تصدير
إهداء الديوان
فوق العباب
تصدير
إهداء الديوان
فوق العباب
فوق العباب
فوق العباب
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
Página desconocida
تصدير
في هذا الديوان كثير من شعري الذي نظمته في سنة 1934م، بين شواغلي الكثيرة التي تضاعفت إلى درجة مرهقة يراها النقاد كفيلة بالقضاء على إنتاج أي شاعر، ولكن هذه الشواغل في الواقع كانت بين العوامل التي جعلتني ألجأ إلى الشعر أبثه آمالي وآلامي، ولا يعنيني بعد هذا إلا كما تعنيني صور حياتي أتأملها فأستعيد من الذكريات ما فيه غذاء عواطفي.
وقد شهد هذا العام حفاوة مزدادة بالشعر الحديث ولكن دائرة هذا الشعر ما تزال برغم ذلك محدودة. ومن الحق أن نقرر ذلك وأن نعترف بأن الشعر الغالب في العالم العربي وفي مصر خاصة هو ما يمثله نظم الجارم وعبد الله عفيفي والماحي وأقرانهم، وهو شعر فيه غالبا مرائي الماضي في ألفاظ موسيقية تقليدية. وقد اعترف أستاذنا مطران بذلك في تقديمه الشعري الصريح لديوان الماحي الذي لم يثر عليه إلا المجددون المتشددون، بعكس الكثيرين من الأدباء - ومن بينهم بعض المجددين المتسامحين كمحمود عماد - فهؤلاء قد رأوا في شعر الماحي فخرا للأدب العربي وعدوه مرآته في هذا العصر.
إزاء هذا لم أكن أنتظر أن يجرأ شاعر من شعراء الشباب كمختار الوكيل ويتشبث بتأليف كتابه «رواد الشعر الحديث» وبأن يضعني بين أعلامه، فهذا «الشعر الحديث» محصور الدائرة، ثم إن أعلامه هؤلاء محصورو النفوذ، وأنا أقلهم نفوذا وإن كثرت ميادين إنتاجي. ولكن هي الرغبة الفنية التي ألحت على ذلك المؤلف الشاعر فأبى إلا أن يشيد بمذاهب «الشعر الحديث» وأن يذكر خدامه العاملين على نصرته الذين يتمنون مثلي اقتراب عزته وإن لم أشاركهم في تفاؤلهم التام.
نعم، إني أقل هؤلاء نفوذا وأقلهم تفاؤلا بالنسبة لهذا الجيل، وإن كنت أكثرهم دأبا وإنتاجا، وقد أؤثر باتجاهاتي في بعض الشعراء ولكن عددهم محدود، وإذا سرى تأثيرهم بين الشعراء الناشئين فالفضل لهم وليس لي، فإن حالي في عزلتي النسبية، وفي استقلالي الفكري والتعبيري أشبه بحال الشاعر وليم بليك، وإن كنت لم أنتج بعد مثل إنتاجه، فقد بلغت دواوينه الشعرية مائة مجلد ضاعت جميعها، ولولا المواظبة على طبع إنتاجي الجديد تلبية لإلحاح خلصائي - وهم شطر من نفسي - وتلبية لنوازعي الوجدانية، لضاع هذا الشعر كما ضاع غيره من قبل دون أن تحس بفقده جمهرة الأدباء في هذا الجيل.
إذن لست أدعي لهذا الشعر أية مكانة في نفوس الأدباء المعاصرين عامة، وإن كانت له مكانة في نفوس مريدي من خاصة المتعلمين وهؤلاء قليلو العدد. وإذا كان بعضهم قد تفضل وعاونني أدبيا على دراسة مؤلفاتي الشعرية فليس معنى ذلك أني أقر كل ما كتب عني من تقدير نقدي، وإن اعترفت بقيمته الأدبية كتبيان لما تراه بيئة الشاعر الخاصة في شعره وعوامله واتجاهاته، وهذه نقط لها قيمتها الفنية في التأريخ الأدبي، خصوصا إذا كان الشاعر غريبا في تفكيره وأخيلته وتعابيره الطليقة عن المألوف في عصره.
وإذا كنت قد تناولت قبلا أو أتناول الآن بالتعليق في هذه الصفحات أو في غيرها بعض النقط الفنية المتصلة بالشعر، فإنما هو تناول المؤمن المدافع عن إيمانه، لا أملا في الإقناع والبيئة غير مستعدة له، ولكن تنفيسا للآراء المكبوتة وتزكية عن الفن المقدس وبرا بوفاء المريدين الغيورين. وكثيرا ما قلت لهؤلاء الخلان: إني لا أنتظر أن يعنى بمثل هذا الشعر العناية الكافية في حياة صاحبه مهما غالينا في التأميل، وإن أمر نشره لا صلة له بالعناية المرتقبة ولا المرجوة، وإنما هو حامل رسالة فنية هي من صميم كيانه وهي التي تزجيه إلى الظهور في هذه الصفحات المطبوعة سواء ألاقت هذه الرسالة إقبالا عليها أم إعراضا عنها، وقد تكون رسالة إلى المستقبل قبل أن تكون رسالة إلى الحاضر. •••
ينادي المنادون من أصدقائنا المحافظين وأنصاف المجددين بأن الشعر «موسيقى» قبل كل اعتبار آخر، ونحن لا نفهم من الشعر إلا أنه «شعر» قبل كل اعتبار آخر، وليس معنى هذا أننا نكره اقتران الشعر كفن بفنون أخرى وفي مقدمتها الموسيقى، ولكننا نأبى تبعية الشعر لأي فن سواه وإن رحبنا بمزاملته غيره من الفنون الملائمة له.
