فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور
تأليف
أبي عبد الله الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي
تحقيق
محمد إبراهيم الكتاني
(عضو أكاديمية المملكة المغربية)
محمد حجي
(عميد كلية الآداب بالرباط)
Página desconocida
تقديم
أ - التعريف بالكتاب
كتاب فتح الشكور، في معرفة أعيان علماء التكرور ذو أهمية بالغة في تاريخ الثقافة العربية في مكان وزمان معين لا يكاد المختصون يعرفون عنهما إلا قليلا، وبذلك يسد فراغا كبيرا في المكتبة العربية فهو يشتمل على مائتي ترجمة لعلماء عاشوا في هذه المنطقة مدة تقرب من مائة وستين سنة (١٠٥٦ - ١٢١٥ - هـ/١٦٥٠ - ١٨٠٠ م).
يتضمن كثير من هذه التراجم تاريخ مولد المترجم، وأحيانا بتعيين اليوم والساعة، ومكان ولادته وتاريخ وفاته وتسمية أشياخه وما درسه عليهم من كتب وعلوم، وأحيانا أسانيده عنهم إلى مؤلفي هذه الكتب، وما درسه هو لطبته، وتسمية بعض من أخذوا عنه، ورحلته إن كانت له رحلة، وأسماء مؤلفاته إن كان مؤلفا، والوظائف التي تولاها من إمامة وقضاء وإفتاء، وصفاته الفاضلة من زهد وتقوى وصلاح واعتناء بالعلم وحرص على التعليم واهتمام بجمع الكتب إن كان له اعتناء بذلك وما أشبهه.
هكذا تقدم هذه التراجم معلومات قيمة للباحثين عن مراكز الدراسة وموضوعاتها وكتب الدراسة وصلة المشيخة والتلمذة بين الأجيال، والتأثر
1 / 5
والتأثير بين مراكز الثقافة العربية المختلفة في هذه المرحلة، وأسماء كتب التراث العربي التي كانت موجودة في المنطقة والتي كان أهل العلم يستفيدون منها إذ ذاك، وأسماء مؤلفات علماء التكرور التي ساهموا بها في المحصول الضخم للمؤلفات العربية عبر القرون المتعاقبة في مختلف أقاليم آسيا وإفريقيا وأوروبا، والتي تتظافر جهود الباحثين منذ أجيال لمحاولة إحصائها والتعرف عليها وعلى مراكزها في العالم.
وإذا كانت الملاحظة العامة التي يخرج بها قارئ هذه التراجم هي أن أصحابها - في الأغلب الأعم - كانوا مرددين لما قاله من قبلهم حيث انحصرت معلوماتهم في المتون والشروح والحواشي والتعاليق، وكذلك كان إنتاجهم، فإن الذنب في ذلك كان ذنب العصر الذي اتسمت الثقافة العربية فيه في المشرق والمغرب على السواء بالجمود والركود والتقليد وتكرار ما قيل من قبل. على أنه يجب ألا ننسى فضل هؤلاء المقلدين المرددين لما قيل من قبل في مساهمتهم في مناطق نائية ومنعزلة عن مراكز الثقافة العربية الكبرى بفاس وتونس والقاهرة، حيث لم يستطع الاتصال بهذه المناطق من المترجمين في الكتاب إلا أفراد معدودون.
ولم يستفد من هذا المصدر القيم: لا كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي وذيله بالألمانية، ولا إسماعيل باشا البغدادي في أي من كتابيه إيضاح المكنون، في الذيل على كشف الظنون، وهدية العارفين، إلى أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، ولا صاحب فرس الفهارس - مع ما كان له من إطلاع واسع في هذا المجال -، ولا القاضي عباس بن إبراهيم المراكشي في الإعلام، بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، ولا صديقنا المرحوم خير الدين الزركلي في الأعلام، وفي آخر لقاء لي معه ببيروت حدثته عن فتح الشكور، فقال لي ﵀: ذلك عالم لا نكاد نعرف عنه شيئا؛ ولا رضا كحالة في معجم المؤلفين. ولا الدكتور حسن أحمد محمود في كتابه الحافل الثقافة العربية في إفريقيا. كما لا نعرف أحدا من
1 / 6
المؤلفين المغاربة اطلع عليه أو أشار إليه، بما فيهم المؤلفون الصحراويون أو مؤلفو غرب إفريقيا فيما وصل إلينا من مؤلفاتهم العديدة وإذا كان صاحب الوسيط في أدباء شنجيط قد ذكر بعض المترجمين في فتح الشكور، فإن اهتمامه من الدرجة الأولى كان بالأدباء بينما اهتمام الفتح بالعلماء.
