فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الأول
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة ١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة ١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
Página desconocida
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف بالكتاب ومؤلفه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
الكتاب:
" فتح البيان في مقاصد القرآن " درة نادرة بين كتب التفسير، لأن علّامتنا، أبا الطيب صديق خان نتيجة لمدارسته كتب التفسير المختلفة، وعى حقيقة مهمة وهي أن بعض كتب التفسير لا تخلو مما دسه الأعداء وأهل الأهواء على الإسلام، بقصد هدم هذا الدين المتين عن طريق الدسّ والوضع حينما أعيتهم الحيل من النيل منه عن طريق الحرب والقوة أو عن طريق الدليل والحجة. فجرد حسامه وبرى يراعته للدفاع عن كتاب الله تعالى فقرأ جُلّ ما كتب الأقدمون وتبين له أن النحوى ليس له هم في تفسيره إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه وإن كانت بعيدة ...
والفقيه يكاد يسرد في تفسيره الفقه جميعًا وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي ربما لا تعلّق لها بالآية أصلًا.
والإخباري: ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها والإخبار عمن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة.
والمبتدع: ليس له إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد.
والملحد: لا تسأل عن كفره والحاده في آيات الله وافترائه على الله.
ومن المفسرين مَنْ اقتصر في تفسيره على مجرد الرواية ومنهم من اكتفى بمجرد الدراية وقليل من جمع بين الرواية والدراية فاختار الشيخ صديق خان أن يكتب تفسيرًا خاليًا من الإسرائيليات والخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها. وكذلك الجدل المذهبي والمناقشات الكلامية، فجمع بين الرواية والدراية مع تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجد والجهد إيقاظًا للنائمين وتحريضًا للمتثبطين.
فاختار صفوة الصفوة مما ثبت من التفسير النبوي لأنه الحجة المتبعة التي لا يسوغ مخالفتها.
1 / 1
ثم تفاسير عظماء الصحابة المختصين برسول الله ﷺ.
ثم تفاسير التابعين ومن بعدهم من سلف الأمة وأئمتها المعتبرين.
ثم أهل اللغة العربية الذين يفسرون كتاب الله ﷻ باللغة العربية حقيقة ومجازًا إن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية تراعي النقل عن السلف أو رعاية الأصول المعتبرة أو قواعد اللغة العربية.
وكان ﵁ في تفسيره يتحرى الدقة والصحة فيما ينقل، إن ذكر حديثًا عزاه إلى رواية من غير بيان حال الإسناد لأنه أخذه من الأصول المعتبرة.
وقد سلك في أمور العقائد وفق منهج السلف وخاصة في آيات الصفات وبالجملة فإن تفسيره تنزاح عنه شبه المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، خلى من كثرة الحشو والدخيل والخرافات التي لا يقوم عليها دليل. فكان درة بين كتب التفسير.
ولا داعي للإطناب في المدح فالكتاب بين يديك راجع أي مَوْضِع فيه تجد صدق ما قلناه وأكثر مما كتبناه.
1 / 2
المؤلف
هو السيد الإمام والعلامة الهمام صدر العلماء الأعلام، المُسندين في الهند، وعمدة الكرام المحدثين المعتمدين، محيي السنة وقامع البدعة الحبر في التفسير والحديث والأصول الذي انتشرت بوجوده علوم السنة والآثار وصنف في ذلك الأسفار الكبار.
المحدث المفسر الأصولي (١).
أبو الطيب صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القِنّوجي (٢) الهندي.
الذي شهد بكماله الداني والقاصي.
_________
(١) مصادر ترجمته. أبجد العلوم ٣/ ٢٧١ لصديق خان
حلية البشر ٢/ ٧٣٨ الشيخ عبد الرزاق البيطار
الروض المعطار في خبر الأقطار ص ٤٧٤ محمد عبد الرحيم الحميري
جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ص ٤٨ السيد نعمان خير الدين الألوسي
هدية العارفين ٢/ ٣٨٨ إسماعيل باشا البغدادي
ايضاح المكنون ١/ ١٠ إسماعيل باشا البغدادي
مقدمة كتاب الروضة الندية طبعت في بولاق ١٢٩٦
الأعلام ٦/ ١٦٧ خير الدين الزركلي
معجم المؤلفين ١٠/ ٩٠ عمر رضا كحالة
فهرس الفهارس ٢/ ١٠٥٥ عبد الحي الكتاني
المسلمون في الهند ص ٤٠ أبو الحسن الندوي
(٢) قال الحميري: قِنّوج أفخر بلاد الهند اسمًا وشأنًا وأعظمها صيتًا وأقدمها بنيانًا. ص: ٤٧٤.
ورد في الحاشية، أن مدينة قنوج في أيام ابن بطوطة مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة كثيرة السكَر وعليها سور عظيم.
