بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى تفضل بتولى أحبابه وأعرض عمن تولى غيره وأعد له أليم عذابه

وأودع عجائب البلاغة فى الألفاظ اليسيرة من آيات كتابه ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وأصحابه

( وبعد )

فقد وقع الكلام فى قوله تعالى [ الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ] وقررت فيها بضعة عشر نوعا من الأنواع البديعية ثم وقع التأمل فيها بعد ذلك ففتح الله بزيادة على ذلك حتى تجاوزت الأربعين ثم قدحت الفكر فلم تزل تستخرج وتنمو إلى أن وصلت بحمد الله مائة وعشرين نوعا فقد أردت تدوينها فى هذه الكراسة ليستفيد بها من له غرض فى الوقوف على أسرار التنزيل ، راجيا من الله الهداية إلى أقوم سبيل

فأقول

(( فى هذه الآية الكريمة )) الطباق وهو الجمع بين الضدين وذلك فى ثلاثة مواضع

بين آمنوا وكفروا

وبين النور والظلمات فى الموضعين

( وفيها ) المقابلة (1) فى ثمانية مواضع

بين الجلالة والطاغوت،

وولى وأولياء لأن المفرد يقابله الجمع فى هذا الفن ،

وبين آمنوا وكفروا،

ويخرجهم ويخرجونهم لماذكر،

Página 1

وبين من والى فى الموضعين ، لأن من لابتداء الغاية وإلى لا نتهائها فهما متقابلان فقد أورد أهل البديع فى المقابلة قول الشاعر : أزورهم وسواد الليل يشفع لى 3. وفى نسبة الإخراج إلى الطاغوت لأنه سبب ، وفاعل الخير والشر على الحقيقة هو الله (3)

4. وفى أصحاب النار (4)

5. وفى إطلاق الظلمات على الكفر (5)

6. والنور على الإيمان فى الموضعين

( وفيها ) التقديم والتأخير فى ثلاثة مواضع

أحدهما أنه قدم فى الآية الأولى الجلالة وفى الثانية الذين كفروا ولم يقدم الطاغوت حذرا من جعله مقابلا لله فإنه أحقر من ذلك

والثانى أنه قدم الإسم الكريم على الولى فجعله مبتدأ وأخبر عنه بالولى وقدم أولياؤهم على الطاغوت للإشارة إلى أن الطاغوت شيئ مجهول تحقيرا له فإن القاعدة النحوية جعل الأعرف مبتدأ والأخفى خبرا

والثالث تقديم فيها مراعاة للفاصلة

( وفيها ) التفنن فى ثلاثة مواضع إفراد النور وجمع الظلمات فى الموضعين لأن

الإيمان شيئ واحد وطريق الحق واحدة والكفر والضلالات شتى والأهواء والبدع متفرقة وشاهده {وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبيل فتفرق بكم عن سبيله} وقوله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها فى الجنة واثنتان وسبعون فى النار

وإفراد ولى المؤمنين لأنه واحد وجمع أولياء الكفار لتعدد معبودهم

( وفيها ) التفسير فى موضعين فإن جملة يخرجهم وجملة يخرجونهم تفسير بيان للولاية وأهل البديع يسمون ذلك تفسيرا وأهل المعانى يسمونه استئنافا بيانيا (6)

( وفيها ) وقوع المفرد موقع الجمع فى الطاغوت (7)

( وفيها ) وقوع الماضى فى آمنوا وكفروا مرادا به الدوام

( وفيها ) وقوع يخرجهم ويخرجونهم مرادا به الإستمرار

( وفيها ) التكرار فى خمسة مواضع الذين ومن والى والظلمات والنور

( وفيها ) الترديد (8) فى يخرج فى غير ما علق به الأول وقد ذكر هذا النوع بعينه هنا أبو حيان

( وفيها ) المبالغة فى صفة ولى والطاغوت

( وفيها ) العكس والتبديل فى قوله من الظلمات إلى النور ومن النور إلى الظلمات

Página 2

( وفيها ) القلب والاختصاص فى لفظ الطاغوت على ما ذكره الزمخشرى فإنه قال في قوله تعالى{ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } القلب للاختصاص بالنسبة إلى لفظ الطاغوت لأن وزنه على قوله فعلوت من الطغيان كملكوت

ورحموت قلت صوابه بتقديم اللام على العين فوزنه فلعوت (9) ففيه

مبالغات التسمية بالمصدر والبناء بناء المبالغة والقلب وهو للاختصاص إذ لا يطلق على غير الشيطان

( وفيها ) الحصر بتعريف المبتدأ والخبر فى ثلاثة مواضع

الله ولى الذين آمنوا أى لا ولى لهم غيره

وأولياؤهم الطاغوت أى لا غيره

وأولئك اصحاب النار أى لا غيرهم

فالأولان حقيقيان والثالث يحتمل الحقيقى والمجازى (10) والثلاثة من قصر الصفة على الموصوف

( وفيها ) التأكيد بهم فى قوله هم فيها خالدون

( وفيها ) الإهتمام به حيث قدم والزمخشرى يقول فى مثل ذلك أن يفيد الحصر ذكره فى قوله { وبالآخرة هم يوقنون } وذكره الأصبهانى فى قوله{ وما هم بخارجين من النار} فيكون مفهومه هنا أن غيرهم من عصاة المؤمنين لا يخلدون فيها.