وفي خريف سنة ١٩٦٤ اطلعت - صدفة، - على العدد الأول من مجلة البحوث وهي فصليّة يصدرها بالانجليزية وقليل من العربية مركز تقييد المخطوطات العربية بمركز الدراسات الإفريقية بجامعة أبادن (نيجريا) وإذا بي أعثر على حديث قصير بالانجليزية عن مخطوط فتح الشكور بقلم الأستاذ الانجليزي المسلم، ج. أوهنويك الذي سمى نفسه بعد إسلامه عبد الرزاق هنويك، سكرتير مركز البحوث. وذكر في هذا المقال: أن الكتاب يعتبر ذيلا على كل من كتاب نيل الإبتهاج لأحمد بابا، وكتاب تاريخ السودان للسعدي، وأنه توجد منه مخطوطتان: إحداهما في مكتبة المعهد الفرنسي بباريس تحت رقم والأخرى في مكتبة الشيخ المختار. ولد حامدون بنواق الشط (موريطانيا) وأن معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن حصل على شريطين مصورين عن النسختين، ثم أورد في آخر العدد فهرسا بالعربية في ١٧ صفحة يتضمن أسماء ووفيات المترجمين في الكتاب. وقد تبين لي من قراءة هذا الفهرس الأهمية البالغة لهذا المخطوط في موضوعه، خصوصا فيما يتعلق بالصلات المغربية الصحراوية في المرحلة التي يؤرخ لها، وعلى الأخص بين المراكز الثقافية في الصحراء ومراكز كل من فاس ومراكش وسوس، وهي المراكز التي قامت بدور فعال في نشر الثقافة الإسلامية العربية في الصحراء وجنوبها، وطبعت ثقافتها بالطابع المغربي الصميم، كما هو معلوم، وكما تحدث عن ذلك بموضوعية وتفصيل ونزاهة وإنصاف العلامة المصري الكبير الدكتور حسن أحمد محمود في كتابه الحافل الإسلام والثقافة العربية
1 / 7
في إفريقيا، القاهرة ١٩٥٨، مكتبة النهضة المصرية ج أول، ص ٤٨٩، وسنة ١٩٦٣ دار النهضة العربية ص ٥١٦.
ولا أحصي كم بذلت خلال عدة سنوات من جهود مضنية للحصول على صورة للمخطوط لا فائدة من سردها هنا، وعندما نجحت في الحصول على شريط مفكك الأوصال عن مصور معهد لندرة، تبين لي بعد إخرجه على الورق أنه تنقصه كثير من الأوراق في محلات كثيرة، إلى جانب عدم إمكان ترتيب الموجود من أوراقه مع بعضها، لانعدام وجود ما يسميه الوراقون المغاربة بالرقاص، وهو الكلمة الأخيرة في الصفحة والتي تعاد في أوائل الصفحة الموالية.
ثم عندما حصلت على مصورة من مخطوط المعهد الفرنسي وجدت أن ناسخها أسقط من أثنائها ما يوازي ٣٤ ورقة من مخطوطة نواق الشط، وهو نحو ثلث الكتاب.
وعندما عين الصديق الأستاذ قاسم الزهيري سفيرا للمغرب في نواق الشط زارني مودعا وسألني عما إذا كان لي غرض هناك، فحدثته بقصه فتح الشكور، فما عاد للمغرب إلا وهو يحمل - شكر الله له - مخطوطة الكتاب التي صور عنها شريط معهد لندن، وإذا بها ناقصة من أولها وآخرها وإذا بها قد ضاع منها أوراق كانت موجودة بها عند تصوير الشريط.
وهكذا تمكنت من إتمام مخطوطة الشيخ المختار ولد حامدون بإضافة ما ينقصها من الأول والأخير من مخطوطة المعهد الفرنسي وبإضافة الأوراق التي ضاعت منها بعد تصوير الشريط.
وعندما كان الأخ الدكتور محمد حجي يحضر أطروحة لنيل دكتوراه الدولة عن الحياة الثقافية في المغرب السعدي أعرته الكتاب ليستفيد منه في بحثه واتفقنا على التعاون على تحقيقه ونشره.
والتقيت في مؤتمر اتحاد كتاب المغرب العربي في طرابلس الغرب
1 / 8
سنة ١٩٧٧ مع من أخبرني بوجود ثلاث مخطوطات من الكتاب بمركز المخطوطات العربيّة بنواق الشط، ووعدني بإرسال شريط منها، ولكنه كان وعد عرقوب. وعند عودتي للرباط أخبرت الدكتور محمد حجي فكتب لأحد طلبته الموريطانيين، وتوصلنا بالنسخة الثالثة.
ب - وصف نسخ المخطوطات
النسخة الأولى، نسخة الشيخ المختار ولد حامدون بنواق الشط، تقع في ٩٧ ورقة ومسطرتها ١٨ وقد ضاعت منها الورقة الأولى، والصفحات ٦٦، ٦٧، ٦٨، ٦٩، ٧٠، ٧١، ١٩٠ و١٩١ و١٩٢، كما أن الصفحات، ٦٤، ٦٥، ١٦٠، ١٦١ ممزقة تمزيقا فادحا جعلها في حكم الضائعة. وهي بخط مغربي صحراوي واضح، كتبت فيه أسماء المترجمين وعناوين الحروف الهجائية بالأحمر أحيانا وبالأسود الغليظ أحيانا أخرى، وكذلك سنوات الوفيات بالأسود الغليظ دائما وتغلب عليها الصحة، ونظرا لضياع آخرها فأنا لا أعرف شيئا عن ناسخها ولا تاريخ نسخها.
والنسخة الثانية نسخة المعهد الفرنسي بباريس، تقع في ٦٨ ورقة بخط مغربي جميل وواضح وهي خالية من تسمية الناسخ وتاريخ النسخ.