1 / 3
مولده
ولد ضحى يوم الأحد لعله التاسع عشر من جمادى الأولى ١٢٤٨ سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف هجرية على صاحبها أفضل سلام وأزكى تحية ببلدة " بريلي " بالهند، موطن جده القريب من جهة الأم، ثم جاءت به أمه الكريمة من " بريلي " إلى " قِنوج " بالهند موطن آبائه الكرام.
ولما ناهز السادسة من عمره انتقل والده إلى رحمة ربه وبقي في حجر أمه يتيمًا، تهتم به وتربيه على العفاف والطهارة وحب العلم والعلماء فهو سليل بيت علم وتقوى.
والده
هو الماجد الفاضل حسن بن علي، تتلمذ على الشيخ عبد الباسط القِنوجي ثم رحل إلى لكنهو فاكتسب عن الشيخ العالم محمد نور وغيره من علماء عصره. ثم انتقل إلى دهلي وتتلمذ على الشيخ عبد العزيز والشيخ رفيع الدين ابني الشيخ الأجل " شاه ولي الله المحدث الدهلوي ". وأخذ الإجازة لكتب التفسير والحديث وغيرهما، وصحب العالم المجدد أحمد البريلوي مجدد المائة الثالثة عشرة. واستمر معه حتى صار خليفته في دعوة الحق إلى دين الله، واقتداء الدليل ورد الشرك والبدع إلى أن توفاه الله تعالى ١٢٥٣هـ. من مؤلفاته: كتاب في الحدود والقصاص، وكتاب تقوية اليقين في الرد على عقائد المشركين، ورسالة في رد التعزية والضريح. وغير ذلك من المؤلفات النافعة التي تنهج طريقة السلف الصالح.
أخوه الأكبر
هو العلامة الشيخ أحمد بن حسن بن علي القِنوجي ولد ١٢٤٦هـ وجمع العلوم والفنون المتفرقة من بلاد شتى، على أكابر العلماء في دهلي وغيرها من البلدات. تتلمذ على المولوي عبد الجليل الكولي، وأجاز له الشيخ عبد الغني المجددي الدهلوي وخاتمة المجتهدين الشيخ صالح بن محمد العمري الشهير الفلاني.
سافر قاصدًا بيت الله الحرام، إلا أنه مات في الطريق ١٢٧٧هـ. له كتاب الشهاب الثاقب وغيره.
وقد استفاد الشيخ صديق خان من أخيه وأبيه اتباع طريق السلف والبعد عن التقليد، فهما كانا مدرسته الأولى.
1 / 4
صفاته
كان شيخنا المفسر ربعة من القوم، قليل الشيب شعره إلى شحمة أذنيه. كريمًا جوادًا شجاعًا جمع إلى الإيمان والتقوى الفراغ من ملاذ النفس وهوى الشيطان. فصيح اللسان سريع الكتابة سريع الحفظ والمطالعة، إذا ذكرت مسألة من مسائل الخلاف استدل ورجح، وهذا يدل على سعة ثقافته ورجحان عقله.
ادعى الإجتهاد لاجتماع شروطه فيه، كان إذا استدل ما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للسنة المطهرة وعزوها منه.
لا تمنعه صولة صائل في تحرير الحق والعمل به.
شيوخه
رحل الشيخ صديق في سبيل طلب العلم وأخذه عن أكابر أطراف وطنه، فقد شمر عن ساق الجد لتحصيل العلوم، وشد الرحل إلى " دهلي " حيث أخذ عن مفتيها الشيخ محمد صدر الدين خان، من تلاميذه الشيخ عبد العزيز وأخيه رفيع الدين ابني العالم المحدث أحمد ابن عبد الرحيم شاه ولي الله الدهلوي.
وقد استفاد العلوم من التفاسير والأحاديث من مشيخة اليمن والهند. فأخذ عن الشيخ حسين بن محسن اليمني، تلميذ الشيخ محمد بن ناصر تلميذ العلامة المجتهد محمد ابن علي الشوكاني. وأقام سلسلة الأسانيد فكتب الحديث الشريف واستحصل سند القرآن الكريم عن الشيخ محمد يعقوب الدهلوي، أخي الشيخ إسحاق حفيد الشيخ عبد العزيز المحدث الدهلوي.
وأخذ الإجازة عن الشيخ المعمّر عبد الحق الهندي تلميذ الإمام الشوكاني.
وممن استجاز منه العالم المحدث الشيخ يحيى بن محمد الحازمي قاضي عدن. وأخذ عن شيوخ غيرهم كثير.
وكلهم أجازوا له مشافهة وكتابة إجازة مأثورة عامة تامة. فكل واحد أجاز له بما هو مذكور في ثبتهم الجامع لجميع أصناف العلوم وأنواع الفنون.
وقد جمع الشيخ صديق شيوخه في كتاب سمّاه " سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند ". ذكر فيه من أخذ عنه ومن أجاز له والأسانيد التي تلقاها عنهم.