لنأخذ مثلا قول ابن الرومي وصفا لهاجرة في صحراء:
وهاجرة بيضاء يعدى بياضها
Página desconocida
سوادا كأن الوجه منه محمم
أظل إذا كافحتها وكأنني
بوهاجها دون اللثام ملثم
بديمومة لا ظل في صحصحانها
1
ولا ماء، لكن قورها
2
الدهر عوم
ترى الآل فيها يلطم الآل مائجا
وبارحها المسموم للوجه ألطم
Página desconocida
فليس لهذه الأبيات في نظر أنصار التميع والرخاوة أي جمال موسيقي، وألفاظها ذات قسوة وجفوة في اعتبارهم، ولكننا نعدها جد ملائمة لموضوعها ونحفل بقوتها، ونعتبر موسيقاها طبيعية منسجمة وموضوعها ومستمدة من صميم معانيه. ويقول المتفلسفون منهم: إن الموسيقى الساحرة ضرورية للشعر (وهم لا يعنون في الواقع إلا الموسيقى الناعمة) لأنها تخدر أعصاب القارئ أو المستمع أو عقلهما الباطن إلى درجة تجعل معانيه تتسلل إلى الذهن غير مستأذنة فتبلغ معانيه غايتها من النفس وتؤدي رسالتها. وعندنا أن هذا لا ينطبق عادة إلا على أصحاب العقول البدائية من أشباه العامة أو على أهل الثقافة المحدودة أو على ذوي الأمزجة العصبية الشديدة، وأما ذوو الثقافة الواسعة المتزنون فتكفي لاستهوائهم تلك القوة التصويرية الرائعة في أبيات ابن الرومي الأربعة، فإذا بهم يتمثلون أمامهم أصدق التمثل حالة الهاجرة في الصحراء وكأنهم فيها، وحسب الشعر أن يكون له من ذاتية خياله هذا التأثير الغلاب على النفوس المثقفة دون أن يحتاج إلى الصناعة الموسيقية لإثبات شخصيته الفنية التي لا تحتاج إلى وصي عليها لا من الموسيقى ولا من غيرها.
ومن هذا القبيل قصيدة «أعمار الإنسان السبعة» لشكسبير؛ فإنها من الشعر المرسل، وليست لها أية موسيقى بالمعنى الذي ألفه أصحابنا المحافظون ومن شايعهم، ومع ذلك فهي آية من الشعر التصويري الفلسفي، وكل أديب مثقف يعرف الإنجليزية يستمتع بتلاوتها كما يستمتع بتلاوة «خطاب مارك أنطوان على جثة قيصر» لشاعرنا نفسه وبأمثال هذا الشعر العبقري في مؤلفاته العديدة، ومعظمه من الشعر المرسل البعيد عن الموسيقى الغنائية الرتيبة - ذلك لأن قوة هذا الشعر الذاتية كافية من تلقاء نفسها لاستهواء النفوس المثقفة المتزنة بغير ما حاجة إلى الصناعة الموسيقية التي لا محل لها في غير الشعر الليريكي الخالص. وكم من جنايات على الشعر يرتكبها باسمه أولئك المزماريون الذين ليس لهم حظ كبير من الطاقة الشعرية وإنما كل حظهم محصور في قدرتهم الموسيقية! فيشجعهم تصفيق الجمهور الذي يستهوونه على العبث بتعريف الشعر وأغراضه، ولا يغنم الأدب الصحيح منهم شيئا، بل هم يسيئون إليه بصرف المتأدبين عن إنتاج أعلامه المنجبين الحريصين على استقلاله. •••