أما النسخة الثالثة فهي نسخة مركز المخطوطات العربية بنواق الشط، تقع في مائة صفحة، ومسطرتها ٢٤ في الغالب، وتزيد أحيانا على ذلك حتى تبلغ ٣٤ تامة لم يضع من أولها وآخرها شيء، كتبت بخط مغربي صحراوي مليح مدمج قليلا، أسماء المترجمين وعناوين الحروف الهجائية بلون مغاير، وفيها طرر قليلة مفيدة، ويشكل الناسخ - وهو صحراوي على ما يظهر - الكلمات الصعبة بالشكل التام، سواء منها الاعلام البشرية أو الجغرافية. . إلا أنه لم يذكر اسمه ولا تاريخ النسخ واكتفي في الأخير بكتابة هذه العبارة: «انتهت التراجم بحمد الله وحسن عونه، والحمد لله رب العالمين».
1 / 9
ج - الطابع المغربي للثقافة العربية في بلاد التكرور
يتجلى هذا الطابع في مظاهر متعددة:
١) - كتابة الكتروريين على طريقة المغاربة في الخط وإعجام الحروف وترتيبها، وعلى ذلك سار المؤلف، في فتح الشكور، ونبه عليه في المقدمة.
٢) - في عقيدتهم الاشعرية، ومذهبهم المالكي، وانتمائهم لطريقة الجنيد.
٣) - وإذا نحن رجعنا إلى كتب الدراسة عندهم، فإننا نجدها في الأغلب الأعم نفس كتب الدراسة في فاس وفي تونس وفي القاهرة، وهي في المشرق وفي المغرب لمؤلفين مشارقة وآخرين مغاربة، إذ لم تكن لها صبغة إقليمية كما هو معلوم، باستثناء بعض الكتب التي انفردت بعض المراكز بدراستها، وكذلك هم انفردوا بدراسة كتب قليلة.
ونجد من المؤلفات، الدراسية المغربية عندهم:
الشفا للقاضي عياض، وهو كتاب ملأ فراغا في المكتبة الإسلامية في العالم الإسلامي كله لم يملأه سواه. ودلائل الخيرات للجزولي، ومقدمة ابن آجروم، وشرح المكودي على ألفية ابن مالك، والبسط والتعريف في علم التصريف للمكودي أيضا، ولامية ابن المجراد السلوي في الجمل والمرشد المعين لابن عاشر الفاسي، ولامية الزقاق، والمنهج المنتخب في قواعد المذهب للزقاق أيضا، وشرح الشريف السبتي على الخزرجية في العروض، والدرر اللوامع في قراءة نافع لابن بري، وإضاءة الدجنة، في عقائد أهل السنة لأحمد المقري، والطرفة في مصطلح الحديث، لمحمد العربي الفاسي ونظم أبي مقرع، في التوقيت، ونظم
1 / 10
المقنع للمرغيثي وشرح الحكم العطائية للشيخ زورق الفاسي، والمدخل لابن الحاج الفاسي، وجامع المعيار للونشريسي.
٤) - ومن المراجع المغربية كذلك عندهم:
شرح أبي الحسن الصغير الفاسي على المدونة، وكتاب المراصد في التوحيد لمحمد العربي الفاسي، ومنظومة الذكاة له، ونوازل عبد القادر الفاسي، ونظم العمل الفاسي وشرحه لولده أبي زيد، وتكميل المرام في شرح شواهد ابن هشام لمحمد بن عبد القادر الفاسي، ومطالع المسرات في شرح دلائل الخيرات للمهدي الفاسي، والأنوار السنية للشريف أحمد بن محمد بن أحمد، ورحلة ابن بطوطة، ونوازل الورزازي، وفهرست ابن يعقوب الولالي المراكشي، وإشراق البدر على عدد أهل بدر لأحمد بن علي السوسي، ومختصر أبي عبد الله الفلالي، ونظم الدول للفاسي.
٥) - وإلى جانب دراسة التكروربين لمؤلفات المغاربة وروايتهم لها بالسند والإعتماد وقد وضعوا الشروح والحواشي والتعاليق على بعضها أو اختصروها، وهكذا نجد الشريف محمد بن الإمام أحمد الإدريسي قد شرح كتاب البسط والتعريف للمكودي، وشرح عبد الله بن محمد البوحسني إضاءة الدجنة للمقري، وابن الحاج لمين التواتي الغلاوي نظم المقنع لابن سعيد المرغيثي السوسي بشرح سماه كشف الغمة في نفع الأمة. وشرح الآجرومية كل من: عبد الله اند عبد الله بن أحمد الولاتي، والقاضي أحمد بن اندغمحمد بالفتوح القومية، ونضيف أن هذا الشرح كان من كتب الدراسة بالقرويين بفاس وطبع بها مرتين. إحداهما بحاشية الشيخ المهدي الوزاني. كما أن شيخنا العلامة محمد بن عبد المجيد أقصبي له حاشية عليه، وقد نظم الحاج أحمد بن اند عبد الله بن علي الولاتي ثم المحجوبي أسماء النبي ﷺ الواردة في دلائل الخيرات، وشرح قاضي ولاته اند عبد الله بن أحمد لولاتي المحجوبي لامية الزقاق بمجلد ضخم
1 / 11
سماه فك الوثاق على لامية الزقاق، وشرح عبد الله بن أحمد بن المصطفى الغلاوي الأحمدي الشنجيطي الدرر اللوامع لابن بري، واختصرها في نظم جرى فيه على ما به الأخذ، ثم شرحه، كما نظم نوازل الوزاني وشرح اليوسفية فيما قبل؛ ونظم أحمد بن محمد بن موسى بن ايجل الزيدي وفيات التكروريين على روي الوفيات الفشتالية. وهناك غيره كثير من الصحراويين المعجبين بوفيات الفشتالي ينظمون أبياتا على نظمها في تراجم الشيوخ.