( وفيها ) الإشارة بأولئك على حد ما ذكروه فى قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } من أنه جدير بما يذكره بعده (11)

( وفيها ) الخطاب العام فى أولئك (12) فان كان الخطاب لمعين فان كان هو النبى صلى الله عليه وسلم فهو إضمار لما فى الذهن ويحتمل أن يكون فيه إلتفات (13) ورفع بعضهم درجات

فإن المراد به النبى صلى الله عليه وسلم ولم يقع له ذكر بعد ذلك لا بالخطاب ولا بغيره وان كان للمؤمنين أو الكافرين ففيه نوعان

التفات من الغيبة فى الذين آمنوا

وخطاب الجميع بصيغة المفرد ويزيد الثانى

ثالثا وهو الإشارة تعريضا بغباوة السامع بمعنى أنه لا يفهم الا المحسوس على حد ما قالوه فى أولئك آبائى

Página 3

( وفيها ) المشاكلة (14) والاستعارة التهكمية (15) فى قوله أولياؤهم لأن الإخراج من النور إلى الظلمات صنع الأعداء لا الأولياء بدليل أن الشيطان لكم عدو نفيه تهكم بعمومتها كله لقوله (16) الذين آمنوا

( وفيها ) القول بالموجب فى هذه الجملة لأنهم لما ادعوا أن أولياؤهم تنصرهم قال صحيح لهم أولياء ولكن أولياؤهم الطاغوت الذين هم أذل من أن ينصروا أنفسهم فضلا عن غيرهم

( وفيها ) الإطناب فى موضعين فى الذين آمنوا والذين كفروا إذ كان يقوم مقامه المؤمنون والكافرون

( وفيها ) الحذف فى موضعين وهما موصوف الذين وتقديره القوم

( وفيها ) التتميم فى قوله هم فيها خالدون لأنه لو اقتصر على أصحاب النار لاكتفى فى استحقاقهم لها لكنه تمم بوصف خلودهم فيها الذى هو قدر زائد على الدخول

( وفيها ) الإكتفاء حيث ذكر وعيد الكافرين دون وعد المؤمنين

( وفيها ) الاحتباك وهو أن تذكر جملتان ويحذف من كل ما أثبت نظيره فى الأخرى والتقدير هنا الله ولى الذين آمنوا وهم أصحاب الجنة والذين كفروا ليس الله بولى لهم وأولئك أصحاب النار فحذف من الثانى ما أثبت نظيره فى الأول وهو ولاية الله

( وفيها ) التغليب (17) فى أحد عشر موضعا

الذين فى الموضعين وضمير آمنوا وكفروا وضمير هم فى المواضع الأربعة وخالدون لأنه شامل للذكور والإناث وغلب لفظ المذكر وفى أصحاب لأنه خاص بجمع المذكر وجمع المؤنث صواحب وصاحبات وفى الواو من يخرجونهم لأن الطاغوت شامل للشيطان والأصنام وكل ما عبد من دون الله نغلب ضمير المذكر العاقل

Página 4

( وفيها ) الفرائد وهى الإتيان بلفظة فريدة لا يقوم غيرها مقامها وهى هنا فى لفظتين الأولى الولى لأنه لا يقوم غيره مقامه لما فيه من الإشعار بالخصوصية الزائدة والقرب المعنوى والمكانة والإعتناء بمصلحة المؤمن فإن الولى يطلق لغة وشرعا على القريب وخلاف الأجنبى ومن للولى به وصلة وقرابة أو نظر أو وصاية أو نحو ذلك ولفظ الناصر أو المعين أو المتولى مثلا لا يفيد ذلك لأن كلا مما ذكر قد يكون غريبا أجنبيا فأفاد بلفظ الولى أنه من يراعى مصلحة عبيده كما يراعى الولى مصلحة محاجيره

والثانية لفظ الطاغوت فإنها لا يقوم غيرها مقامها فى الذم والقبح والبشاعة كما لا يخفى وانجررنا من هنا إلى أمر آخر وهو أنه ورد عن سعيد بن جبير أن الطاغوت بلسان الحبشة فيكون من المعرب وقد قرر من فوائد وقوع المعرب فى القرآن أن يكون دالا على معنى لا يوجد فى الألفاظ العربية ما يؤدى معناه إلا بلفظ أطول منه كما بيناه فى الإتقان وذلك تقرير لكون هذه اللفظة فريدة

( وفيها ) الاتساع (18) وهو أن يؤتى بكلمة متسع فيها

( وفيها ) التأويل فإن الولى يحتمل أن يكون بمعنى الناصر أو بمعنى المجير أو بمعنى المتولى لأمورهم

( وفيها ) استعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه معا فى أربعة مواضع

فإن آمنوا صادق بمن صدر منه الإيمان حقيقة

وبمن أراد أن يؤمن

ومجاز لمن كان فى الكفر ثم آمن

ولمن لم يكفر اصلا (19)

والإخراج حقيقة فى الأول مجاز فى الثانى (20) وكذا جملة كفروا

( وفيها ) الإبداع وهو استعمال لفظ لم يسبق المتكلم إليه وذلك هنا فى ستة مواضع

اثنان حقيقيان وهما الإيمان والكفر فإنهما من الأسماء الشرعية

وأربعة مجازية وهما الظلمات والنور فى الموضعين فإن استعمالهما فى الكفر والإيمان شرعى ايضا

Página 5