وبديهي أننا لا ننكر أثر الموسيقى العظيم على النفوس، بل لن ننكر أثر جميع الفنون الجميلة، ولا ننكر أن للشعر نبعا من الموسيقى، ولكن ذلك هو الشعر الغنائي الديني والوجداني الأصيل، ولا ينسحب هذا الحكم على الشعر العالي الذي يستند إلى ذاتيته قبل أن يستند إلى عون الموسيقى. ومن ذا الذي ينكر أثر الموسيقى النفساني في رفاهة السلم وفي عنف الحرب، أو ينكر أثرها الشديد في النفوس العصبية، حتى إن القدماء كانوا يستعملونها في تخفيف ألم المصاب بلدغ العناكب السامة، وما يزال السحرة في أفريقيا وغيرها يعتمدون عليها في تطبيبهم؟ ولعل من أبرز الأمثلة للتأثر الموسيقي ما حكي عن المغنية الإسبانية الشهيرة أديلينا باتي فقد كانت تبدو العبرات إلى مقلتيها وتضطر إلى مغادرة الردهة كلما طرقت سمعها أنشودة راعتها من أناشيد بيتهوفن! فالصلة الوثيقة بين الموسيقى والأعصاب أمر غير منكور، وعلينا أن نكبر الشاعر البارع الذي يستطيع أن يمزج فنه بين أسر الموسيقى الخلابة وقوة العاطفة وروعة الخيال وإشراق الديباجة في وحدة متجانسة ساحرة. ولكن هذا المزيج غير مستطاع إلا في النادر مهما تكن براعة الشاعر - ذلك لأن الشعر العالي يتطلب التعمق الفكري والسمو الخيالي والتطلع الإنساني البعيد، وهذه عناصر تستدعي تحرر الشاعر وطلاقته اللفظية حتى تتجه شاعريته إلى الإبداع القوي الحر بدل أن تكون أسيرة الموسيقى. وهذا ملحوظ عند أبي تمام، والمعري، ودانتي، وشيلي، وجيته، وملتون، وأضرابهم بصورة واضحة لا نزاع فيها. وهيهات أن يصل إلى مرتبتهم الشعرية العالية أمثال البحتري، وابن زيدون، وسوينبرن، وديفز، وأشباههم ممن كان طبعهم موسيقيا غنائيا قبل أن يكون شعريا عاليا. ولا غرابة في ذلك فإن المزاج الفني قد يتوزع أو قد يتداعى، وخصوصا في ذوي الأمزجة العصبية المرهفة، ومن الأمثلة البارزة في وقتنا هذا النجمتان السينمائيتان ماي كلاك، وليليان بوند فإن لهما شعرا رائعا مرددا في أمريكا ومتناقلا في غيرها.
لنرحب بالشعر الموسيقي الحبيب وبالشعر العاطفي الخالص، ولنعرف لمثل هذا الشعر قدره. ولكن يجب ألا ننسى أن الشعر ليس هذا فحسب، بل إن فلسفة الشعر تذهب إلى أبعد من هذا
3
وإن أسمى الشعر ليس وليد الألحان الرتيبة، وليس الشعر الغنائي بالمقصور على الشعر العاطفي وحده
4
دع عنك شعر الرخاوة والتميع أو شعر الخشونة الفظ الذي ينعته بعض الأدباء بشعر الرجولة، كأنما الحب الظافر الحقيقي أمر واغتصاب وليس تجاوبا تاما بين الجنسين!
5
وليس من شك في أن جمهرة الناس لا تعنى بالخواطر الشعرية العميقة ولا بالمثل العليا في الشعر، وإنما كل ما يشجيها هو النغم الآسر، ومن ثمة كانت الموسيقى مقدمة على التعابير في الأناشيد العامة بعكس ما يتخيله معظم شعرائنا. ولولا الروح العامية في الأدب لما أنكرت طويلا شاعرية الفحول المفكرين من أعلام الشعر العربي ولما بقي أبو تمام إلى وقتنا هذا لا يعنى بعبقريته العناية الواجبة.
Página desconocida
6
ومن ذا الذي يستسيغ من المزماريين مثل هذا الشعر الرائع لأبي تمام في مدح محمد بن عبد الملك الزيات حتى يلهج بذكر شاعريته القوية:
ديمة سمحة القياد سكوب
مستغيث بها الثرى المكروب
لو سعت بقعة لإعظام نعمى
لسعى نحوها المكان الجديب
لذ شؤبوبها وطاب فلو تس
طيع قامت فعانقتها القلوب
فهي ماء يجري وماء يليه
وعزال
Página desconocida
7
تنشا وأخرى تذوب
كشف الروض رأسه واستسر ال
محل منها كما استسر المريب!