٦) - وفي ميدان الأسانيد نجد - مثلا - شيخ الجماعة ببلاد التكرور أبا عبد الله محمد بن المختار بن الأعمش يجيز تلميذه محمد بن الحاج عثمان الجماني بقراءة نافع، كما أجازه الحاج المختار بن محمد، عن الإمام المحقق أستاذ المغرب كله بل أستاذ الدنيا كلها - حسب عبارته - أبي زيد عبد الرحمن بن القاسم ابن القاضي الفاسي، عن شيخه عبد الرحمن بن عبد الواحد عن الشريف المريني، عن القاسم بن إبراهيم الدكالي، عن الإمام ابن غازي، عن الصغير، عن أبي العباس أحمد الفلالي، عن أبي عبد الله الفخار، عن أبي العباس أحمد الزواوي، عن أبي الحسن بن سليمان الخ. وأجازه أن يروي عنه كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ للقاضي عياض، كما سمعه منه بحق إجازته عن الحاج عبد الله بن محمد بن أحمد بن عيسى المغربي (البوحسني) عن الإمام الحافظ الجليل ذي التصانيف العجيبة ابي عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر الدلائي، عن والده عن الإمام محمد بن قاسم بن محمد بن علي القيسي الغرناطي الفاسي الشهير بالقصار الخ. وأخذ أحمد الشواف الوداني المصافحة والمشابكة سلسلة عن شيخه أحمد بن محمد بن خالد الجرسيفي السوسي عن أحمد بن أبي القاسم بن عبد الله الجرسيفي، عن سعيد بن عبد الله التملي عن عبد الرحمان بن محمد التلمساني نزيل تارودانت قاعدة السوس الأقصى، عن يحيى بن عبد الله بن
1 / 12
سعيد بن عبد المنعم الحاحي المناني، عن أحمد بن محمد بن أحمد بن ءادفال السوساني الدرعي الخ وهؤلاء كلهم مغاربة.
٧) - ومن مظاهر ذلك أيضا الرحلة لطلب العلم.
فعبد الرحمن التميمي المكي نزيل تمبكتو رحل إلى فاس لدراسة الفقه المالكي ثم عاد إلى تمبكتو، وأخذ أبو بكر التواجيوي عن أحمد الحبيب اللمطي السجلماسي، ورحل عبد الله بن بكر انتواجيوي عن أحمد الحبيب اللمطي السجلماسي؛ ورحل عبد الله بن أبي بكر التواجيوي إلى أحمد الحبيب وقرأ عليه وأتى بخزانة نفيسة. كما رحل عمر الخطاب البرتلي لزيارته أيضا. وأخذ عبد الله بن حم بن القاضي عبد الله الشنجيطي عن عدة من الأشياخ الجلة الذين أدركهم في المغرب الأقصى وسوس الأدنى، كأبي مدين القاضي الأكبر، وأحمد بن يعقوب الولالي، وتقدم قريبا ذكره.
وأخذ أحمد الشواف الواداني المصافحة والمشابكة مسلسلة عن شيخه أحمد بن محمد بن خالد الجرسيفي. وصحب أبو بكر بن الحاج عيسى بن أبي هريرة الغلاوي الشيخ أحمد بن محمد ابن ناصر في رحلته للحج، وأخذ عنه الورد، وكان يصلي به، ونهاه عن شرب الدخان فتخلى عن شربه.
ورحل عبد الله بن عبد الرحمن الشمشاوي الديماني الونكلي إلى الخليفة سيدي محمد بن مولاي عبد الله بن مولاي إسماعيل لطلب الكتب، فاختبره في العلم فأعجبه وعظمه وأعطاه خزانة كتب كبيرة نفيسة جدا. - وهو صاحب مراقي السعود المطبوع بالمغرب مرتين.
ولعبد الله بن معمر بن القاضي عبد الله الشنجيطي العلوي قصيدة في مدح مولاي محمد العالم بن أمير المؤمنين مولاي إسماعيل.
وذكر المؤلف أن أحمد الشواف بن حبيب الله الواداني الحاجي
1 / 13
الوتيدي أخبر في وادان بموت أمير المؤمنين إسماعيل في اليوم الذي مات فيه. كما ذكر المؤلف في ترجمة المختار بن سعيد المعروف بابن بون الجكاني، أنه لما ظهرت مقالات المجيدري بالمغرب الأقصى رد عليه وأنكرها.
والمجيدري هذا هو محمد بن حبيب الله المجيدري الشنجيطي، كان داعية للعمل بالقرآن والحديث ونبذ التقليد المذهبي، ولم يترجمه صاحب فتح الشكور، لأنه لم يعتبره من أعيان العلماء، وإن كان قد ورد ذكره عنده كثيرا أثناء تراجم معاصريه الذين ردوا عليه.
