Efluencia del Pensador

Ahmad Amin d. 1373 AH
162

Efluencia del Pensador

فيض الخاطر (الجزء الأول)

Géneros

والناس - على الجملة - استنارت أذهانهم إلى حد بعيد، واكتشفوا سر العظمة، فأصبحت العظمة المعتادة لا تروعهم، إنما يروعهم الخارق للعادة، وأين هو تحت هذه الأنوار الكشافة؟

ثم شعر الناس بعظمتهم هم أيضا وبشخصيتهم؛ والبطولة تأتي - في الغالب - عندما يسلس الناس زمام نفوسهم للبطل، فهم بطاعتهم له واستسلامهم لأمره وإشارته يزيدون في عظمته، ويغذون بطولته - فإن كانوا هم أيضا يشعرون بعظمة أنفسهم قلت طاعتهم وقل تبجيلهم وخضوعهم لكائن من كان، وبذلك لا يفسحون للبطل بطولته فلا يكون. فلو وجد اليوم شخص في أخلاق نابليون وصفاته ومميزاته ما حققوه في عصرنا، ولا كان إلا رجلا عاديا أو ممتازا بعض الامتياز؛ فأما أن تطيعه الخلائق هذه الطاعة العمياء، وتبيع نفوسها رخيصة في سبيل مجده، وتسفك دماءها أنهارا لتحقق عظمته، فذلك ما لا يكون اليوم كما كان بالأمس.

قد تضرب لي اليوم مثلا بموسوليني ومصطفى كمال وهتلر، ولكن الفرق عظيم جدا، فهؤلاء يؤثرون في شعوبهم من ناحية أنهم خدام للشعب لا سادة لهم؛ وأن الشعب إذا عظمهم فلأنهم يخدمونه، ويوم يثبت له أنهم لا يعملون لخيره ينفض يده عنهم؛ فأين هذا من الطاعة العمياء التي كانت لنابليون؟

ولهذا نرى كلا من هؤلاء يتملق شعبه ويحاول أن يقيم البرهان كل يوم على أنه عامل لخيره، ساع في سعادته، لشعوره التام بأنه إنما يحكم الشعب بإرادة الشعب لا بإرادته هو، فإذا هو لم يتمتع بهذه الثقة سقط من عرشه، وهذا - من غير شك - يقلل شأن البطولة. •••

وهذه الأسباب التي ذكرت أنها كانت تؤذن بكثرة النوابغ هي بعينها التي قللت النوابغ؛ وتعليل ذلك معقول، فكثرة العلم واستنارة الشعب، جعلت النبوغ عسيرا لا سهلا يسيرا.

ومصداق ذلك أن الأمم فيما مضى كانت تمنح المشعوذين والمنحرفين ألقاب البطولة، وتنظر إليهم نظر تفوق ونبوغ، من أمثال من كانوا يسمونهم «الأولياء» فيكفي أن يتظاهروا بالجذب ويتصنعوا الصلاح ويدعوا معرفة الغيب ليهرع إليهم الناس ويقبلوا أيديهم ويلتمسوا منهم البركة ويرفعوهم فوق النوابغ والأبطال، وأحيانا يلقبونهم «بالأقطاب». فلما فتح الناس عيونهم وعقلوا بعد غفلتهم، واكتشفوا حيلهم ومكرهم لم تعد لهم هذه المكانة، وحل بعض محلهم المصلحون الاجتماعيون الذين يخدمون أمتهم بعملهم. ومعنى ذلك أن الشعوذة والمخرقة حل محلها مقياس المنفعة، وسار الناس في طريق التقدير الصحيح، وهو الاحترام والتبجيل على قد ما يصدر من الشخص من خير عام حقيقي. •••

ومن أجل هذا أيضا رأينا التيار في هذه الأيام يتجه إلى تقليل شأن البطولة في الأعصر الماضية؛ فلم يعد البطل القديم في الأدب والسياسة والفن والعلم يقدر التقدير الكبير الذي كان يقدر به من قبل؛ لأن الناس أخذوا يحللون كل بطل، ويبينون سر بطولته «ومتى ظهر السبب بطل العجب»، ولم يقنعهم ما كان يحيط به من غموض فألقوا أضواء كثيرة على من كانوا يسمون الأبطال؛ فأحيانا يؤديهم البحث إلى إنكار بطولة بعض الأشخاص بتاتا، وأحيانا يقللون من قيمة البطل، بل وأحيانا يرون بطلا من أنكر الناس قديما بطولته.

ذلك لأن مقاييس البطولة تغيرت، وأصبحت عند المحدثين خيرا منها عند الأقدمين؛ ولأن المحدثين رأوا أن القدم نسج لكثير من الناس أثوابا من البطولة لم تكن موجودة أيام حياتهم، وكلما تقدم الزمن منحهم الناس شارة بطولة جديدة، فلما عرض هذا كله للنقد وأزاح أهل العلم الحديث ستائر القدم، تبين البطل في صورته الحقيقية أو قريبا من صورته الحقيقية؛ فأحيانا يرتفع الستار عن لا بطل، وأحيانا يرتفع عن بطل ولكن دون ما كان يقدره القدماء، ونادرا ما يبقى البطل بطلا كبيرا حتى بعد ما ترتفع حجب القدم.

ولهذا نجد كثيرا من المعاصرين هم في الحقيقة نوابغ، وهم يفوقون بمراحل بعض نوابغ الأقدمين، ولو كانوا في العصور الماضية لارتفعت منزلتهم فوق ما ارتفعت اليوم، ولكن لم نمنحهم نحن لقب البطولة للأسباب التي أشرنا إليها قبل، من أننا رفعنا إلى حد بعيد المثل الأعلى للنبوغ؛ ولأننا نحلل النابغ ونكتشف سره، وذلك يقلل من تقديره ؛ ولأنه معاصر والمعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ.

وقد يتصل بهذا أن كثرة النبوغ تضيع الاعتراف بالنبوغ، فكل أمة راقية الآن لديها عدد كبير من المتفوقين في كل فرع من فروع العلم والفن: في القانون - في الأدب - في الطبيعة - في الكيمياء - في الرسم - في التصوير. فلما كثر هؤلاء في كل أمة أصبح من العسير أن تميز أكبر متفوق منهم لتمنحه صفة النبوغ؛ ومن العسير أيضا أن تسميهم كلهم نوابغ؛ لأن النبوغ بحكم اسمه ومعناه يتطلب الندرة، فلما كثر النابغون أضاعوا اسم النبوغ وعلى العكس من ذلك الأمم المنحطة، لما لم يوجد فيها إلا قانوني واحد أو أديب واحد أو موسيقي واحد كان من السهل أن يمنح لقب النبوغ. •••

Página desconocida