أو قوله في سليمان بن وهب:
أي مرعى عين وواد قشيب
لحبته الأيام في «ملحوب»
8
ند عنك العزاء فيه وقاد ال
دمع من مقلتيك قود الجنيب
Página desconocida
صحبت وجدك المدامع فيه
بنجيع بعبرة مصحوب
أخلبت بعده بروق من الله
و وجفت عذر من التشبيب
ربما قد أراه ريان مكسو المغا
ني من كل حسن وطيب
بسقيم الجفون غير سقيم
ومريب الألحاظ غير مريب
في أوان من الربيع كريم
وزمان من الخريف حسيب
Página desconocida
فعليه السلام، لا أشرك
9
الأط
لال في لوعتي ولا في نحيبي
فسواء إجابتي غير داع
ودعائي بالقاع غير مجيب
رب خفض تحت السرى وغناء
من عناء ونضرة من شحوب
ما على الوسج الرواتك
10
Página desconocida
من عت
ب إذا ما أتت «أبا أيوب»
11
سرح قوله إذا ما استمرت
عقدة العي في لسان الخطيب
لا معنى بكل شيء ولا
كل عجيب في عينه بعجيب
سدك الكف بالندى عابر السم
ع إلى حيث صرخة المكروب
ليس يعرى من حلة من طراز ال
Página desconocida
مدح من تاجر بها مستثيب
فإذا مر لابس الحمد قال ال
قوم: من صاحب الرداء القشيب؟
وإذا كف راغب سلبته
راح طلقا كالكوكب المشبوب
ما مهاة الجمال مسلوبة أظ
رف حسنا من ماجد مسلوب
واجد بالخليل من برحاء ال
شوق وجدان غيره بالحبيب
كل شعب كنتم به آل وهب
Página desconocida
فهو شعبي وشعب كل أديب
كل يوم تزخرفون فنائي
بحياء فرد وبر غريب
إن قلبي لكم لكالكبد
الحرى وقلبي لغيركم كالقلوب
لست أدلي بحرمة مستزيدا
في وداد منكم ولا في نصيب
لا تصيب الصديق قارعة التأ
نيب إلا من الصديق الرغيب
غير أن العليل ليس بمذمو
Página desconocida
م على شرح ما به للطبيب
مثل هذا الشعر القوي الأصيل لا يرضي أدباء التميع أو أدباء الرقة والظرف الذين يحصرون عنايتهم في شعر ابن مطروح والشاب الظريف ومن جرى مجراهما، حتى ليحصروا الشعر في النكتة البارعة وفي الطراوة والموسيقى المجارية لها، صادفين عن الشعر المتين المنقب في خفايا النفوس المعبر عن أصالة الحياة. •••
لا بد للفنان المعبر من أدوات التعبير الملائمة، فلا مفر له إذن من استيعاب فنون الأدب وتقصيها حتى يشتمل عليها، وحينئذ له أن يستقل بديباجته التي هي رمز شخصيته، وأما الروح الفنية ذاتها فطبيعة فطرية وإن صقلها الاطلاع والتجربة والمرانة.
والطلاقة الفنية صفة فطرية في كل فنان موهوب، وهو إذا بدأ تقليدي النزعة - كما يقع كثيرا - فسرعان ما تعلن شخصيته استقلالها فتتجلى الطلاقة لا في مناحيه وحدها بل في ديباجته أيضا. ولسنا بحال من أنصار الفوضى اللغوية أو النظمية، ولكننا نعذر الفنان الضليع إذا أبت طبيعته الخالقة أن تقف عند المعايير والمقاييس المقررة ورفضت النزول إلى مستوى الجماهير بل أرسلت فنها طليقا معتزا بشخصيته مهيبا بالخاصة قبل أن يهيب بالدهماء ومرتفعا بالجماهير عن طريق أولئك الخاصة والمريدين الذين ينوبون عن الفنان في نشر رسالته.
قد يستجيب الفنان وقد لا يستجيب لرغبات الجماهير وفقا لطبيعته الفنية، ولكن الفنان الصادق لن يضحي بفنه لمجرد إرضاء الجماهير ولا لأي اعتبار، وإنما هو يضحي بالشهرة الميسورة وبالمتع التي في متناول يده إنصافا لفنه. فلا يثنيه ما يعاب على اتجاهاته الخاصة وعلى لغته وعلى أخيلته من أصالة غريبة، لأن فنه هو من نبع نفسه وموجه أولا وأخيرا إلى نفسه وإلى خلصاء نفسه، وهو إذا التفت إلى النقد فإنما لفتته فنية محضة جامعة بين المبالاة وعدمها؛ مبالاة من ينشد الكمال ويهمه كما يهم الصوفي أن يقف على آراء الناقدين المخلصين، وعدم المبالاة بنفور المغرضين أو أنصار التقليد العازفين عن كل إبداع وتجديد، ناسين ما وراء ذلك من خلق ثروة فنية جديدة للغتهم بدل الاكتفاء بالقديم المعاد.
لن يعرف الفن غير الفنان. وإذا كان الفن في طبيعته هو الصورة الحية للوجود وما خلف الوجود، فهو بالنسبة للفنان ملاذ روحي يهرع إليه فرارا من شقاء الحياة، فيستمد الأمل والثقة بالمستقبل. فالشاعر الموهوب الذي يقرض الشعر في شتى الأغراض إنما يصور الحياة وما خلفها مما ينعكس في مرآة نفسه، وتلك الصور على تقاربها أو تباينها هي ملجأ لوجدان الشاعر ومتنفس له. فكيف يطالب الشاعر بعد ذلك بأن يتحول تحولا آليا لإرضاء الجماهير، كأنما الشعر ليس من نفس صاحبه، وكأنما هو ليس بالمجهود العصبي العنيف حتى ولو كان مرتجلا ارتجالا؟ •••
يرى تاجور أن الناس في هذا العصر المادي الآلي السريع الحركة الدائم التجارب والتقلب بعيدون عن تذوق العمل الفني وتقديره التقدير الصحيح، إذ لا وقت عندهم لشيء من ذلك، وهم عاجزون تبعا لهذه الحالة عن تفهم الجمال الفني وعن التعبير عنه، وهو ينفي أن للنهضة العلمية أثرا في هذه الحالة التي يعدها من أعراض الشيخوخة، فإن الحاسة الشعرية في رأيه من صفات الشباب، فإذا ما فارقت بيئة من البيئات فقل: إنها في دور الشيخوخة الفنية.