وترجمه أحمد بن الأمين الشنجيطي في الوسيط في تراجم أدباء شنجيط (ص ٢١٤ - ٢١٦) فقال عنه: إنه العالم الوحيد، الذي ما له من نديد، وإنه اتصل بالسلطان سيدي محمد بن عبد الله ونال الحظوة عنده.
انتهى. ومدحه المأمون بن محمد الصوفي اليعقوبي بقصيدة طنانة وصفه فيها بالمجدد ونوه بما حازه من تقدير في المشرق وقال بعد ما أشاد بفاس وأهلها الذين عرفوا فضله ونوهوا به.
بلاه أمير المؤمنين محمد ... وعاشره بالبحث حينا من الدهر
وقد كان للإسلام بالنهج راعيا ... وناهيك من ذي فطنة عالم حر
فنادى عليه في نوادي حضاره ... بما ضمن استحقاقة رتبة الصدر
٨) - وأخذ الحاج أحمد بن علي بن الطالب الوافي الغلاوي الطريقة الناصرية الغازية عن أحمد بن عبد القادر. وممن أخذها عنه هو الطالب الأمين بن الطالب الحبيب، والفقيه محمد بن الطالب أعمر البرتلي.
وفي الكتاب ترجمة حافلة للشيخ مولاي عبد المالك بن مولاي عبد الله الركاني الناصري الطريقة. ولمولاي زيدان بن محمد بن أحمد الذي قدم إلى بلاد التكرور أربع مرات داعيا لشيخه مولاي عبد المالك الركاني، وكان مؤلف الكتاب نفسه منتسبا لهذه الطريقة.
1 / 14
٩) - ومن المترجمين في الكتاب من المغاربة:
أحمد البكاي بن محمد الكنتي، الذي يذكر الشيخ المختار الكنتي في كتابه الإرشاد وولده محمد في كتابه الطريقة أنه أول من انتقل من جدودهم من المغرب إلى الصحراء؛ وأحمد بابا التنبكتي، ومن المعلوم أنه عاش بمراكش مدة، ودرس فيها وأفتى وألف كثيرا من مؤلفاته، ومنها نيل الإبتهاج وكفاية المحتاج الذين ألفهما برسم خزانة السلطان أحمد المنصور السعدي؛ وأحمد التواتي والحاج أحمد الأمين التواتي، والفقيه أبو القاسم التواتي، وعلي الجزولي إمام مسجد تمبكتو، ومحمد بن عثمان بن عمر الولي دفين تارودانت قاعدة السوس الأقصى، وحرمة بن عبد الجليل بن القاضي العلوي المغربي، وابن بطوطة، والشريف محمد السني السجلماسي، والشريف محمد بن الإمام أحمد الحسني الإدريسي، وعبد الله بن محمد البوحسيني المغربي، والشريف المختار بن أحمد الإدريسي، وعبد الله بن محمد بهوجني المغربي، ومحمود بن عمر أقيت، وعمر بن الحاج أحمد أقيت، وعمر بن محمود أقيت، وعبد الرحمان بن محمود بن عمر، وأربعتهم مدفونون بمراكش، ومحمد بن الحاج عبد الله العلوشي المدرس بمراكش ودفينها.
وبلغ المؤلف قمة الطرافة عندما ترجم بين أعيان علماء التكرور أعلام الأسرة الفاسية الفهرية: أبي المحاسن، وولده محمد العربي، وأبي السعود، وولده أبي زيد، ومحمد المهدي، وقال إنه أراد بالترجمة لهم التبرك بذكرهم.
١٠) - وترد في الكتاب أسماء كثير من المغاربة، كعلي بن عبد الواحد الأنصاري السجلماسي، وعبد السلام بن مشيش، ومحمد بن سليمان الجزولي، ومحمد ميارة الفاسي، والحاج أحمد بن الحاج محمد مهدي التواتي ثم المراكشي، ومحمد الأمين بن عبد الوهاب الفلالي، ومحمد ابن أبي زيان، والإمام الزموري، ومبارك الغبري، وزيان
1 / 15
المغربي، وعبد العزيز اللمطي، وقاضي الجماعة بفاس أبو القاسم بن أبي النعيم الغساني، وقاضي مكناسة أبو العباس ابن القاسم، وقاضي الجماعة بمراكش محمد بن عبد الرحمان الرجراجي، ومفتي مراكش الرجراجي، وأبو جمعة مسعود بن سعيد الماغوسي المراكشي، والشريف مولاي أحمد الذهبي، وأحمد الخياط الفاسي، والهشتوكي الخ.
د - عملنا في التحقيق
لقد اهتممنا بإخراج نسخة تامة وصحيحة بقدر الإمكان، فاعتمدنا نسخة الشيخ المختار بن حامدون، ورمزنا لها بحرف ألف وقابلنا بينها وبين النسختين الأخيرتين، وأتممنا منها ما ينقصها من كلمات أو جمل، وسجلنا أسفل الصفحات الفروق بين النسخ إلا نادرا، ولم نرد أن نثقل النص بالتعاليق والاحالات حرصا على الإسراع بتقديمه للطبع ليستفيد منه القراء، وذلك ما جعلنا نلغي ما كنا عازمين عليه من الإشارة إلى مراجع تراجم بعض المترجمين.
