنان، وعواطف إجلال، وعواطف جمال، وعواطف قوة؛ وهناك ما يثير الحزن، وما يثير السرور، وما يثير الشهوة، وما يثير البطولة، وما يدفع إلى المجد، وما يدفع إلى اللهو؛ وكلها صالحة للأدب، وكلها في نظر الأدب سواء، وإن اختلفت قيمتها في نظر الأخلاق ونظر دعاة الإصلاح؛ فالأخلاقي يرى أن الأدب الذي يثير لذة حسية أقل رقيا من أدب يثير شعورا أخلاقيا، كالإعجاب بالبطولة، واحتمال الآلام في سبيل أعمال جليلة - وأرقى الأدب في نظرنا ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس قوة.
وأغرب ما في الأمر أن أدباءنا الذين انتفعوا بالأدب الغربي، وعملوا على نقله إلى الأدب العربي أفرطوا في نقل هذا النوع من الأدب المائع، وفرطوا في نقل الأدب القوي؛ وسبب ذلك أنهم جاروا ميول الجمهور، وسايروا رغباته؛ فكانوا تجارا أكثر منهم قادة؛ والجمهور إنما استلذ هذا النوع؛ لأنه من قديم ألف البكاء، وكانت حالته الاجتماعية تدعو إليه؛ ولأنه ترك جده على كاهل غيره ففرغ للهو.
وكان هذا النوع من الأدب أضر بالشرقي من ضرره بالغربي؛ لأن الغربي عنده بجانب هذا الأدب الضعيف أدب آخر قوي؛ فإذا بعث الأول حنانا ورقة، بعث الآخر قوة وجلدا، فتعادلت حياته وتغذت نواحي عواطفه؛ أما الشرقي فليس له تراث حاضر من أدب قوي يسند ضعفه ويحيي نفسه. وسبب آخر وهو أن الشرقي - على العموم - ذو عاطفة أحد، وهو لها أقل ضبطا؛ فإذا نحن غذيناه دائما بهذا الأدب الحاد، زادت عواطفه ميوعة، مع أنه أحوج ما يكون إلى ما يقوي عاطفته ويضبط جموحها. •••
الحق أن الأدب عود ذو أوتار، ويجب أن تكون أوتاره على نظام ما عند الإنسان من عواطف جدية وهزلية، ورقيقة وقوية؛ وضاحكة وباكية، ورخيصة وغالية. والعود الذي يوقع عليه الأديب الشرقي ناقص الأوتار، تنقصه الأوتار القوية، والأوتار التي تبعث الحياة، والأوتار التي تبعث الضحك ليتلوه جد، والأوتار التي تهز النفس لتملأها أملا، والأوتار التي تبعث النغم يصور بطولة، والتي تبعث النغم ليوقظ من سهاد - عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي - أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.
فهل يتقي الله الفنانون والأدباء في الجيل الناشئ فيصلحوا أغانيهم ويكملوا ما نقص من أوتارهم، ويستدركوا ما فاتهم؛ وينشدوا طويلا نشيد الحياة، كما أنشدوا من قبل طويلا نشيد الموت؟
من غير عنوان
أكلت أكلة ساء هضمها، فانقبضت نفسي، وغاضت بشاشتي، وتقطب ما بين عيني، وسئمت كل شيء حولي، وبرمت بمخالطة الناس كما برمت بالعزلة عنهم، وكرهت السكوت كما كرهت الكلام.
ونظرت إلى العالم فتجهمته، رأيته ثقيل الروح، فاسد المنطق، يمج السمع نغماته، ويعاف الطبع منظره، وتأخذ بخناقى ألاعيبه وأحداثه.
أي شيء فيه يسر؟ إن هو إلا جيفة تنبحها الكلاب، وميتة يتساقط عليها الذباب، عدو كل ألفة، ومصدع كل شمل، يبلي الجديد ولا يجد البالي، ليست لذته إلا ألما مفضضا، ولا مسرته إلا حزنا مبهرجا!
Página desconocida