ويلوح لنا أن هذه مظاهر عارضة في سيرة الأمم تبعا للظروف العامة فيها، وهي غالبا من رد الفعل لما قبلها، ومن العجيب أن هذه المظاهر قد تتحول من نقيض إلى نقيض، فقد تشغل المشاكل الاقتصادية أو الحربية أو السياسية أمة من الأمم شغلانا كبيرا فتصرفها إلى حد ما عن الأعمال الفنية الصرفة، وإن بقيت جذوة الفن تحت الرماد، وقد تكون نفس هذه المشاكل مما ينفخ ذلك الرماد فإذا بالفن مشتعل الجذوة يستعان به في غير مجاله أو يلجأ إليه للترفيه عن النفوس الكميدة. فالفن في ذاته عزاء كبير وسلوى عظيمة ومهذب خطير للذوق ونبراس لجمال الحياة، وهو إلى جانب ذلك وسيلة حيوية جليلة الخطر يمكن الانتفاع بها في خارج الدائرة الفنية المحضة. وسواء أكان هذا الفن شعرا أم موسيقى أم تصويرا أم نحتا أم غير ذلك، فكل هذه الاعتبارات جارية الأحكام عليه. وقد كان الفن منذ عهود الإنسان الأولى رفيقه في صورة من الصور وسيبقى رفيقه ومعينه، متحولا من مثال إلى آخر حسب العوامل الداعية إليه والمؤثرة فيه. وللشعر في كل هذا نصيبه، ولكن بديهي أن تكون العناية به نسبية بعد أن انقضى زمن التكسب بالشعر ولم يبق من وسائل الارتزاق التقليدي، وليس في هذا صدوف عن الشعر بل ارتفاع بمستواه عن درك التصنع والابتذال. وتاجور نفسه قد لقي ما لقي من الترحيب العالمي به بناء على منزلته الشعرية. والحرب العالمية نفسها كان للشعر نصيبه الطبيعي في ثقافتها ودعايتها. ولكن من الإسراف أن ننتظر من الشعر أن يحل محل سواه من عوامل التكوين أو التهذيب للأمم، وحسبنا أن لا تنكر عليه مكانته الطبيعية وما نرى أنها منكورة.
نعم لا ننكر أن بعض الأدباء يرى في الشعر ثرثرة فارغة، ولكن ذلك الحكم يوجه عادة إلى النظم المألوف الشائع المجرد من الروح الشعرية. وأما الشعر الإنساني الحي الذي يعالج الروح الإنسانية وينصر الفن عامة فهو عنصر من عناصر الحياة الذهنية، ولا يمكن التخلي عنه بتاتا، حتى ولو حولنا طاقته إلى فنون أخرى. ونحن لا ننكر أيضا - بل اعترفنا من قبل - أن جمهرة الأدباء لا ترضى عن الشعر الجديد، ولا تفهم من الشعر أكثر من أنه وسيلة خارجة عن الفن ومسرح للفكاهة وندوة للإخوانيات، وتحكم بأن الشعر الجديد المتعمق أو المتسامي لا حظ له من الحياة. ولكن هذا الحكم الرجعي لا يتمشى وملاحظات تاجور إلا تمشيا عرضيا، فالتاريخ الأدبي يثبت أن الشعر الفني القوي كان وما يزال وسوف يبقى عميق الأثر دائم التغلغل في حياة الشعوب وإن اعترض نفوذه وسلوكه من لا يفهمونه. ونحن في تعليقاتنا لا نعني غير هذا الشعر الحي ولا نحفل بسواه، ونؤمن بأن رسالته أبدية، فلا يمكن أن تستغني عنه أمة من الأمم أو بيئة من البيئات حتى ولو صدفت عنه وقتيا. فليؤمن الشعراء الحريون بهذه التسمية برسالتهم الفنية الإنسانية وليطلقوها حرة دون أن يبالوا بعزوف بيئاتهم لضعف في الشعور أو لخشونة في الذوق أو لتباين شديد في الطبائع أو لقلة استعداد للتحول الجديد، فكل هذا لن ينهض للحكم على مكانة الشعر الصحيح من الحياة المهذبة ولا على مبلغ أهليته للاعتزاز والخلود. •••
وقد يتمادى أولئك الجامدون في محاربة الشعر الحديث بينما ينادون بانعدام خطره! فقد طلب جماعة من الأشياخ محاكمة الشاعر صالح جودت لقصيدته «الإنسان الأول» التي صور فيها أوهام العقل الباطن في تفسير بدء الخليقة ونشوء الإنسان، كما لقينا قديما عنتا كبيرا إزاء قصيدتنا «الخالق الفنان» وأمثالها، مع أن مثل هذا الشعر من الشباب لا ينافي الإيمان الصميم.