ولما كان أحد تلامذة المؤلف قد كتب له ترجمة - بعد وفاته - وأضافها لتراجم الكتاب، فقد رأينا من الأنسب أن نجعلها في أول الكتاب حتى يستطيع القارئ التعرف أولا على مؤلف الكتاب.
الرباط في ٢٥ ذي الحجة الحرام ١٤٠٠
٤ نوفمبر ١٩٨٠
محمد إبراهيم الكتاني.
1 / 16
ترجمة المؤلف
بقلم أحد تلاميذه
هو محمد عبد الله (بن أبي بكر الصديق بن عبد الله) (^١) بن محمد ابن الطالب علي بنّان (^٢) البرتلي، عرف بالطالب محمد بن أبي بكر الصديق.
وهو الإمام المشهور العلامة الحجة الحافظ المطلع المحقق الكبير الثقة الثبت الفقيه النظار المجتهد المصنف التقي النقي الصالح الزاهد الورع البركة الخاشع الأواب المفسر المحدث الحافظ المسند الرواية (كذا) الأصولي الفروعي الأستاذ المقرئ المجود النحوي اللغوي البياني العروضي المتفنن الصوفي المتخلق ولي الله تعالى العارف به الأوحد الآخذ من كل فن أوفر نصيب، الراتع من كل علم مرعى خصيب، المفتي الشهير السني سني الراحة، آخر السادات (كذا) الاعلام، سليل أكابر الأفضال، الآخذ من المنقول والمعقول والحقيقة البديعة، والأبحاث الأنيقة الغريبة، المتفق على علمه وصلاحه وهديه، ممن قل سماح الزمان بمثله. من الأفراد العلية في فنون الشرع وصلاح الأحوال، شيخ الإسلام الذي له القدم الراسخ والرحب الواسع في كل مشكل، حامل لواء السنة
_________
(^١) ما بين قوسين ساقط من ج. وبالمقارنة مع ما كرره كاتب الترجمة بعد نحو ١٥ سطرا يظهر أنه سقطت كلمة «أبو» قبل عبد الله المكرر في السطر الأول، وبذلك يكون المؤلف هو أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الصديق بن أبي عبد الله محمد الخ.
(^٢) في أوب: قبان، ويظهر أنه تصحيف.
1 / 17
ومدحض البدعة، ذو الكرامات والاستقامات سيف الله على ذوي البدع، ممن عظمت بركة الله على خلقه، معدن الصدق والعلم، وزناد الفهم، وكيمياء السعادة، وكنز الإفادة، شيخنا أبو عبد الله الطالب محمد (^٣) بن الشيخ العابد أبي بكر الصديق ابن الشيخ الصالح الزاهد محمد بن الولي التقي النقي الطالب علي بنّان رحمهم الله تعالى. وكان رحمه الله تعالى كثير الورع جدا، وله خصائل وتواليف عديدة، جعل على صغرى السنوسي شراحا الثاني والرابع (كذا) قبل وفاته ومنعه القدر وإنا لله وإنا إليه راجعون. وله شرح على أسماء الله تعالى الحسنى، وله شرح على السلّم، ونسب الشرفاء ذرية مولاي الشريف، وتأليف في تراجم علماء التكرور، وتأليف في علم السر، وتأليف في علم التاريخ. وله أنظام كثيرة، منها نظمه في ندب السواك. وفوائده أيضا وتصانيفه كثيرة، لا يعرفها إلا من أحاط بكتبه، لأنه ممن دفن وجوده في أرض الخمول.
أخذ التوحيد عن الشيخ العارف بالله الطالب أحمد بن عمر بن الوافي المحضري، والرسالة عن شيخ أشياخنا الطالب الأمين بن الطالب الحبيب الحرشي، وخليل عن الفقيه السيد الحسن بن الطالب أحمد بن علي دكان البرتلي، وألفية ابن مالك عن الإمام عمر مم المحجوبي. ولا أدري الأفضل مع أن كلا منهما (إمام) مسجد ودخلة أمن (كذا) وأخذ غير هذه التواليف عن غير هؤلاء الأفاضل، مع أنه لا يرد لوحا رحمه الله تعالى.
وكان معتكفا على الطاعة في حركاته وسكناته. وكان أبغض الخلق إليه من يشغله، ومن ذلك دخل عليه بعض تلاميذه يوما فوجده مشتغلا في غير الصلاة، فقال يا شيخنا قد أتى الخبر اليوم عن قبيلتين من المغافرة اقتتلا فغلبت إحداهما الأخرى، وكانت المغلوبة أضر لنا من الغالبة. فقال الشيخ يا ليت كلاهما قتلت من الأخرى مائتين. فقال له يا شيخي: ألم تعلم أن الفلانية أضر لنا، فقال الشيخ اصمت عني شغلتني. ومن ذلك
_________
(^٣) في بعض المخطوطات أقحمت كلمة «ابن» بين الطالب ومحمد.