Página desconocida
12
وقد أشار موريس جارسون في كتابه عن المحاكمات الشهيرة في العصر الحديث إلى ما أصاب الشاعر بوديلير من أجل ديوانه «أزهار الشر» الذي لم يمنع قرار الحكومة الفرنسية بمصادرته استمرار ظهوره لأن الناشرين لم ينقطعوا عن طبعه بالرغم من أن القانون لا يبيح ذلك، مما دعا الحكومة إلى التفكير في إلغاء هذا القرار، فالفن لا يقاوم ولا يصادر سواء أجاء متساميا أم متدليا.
وعندنا أنه بدل العنف في مصادرة الفن القوي يحسن بمن لا يرضون عنه أن يكتفوا بالتنبيه إلى نواحي الجمال فيه من حيث هو فن، ثم إلى أضراره من حيث ملابساته الأخرى. وأما المقاومة العنيفة للأذواق الفنية التي قد ترضينا من ناحية خلقية مثلا فتحكم وتعسف لا يجديان شيئا في محاربة الفن نفسه، فإن روحه القوية - كيفما كانت مظاهره - قبس خالد لا يمكن إطفاؤه. •••
وبالرغم مما يتخلل هذا التصدير من روح التبرم فإنه مفعم بالتفاؤل للمستقبل لأننا نلمح في الجيل الآتي روح البداية حيثما انتهينا، والقدرة على الاستيعاب الكلي لأساليبنا ودقائق فننا ثم التقدم بجراءة. وهذا هو التطور الصالح الذي نفرح به ونحييه في غير تحفظ ما دام صادق المبادئ لا يتذبذب. وبعد أن كنا نقول: «إن الحياة أشعة وظلال» فنسخط من نسخط من الجيل السابق لهذا التقرير الغريب، صار الجيل الجديد لا يرضى بهذا الإجمال ويأبى له ولنا إلا أن نتوسع في هذه الأحاسيس الجديدة والتحاليل الحديثة. ومن ثمة وجدنا من يصغي إلى تحليلنا للأطياف والأضواء إلى عواطف ومعان كما يحللها المنشور إلى ألوانها. ومن ثمة وجدنا لاشتراك المشاعر في التعبيرات الشعرية فاهمين مقدرين، بعد أن كان الجيل الماضي يضحك منها ولا يفهم أن يكون للنور شعر خاص، ولكن صفوة الخاصة من جيلنا الحاضر والشباب المثقف تفهمنا حينما نقول من الشاعر:
ليس إلاه يفهم النور والظل
ومعناهما بماضي العهود
وابتسام الأشجان في نظرة الفج
ر وإن كان في شعور الوليد
وأنين الغروب في الشفق الدا
مي وإن لاح رائعا من بعيد
Página desconocida
واختلاج الآلام في كل شيء
فاتن من جماله المعبود
صور حولنا لصفو وبث
في حنو يخال مثل الصدود
فإذا الشعر من يترجم عنها
عازفا للورى أماني الخلود
وإذا الشاعر الذي يحسن الف
ن حري بمجدنا المنشود
وليس بضائر أن تكون هذه أقلية ما دامت تحمل شعلة النهضة الفنية الصادقة للمستقبل. وأكبر أملي أن يكون الشباب الشاعر الجديد المرهف الإحساس أشجع منا فيما مضى، وأن لا يهمل نماذج شعره الجديد الغريب، وبحسبي أن أذكر هذا النموذج عن «باقة أنغام»:
إذا استمعت إليك
Página desconocida
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك
اصغي إلى هذه الألحان زاهية
كأنها نخب الأزهار للعين
فكل لحن له لون يضيء به
وجمعها باقة من زهرك الفني
وكل لحن عطر يفوح به
وإن تخيله غيري من الظن
وأنت كوني، وكوني في حقيقته
Página desconocida
جم المعاني التي غابت عن الكون
إذا استمعت إليك
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك
فهذا الشعر كان يعد في وقته
13
هذيانا أو جنونا، وهو إلى الآن من النظم المنبوذ في عرف كثيرين، ولكن من شعراء الشباب النابهين من لم يقاوم هذا الاشتراك بين المشاعر ومعاني التجاوب الفني بينها، فساعده ذلك التحرر والاستيعاب الفني لآثار من تقدمه من الرائدين على التجويد في إنتاجه الجديد تجويدا يملؤنا تفاؤلا وغبطة ولو كانت البيئة كلها صادفة عن هذه الضروب الفريدة من الشعر العصري.
وليس من العدل أن يعتبر أمثال هذا الشعر للجيل الناشئ تقليدا محضا لشعرنا وإن كنا لا ننكر أن عليه طابع التأثر بشعراء جيلنا، ولكن سرعان ما يتبع ذلك ظهور شخصيات الشعراء الناشئين، وبدايتهم بطراز جديد من الشعر. وليس مما يعيب بعضهم أن يقف وقوفا تاما على دقائق فننا واتجاهاته المنوعة وأن يستفيد من ذلك الاستفادة التامة التي تعينه على إنتاج أقوى مما ينتظر من سنه، وإنما الذي يعيبه أن يجحد هذه الحقيقة وأن يحاول قطع هذه الصلات الفنية بدوافع الوهم والغرور، مع أنه لولا هذه الصلات لما تمكن من بدايته الموفقة.