1 / 18
أهدى له رجل بقرة فأتاه بعد ذلك يكتب له حكما في خصومة أو مثلها، فقال له الشيخ: أنت أحسنت إلي، ولكن إن كنت تريد بإحسانك إلي شغلي عما هو أنفع لي من هذا، فخذ بقرتك عني. وكان يحب أشياخه جميعا ويعظمهم ويمدحهم إذا ذكر عنده أحد من أهل الكرامات يقول هو:
حسبي بشيخي فلان. وكانت التلاميذ إذا أرادوا أن يشغلوه عن تفسير أحدهم، سأله أحدهم بصوت خفي فيبلغه التلاميذ بقولهم، قال فلان أحقا أن شيخك فلانا يعرف بعض الفن الفلاني، فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون، ويضع الورقات من يده، وتارة يعطيهن لأحد، فيلتفت مسرعا يقول: من هذا؟ ما أحمقه! فإن شيخي فلانا يعرف كذا وكذا، وجعل يمدحه حتى يمكث ساعة من النهار. ومن ورعه كان لا يفسر إلا في الكتاب. وكان ذات يوم يفسر لأحد التلاميذ فسأله عن كلمة فلم يجاوبه، فسأله أيضا وهو ينظر الكتاب، ثم أعاد السؤال، قال الشيخ: دعني لم أرها في كتاب. وكان ذا جاه مهابا مطاعا. كان إذا خرج من المسجد لا يمر بقوم إلا قاموا بوجهه ليضعوا أيديهم على رأسه. وكان لا يصلي في المسجد إلا الظهر والعصر والعشاء لأن المغرب والصبح كثيرا ما تخلف فيهما الناس. وكان يؤذن، وأذانه هو آخر الأذان. قيل له في ذلك، قال غرضي من كان عازما على الصلاة في المسجد، إذا سمع أذاني علم أن الصلاة حانت فينهض مسرعا. وكان كثير الورع والإعراض عن الدنيا، لأنه كان لا يدخر شيئا لغد، وتأتيه الهدايا من كل جهة فيستريح منها حين إتيانها ولا يلتفت إليها. وكانت همته الكتب وكان منظرا لها، حتى حكى أنه كان يوما مع أصحابه يتحدثون إلى أن بلغوا نعيم، فكلهم قال منيتي كذا وكذا، فقال هو منيتي كثير من الكتب، فأكون بينهم تارة أنظر وتارة أقرا. وكان ورعا جميل الخلق، فقد أخذ من خلقه ﷺ، دائم البشر متواصل الأحزان، وكان كثير الصمت مستعملا قوله تعالى ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ الآية. وكان مطاعا إذا أمر بشيء لا
1 / 19
يفعل إلا ما قال. وكان يدخل السرور على المذنبين ويدعو في كل ساعة وحين، وكان إذا حبس الممطر وذهب الناس لصلاة الاستسقاء، سمعته يوما يقول: لن تزالوا بخير ما دمتم على بعض سنته ﷺ. حدثني بعض التلاميذ أنه كان ينام معه شهورا فقال: ينام أول الليل ويستيقظ جوفه، ومن ثم لا ينام إلى الصبح. فقال لي: قمت ليلة فوجدته مضطجعا في لحافه أحسب أنه نائم، فلما أصغيت سمعي له سمعته يذكر الله بقلب حزين مع التدبر، وكان فعله ديمة، لأنه يقرأ كل يوم من القرآن ربع حزب ثلاث مرات الأولى في مصحف. صحيح، والثانية في مصحف مهبط (^٤)، والثالثة يقرؤه في رأسه. وكان لا تاخذه في الله لومة لائم، وإذا عزم توكل، وإذا حدّث صدق، وإذا عاهد وفى، وإذا غضب عفا، وإذا خاطبة الجاهل قال سلاما. وممن قال الله تعالى فيهم في كتابه العزيز ﴿وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ الآيات. وكان ورعا يبغض أعداء الله ويحب أولياءه، وقد قص قصته مع اليهوديين اللذين أتيا مع الشريف مولاي الحسن بن مولاي عبد القادر إمامي، وهي أنه لما رأى اليهوديين أبغضهما حق البغض، وأتى الشريف المذكور فقال له: خذ العشر من صاحبي الشيطان الذي عندك! قال إنهما ضيفاي، فقال له الشيخ: إن لم تأخذه منهما أغريت عليهما أحدا من المغافرة، فأقول له إنه أحلّ عليك من لبن أمك. فقبل الشريف أن يأخذه بنفسه، ولكن قال للشيخ: أحضرني لآخذ منهما ما قلت، قال الشيخ: نعم وأحل، والله ما أحب علي منهما شيء. فلما كان الغد أتى الشيخ ومعه رجلان من عشيرته، فعشّروا مال اليهوديين كلّه، فأعطوا عشره للشريف. فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أتى أحد اليهوديين للشيخ بجزية، فلما بلغ الدار أرسل إلى الشيخ رسولا فأتاه الشيخ يحسب أنه غيره. فلما رآه عبس في وجهه، قال: ما أتى بك يا
_________
(^٤) لعله يقصد الهبطي إمام القراء وهو صاحب وقف القرآن.
1 / 20
ذمي؟ قال له اليهودي: أريد أن أقول لك شيئا. فلما أراد اليهودي الدخول إلى البيت، قال الشيخ له: إليك إليك! لا تدخل! فخرج إليه الشيخ مسرعا خيفة أن يدخل، فأجلسه في قدم الطريق، قيل له في ذلك، قال غرضي أن يؤذوه الناس بمرورهم لعلهم يطؤون ثيابه ويمزقوها. فلما اطمأنّ اليهودي في الأرض، كشف له عن هدية كبيرة.