14
Página desconocida
ومن المظاهر المقترنة بهذا الشعر الحديث ألوان من التصوف العلمي بدل المبهمات والمعميات التي تشبع بها الشعر القديم، كما في قصيدة «الأشعة الكونية» وأخواتها، ومن أوضحها التصوف النوعي الذي يرى فيه الشاعر طمأنينته وخلاصه من أسر الفناء فيقول في تأسيه:
إني لملك لنوعي
15
لست أجحده
ولو جزائي ضراء وضراء
في عزلة كصلاة لا انتهاء لها
حين الطبيعة بكماء وغناء
أعطي زكاة حياتي ما أخلصه
من الحياة وأعطي الحب من شاءوا
ومن الظواهر الطيبة أن يحفل شعراء الجيل الناشئ أو على الأقل طليعته بهذه الروح التصوفية وبشعر الطبيعة عامة، وأن يقرنوا شعر الطبيعة بحب الزراع ومواطنهم الريفية. وأذكر أن هذا اللون كان ينتقد على شعري أثر عودتي من إنجلترا بعد غيبتي الطويلة، وكان بين أصدقائي من يدهشه عنايتي الخاصة بالفلاحة وبمشاهد الريف المصري وحنيني إلى موطن أسرتي في بلدة «قطور». ولعل شعوري هذا هو ما جعلني أعجب بشعراء الشباب الذين عطفوا على مواطنهم الريفية وأعلنوا شغفهم بها فجزيت محبتهم هذه بكل ما أملك من تشجيع. وإن أنس لا أنس في هذا المقام تقدير الشاعر الأرلندي العظيم أوليفر جولد سمث للزراع في قصيدته «القرية المهجورة»، فهم بلا شك العمود الفقري لكل أمة زراعية وفي عزتهم عزتها، والديمقراطية الصحيحة تبدأ بهم، ونهضتهم التعاونية هي سر نهضة الشعب وقوميته. وهذا الإيمان بالفلاحين وبالحضارة الريفية هو الباعث لشعري عنهم المتمشي في دواويني المختلفة، وفي هذا الديوان حظ منه في صور منوعة بين خاصة تمسهم مباشرة وعامة في ألوان من الشعر القومي.
Página desconocida
كذلك من مظاهر هذا الشعر الحديث التأمل في صغائر الأمور وعظائمها على السواء بنظرة نافذة كشافة، واقتران الحسيات بالمعنويات، وكثرة الألفاظ التصويرية، والتعبير الرمزي الجريء، واعتبار اللغة أداة لا غاية. ونظن أن هذه مظاهر لا تحتاج إلى دفاعنا عنها فهي وليدة النظرة الشعرية الشاملة. ومهما أسيء تفسير هذه المظاهر فلا يختلف اثنان في تعدد وجوه الكلمات العربية وسماحة أساليبها واتساع بيانها، وأن اللغة التي تحتمل الخلاف الكثير لا يجوز أن يضيق على شعرائها تضييقا تمليه الأهواء فإذا بها تجعل من هذا الشعر «مثلا أعلى» ومن نده «مثلا أدنى»! وقد أعجبتني بهذه المناسبة كلمة حصيفة لأحد نقادنا العصريين هو الأديب الفاضل محمد عطية يوسف قال فيها:
أنعى على الأدباء الذين يتصيدون الخطايا اللغوية تعبهم الضائع لأن لغتنا فيها بحمد الله لكل كلمة غير وجه ولكل عبارة غير توجيه، فإن كان مقصدهم ابتغاء المثل العليا فهذا سرف، وإن كان غرضهم إيهام الناس بأن لهم بصرا بالحروف فهذا غرور! ولم يتهيأ الكمال لأبي عبيدة والأصمعي وخلف الأحمر فقد لحنوا وصحفوا وهم هم، فكيف يتهيأ لفلان وعلان وترتان من أدباء اليوم؟!
ونكرر أن مثل هذه الملاحظة لا تعني شيئا من التهاون باللغة، وإنما تشير إلى أن الروح الفقهية لا تتفق وروح الفن، وأن حرية الشعراء الناضجين المستوعبين هي لخير الشعر واللغة، فهم رواد الابتداع في كثير من تعابيرها الرشيقة الحساسة. وليس بدعا إذن أن تجمع نظرتهم الحرة المستوعبة ما بين الحسيات والمعنويات، وأن تخترع الكثير من الألفاظ التصويرية، وأن ترى الشعر والفلسفة في المشاهد المألوفة، وشواهد ذلك في هذا الديوان وما قبله من دواويننا ليست بالتي يعتذر عنها، فروح العصر تمليها وستبثها وستشيعها في الشعر الجديد. وليس في شيء من هذا تقليد مقصود لأي ثقافة معينة فإن الروح العصرية روح أممية وهي في مصر تجمع بين نزعات الشرق والغرب، فمن الطبيعي المحمود أن تمثل ذلك ومن غير المحمود أن يتخلى شعرنا العصري عمدا عن هذه المؤثرات الطبيعية ثم يتعمد تقليد القدماء لينال رضاء المحافظين وهتافهم النابي بألمعيته!