فلما رآها الشيخ قال: لا أقبل هديتك. قال اليهودي: أريد بها وجه الله، قال: لا أقبلها لأن القلوب جلبت على حب من أحسن إليها، وأحذر على نفسي من أن تحب عدوا لله ورسوله، فذهب اليهودي منكسر الرأس خائبا لا يساوي نقيرا ولا قطميرا. وكان كثير الورع، وكان يحب أبناء النبي ﷺ، فإذا أخذ يعدّ نعم الله عدّ من أعظمهم (كذا) عنده مجاورته لأبناء النبي ﷺ. وكان إذا أخذ يد أحدهم يطأطئ لها ليقبلها مرة بعد مرة حتى لا يكاد يرسلها. ومن ذلك رأيته في مرضه الذي توفي فيه رحمه الله تعالى دخل عليه شريف من جاره، فلما رآه وهو حينئذ منع من الكلام، وأظن أنه في الاحتضار، أراد أن يقوم فلم يقدر، فأشار إلى الشريف أن يعطيه يده فأخذها وهو يرتعد من شدة ما هو فيه، فلم يزل يقبلها حتى عجز.
وكان كثير الورع كثير الحياء دائم الفكرة. ومن دعائه لنا إذا طلب أحدنا منه الدعاء: رزقك الله العلم والتقى. وكان يعبر الأحلام تعبيرا لا يتخلف في الغالب. وكان شيخا في السر والعلانية، يعطي ورد شيخنا وسيدنا مولاي عبد المالك بن مولاي عبد الله الركاني. وكان نابذا للدنيا وراء ظهره كما قدمنا، لأنه كان ما يأخذ منها إلاّ ما يجعله في الكتب. حدثني بعض التلاميذ أنه قد جاءه رجل من عشيرته يوما فأخبره بناقة له في البادية أصابها من الزكاة، فجعل الرجل يشتريها، فأعطاه ثمنا قليلا بخسا في الناقة، وهي حينئذ لا يؤخذ مثلها إلا بكثير من المال، فرضي الشيخ. قال له تلميذه ألم تعلم أن مثلها ثمنه كذا وكذا؟ قال الشيخ: يا بني! قال ﷺ:
عليك بالسّوم الأوّل الحديث. وكان يهدي له من لا يعرف في أي جهة ما هو وما نسبه. نعم كررت الورع لأنه سيد العمل، وإني ما رأيت أحدا
1 / 21
أورع منه قط. وكانت عبادته كلها خفية. وقال ﷺ: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها. وقال تعالى: ﴿سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.
ولله درّ من قال.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... ولو خالها تخفى على النّاس تعلم
وكان يخفي أمره عن كل حاف ومنتعل، ولا يذكر منه إلا ما أتى منه بغتة، كما حدثني به بعضهم أنه كان عنده ذات يوم أو ليلة، إذ ذكر عنده بعض أصحابه، فجعل يمدحه ويذم نفسه إلى أن قال: إنه أهم بشيء يأتيه وإنما كلما سألته أو أتيته (كذا) وكان يقول في بداية كل أمر خير:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكان لا يحب من الطعام والشراب إلا اللبن، لأنه ﷺ اختار الفطرة. وكان كثير التبارك، حدثني بعض أصحابه أنه كان يقرأ معه ليلة عند النار إذا بعود من القضا، فتعجب من صحة العود، فقال الشيخ ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قال له في ذلك، فقال أخاف أن يطير من العود شيء فيضر أحدنا. وكان إذا كتب ورقة نظرها وقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وهذا كله في حالة شيخوخته، فما ظنك بحالة شبابه.
وحاصل ما ذكرت عن بعض بعض البعض من مناقبه لا يبلغ نصف الساق مما لم أذكره، وبالله تعالى التوفيق. ولد عام أربعين ومائة ألف، وتوفي يوم الأحد لسبع ليال بقين من ذي الحجة، عام تسعة عشر ومائتين وألف، غفر الله له ونور ضريحه، وجعل الرحيق المختوم شرابه. وقد كنت قلت عليه قطعة، وهي هذه، والضمير في كنت وقلت لصاحب الترجمة الشيخ ابن الطالب الصغير فقال:
ألا عم ضريحا أيّها الذاهب الحبر ... ويا من به تزهي النخيل وتثمر
دعاك إله الخلق للخير كلّه ... فيا سعد من بقرب قبرك يقبر
1 / 22
لأنّك مقبول الشفاعة في الدّعا ... جزاؤك دار الخلد فيها تبشّر
فكنت نهارا تبصر الناس كلّها ... إذا الشمس غابت والكواكب تظهر
وكنت بروقا لا معات فصوبها ... يسرّ به من كان في الأرض يحفر
وكنت تباري البحر والبحر زاخر ... فعيناك صون ابن السبيل تحرّر
سقاك سقاك الله بدءا وعودة ... سحائب غفران بقبرك تمطر
وثمّ صلاة الله ثمّ سلامه ... عديد الحصى والرّمل ثمّ الجواهر
وعدّ الذي يحويه علم إلهنا ... على السّيّد المختار وهو المبشّر
1 / 23