وليس من شك في أن الإحساس في الشعر أسبق في القوة من قدرة التعبير ويجب أن يتضح أولا، كذلك لا شك في أن الشعر كالجمال يوجد لذاته، والشعر يمثل التجارب الوجدانية قبل أن يصفها وصفا سواء أجاء التعبير صريحا أم رمزيا، وليس لناقد أن يتعرض للشعر بنقده ما دام جاهلا لهذه العناصر.
16 •••
لا يسأل الشعر عن نفسية صاحبه، فخواطر الحكيم وخواطر المجنون وخواطر الطفل الساذج كلها شعر إذا عبر عنها بطريقة شعرية، ولكن أرقى الشعر هو ما لا ينافي في روحه الحقيقة العالمية. وهذا الشعر العالي يجب أن يكون مرآة صادقة للب الحياة الخالدة المتفائلة، ولا يجوز أن يكون التشاؤم فيه متناولا صميم الحياة، وإن جاز أن يتناول مظاهرها في ثورته على الباطل.
ولا مشاحة في أن الشعر الذي يساء به إلى الأدب لا يعبر عن شيء من ذلك، وإنما هو في غالبه لعب بالألفاظ وبالرنين. فكثير منه مغالطات في الحقائق ورجوع بالإنسانية إلى الوراء، لا يدعمه شيء من التصوف البصير، ولا من روح العلم المتفائل، ولا من الشعور بمجد البشرية، ولا من الإيمان بالطبيعة الحكيمة، ولا من الحماسة للحق والجمال. هذا الشعر السقيم بل هذا النظم العاثر عبارة عن صور أخرى لتشابيه واستعارات صناعية أو نماذج من شكوك الجهل وطغيان السوداوية أو صور من الأمراض النفسية، وسيان قدم لنا باسم المحافظة أو التجديد فلا قيمة فنية له ما دام بغيضا كريها مشوه الأداء لا يسنده شيء من الطبيعة الفنية.
إن الشعر في روحه وغايته توأم للفلسفة،
17
وجميع الأنبياء كانوا في روحهم شعراء، والشاعر الناضج لا يتجنب الدوافع الشعرية في كل شيء: في الطريق، في البيت، في المجتمع، في الوحدة، في الأرض، في السماء، في أتفه الحشرات، في أعظم الأجرام، كلها سواء عنده، وشاعريته الفنية تقبس منها جميعا عناصر الخير والجمال والحق.
Página desconocida
ولا شك عندنا في أن أسمى رسالة للشاعر هي النهوض بالإنسانية عن طريق هذا الفن الجميل، فهو مرب جليل يقدر «للذوق الفني» أثره، وهو في كل ما يعبر عنه - سواء جاء مرآة لشخصيته أو مرآة للمجتمع أو مرآة للإنسانية أو مرآة للحياة الكونية - إنما ينصر هذا «الذوق الفني» الذي يسير بالحياة إلى الأمام ويأبى لها الوقوف كما يأبى لها التشاؤم أو الفناء بالمعنى الحقيقي. فالحياة نوعية إن لم نقل عالمية، وهي أسمى من أن تحصر في فرد أو جنس. •••
هذه طائفة من النقط الفنية التي ازدحمت أمامي وأنا أكتب هذا التصدير، تناولتها تناولا عاما لمن تشوقهم معرفة آرائي فيها، أو إجابة على أسئلة بعض الأدباء النقاد، وإن كنت أعلم أن بينهم من يشوقه التحدث عن الأمداح الغثة التي نظمها السيد شهاب الدين في محمد علي وسعيد وإسماعيل أضعاف ما يعنيه الإلمام بخصائص هذا الشعر أو بنزعات شعراء الشباب النابهين، وبينهم من يحفلون بكل قديم على ضعفه ولا يأبهون لأي جديد على قوته، وقد تجاوزوا في كل هذا حدود الذوق والمعقول. ولو أني عمدت إلى تدوين جميع الخواطر التي تتصل بهذه النقط لاتسع بي مجال هذا التصدير اتساعا كبيرا لا يتفق وغايتي منه، وليس أقلها شأنا تحية أصدقائي المتفضلين بقراءته، المقبلين على ما بعده من شعر، فشعري من نفسي وأرواح أندادي.
أحمد زكي أبو شادي
ضاحية المطرية
في 30 نوفمبر سنة 1934
إهداء الديوان
إلى الغائب المحجوب عن عالم الثرى
إلى منشأ الدنيا إلى منتهى الورى
إلى ذلك الطلق الفضاء الذي به
تبعثر من حلم العلى ما تبعثرا
Página desconocida
إلى هذه الأجرام تمضي سريعة
وفي إثرها الفكر الجريء تعثرا
إلى هذه الأنوار جازت سفينها
ملايين من بحر السنين الذي جرى
1
إلى كل ما صان الوجود وهده
وجدده أضعاف أضعاف ما نرى
إلى الحب روح الكون أهدي عبادتي
وأنشرها شعرا صريحا ومضمرا
بعثت به فوق العباب عواطفا
Página desconocida