ومن دهلي إلى قِنّوج إلى الحرمين، حيث بقي عاكفًا ثمانية أشهر ثم عاد إلى بهوبال، حيث استوطن واستقر يشتغل بالدرس والتأليف. حتى صار رأسًا في المعقول والمنقول
1 / 5
وإمامًا في علمي الفروع والأصول، وجدّ واجتهد في اتقان القرآن والسنة وتدوين علومهما ينصر السنة ويروج مصنفاتها ويؤلف مؤلفاته الشريفة، الممتعة النافعة باللسان العربي ولغة الفرس والهند، ويبذل المال الكثير في إذاعتها بالطبع والتقسيم.
أقوال العلماء فيه
قال الإمام الألوسي: إن الحنابلة بأجمعهم معظمون للشيخ صديق خان ولعقيدته قابلون، ولكلامه سامعون.
وقال الإمام الكتّاني: إن الشيخ صديق من كبار علماء الهند الذين لهم اليد الطولى في إحياء كثير من كتب الحديث وعلومه، وغيره من العلوم. وقد عدّ صاحب " عون الودود على سنن أبي داود " صديق خان أحمد المجددين على رأس المائة الرابعة عشرة.
أما الشيخ عبد الرزاق البيطار الدمشقي فقال: إن الإمام صديق خان سيد علماء الهند، كان مليًا بالعلوم مجتهدًا في إشاعتها مجددًا لإذاعتها أحيا السنن الميتة بالأدلة البيض من السنة والفرقان.
وزاد العلامة محمد منير الدمشقي المصري فقال: كم له من أيادٍ بيض في خدمة العلم والعلماء وإن جحد فضله الحاسدون وضعفاء العقول.
وختم العلامة الهندي أبو الحسن الندوي فقال: وقد قام صديق خان شخصيًا بما لا تقوم به مجامع علمية، في أكثر الأحيان لكثرة المؤلفات وضخامة الإنتاج.
وبالجملة أن الشيخ صديق خان كان موسوعة علمية، لم يدون أحد في عصره من علماء الهند أحكام الكتاب العزيز وعلوم السنة المطهرة في العبادة والمعاملة وغيرهما خالصة من آراء الرجال نقيةً من أقوال العلماء على هذه الكيفية المشاهدة في هذا السِفر المبارك " فتح البيان في مقاصد القرآن " مثله.
وفاته
توفي رحمه الله تعالى أواخر جمادى الثانية عام ١٣٠٧هـ ودفن ببهوبال بالهند.
وقد خلف ولدين أكبرهما أبو الخير محمد الحسن، صاحب الشرح المطبوع على بلوغ المرام.
مؤلفاته
له في الكتابة سرعة عجيبة، وفي التأليف ملكة غريبة، يكتب الكراريس العديدة في يوم واحد.
1 / 6
تبلغ مؤلفاته اثني وعشرين ومائتين ٢٢٢ كتابًا منها حوالي ستة وخمسون ٥٦ كتابًا في العربية. منها:
فتح البيان في مقاصد القرآن.
شرح تجريد الصحيح للشرجي واسمه عون الباري بحلّ أدلة البخاري.
وشرح اختصار مسلم للمنذري.
وأبجد العلوم.
وهدية السائل إلى أدلة المسائل.
ويقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار
ومسك الختام شرح بلوغ المرام.
الروضة الندية شرح الدرر البهية.
منهج الوصول إلى إصطلاح أحاديث الرسول.
اتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدّثين.
الإدراك في تخريج أحاديث الإشراك.
الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة.
أربعون حديثًا في فضائل الحج والعمرة.
إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ.
بلوغ السول من أقضية الهول.
تميمة الصبي في ترجمة الأربعين من أحاديث النبي.
الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة.
الخطة بذكر الصحاح الستة.
الحرز المكنون من لفظ المعصوم المأمون.
رياض الجنة في تراجم أهل السنة.
غنية القاري في ترجمة ثلاثيات البخاري.
فتح المغيث بفقه الحديث.
قطف الثمر من عقائد أهل الأثر.
الاحتواء على مسألة الاستواء.
بدور الأهلة من ربط المسائل بالأدلة.
الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح.
حصول المأمول من علم الأصول.
1 / 7
ذخر المحتي من آداب المفتي.
الصافية في شرح الشافية في علم الصرف.
ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي.
العلم الخفاق من علم الاشتقاق.
غصن البان المورق بمحسنات البيان.
نيل المرام من تفسير آيات الأحكام.
هدية السائل إلى أدلة المسائل.
حسن الأسوة.
الفرع النامي من الأصل السامي.
وغيرها من الكتب التي تشهد له أنه من كبار من لهم اليد الطولى في إحياء كثير من علوم الكتاب والسنة وسائر الفنون.
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وبين له من معالم العلم وشعائر الشرائع ومشاعر الملل كل ما جل ودق، ونزل عليه كتابًا معجزًا أفحم مصاقع الخطباء من العرب العرباء وخطابًا مفحمًا أعجز بواقع البلغاء من عصابة الأدباء، بأظهر بينات وأبهر حجج، قرآنًا عربيًا غير ذي عوج، أمر فيه وزجر، وبشر وأنذر، وذكر المواعظ ليتذكر، وقص عن أيام الأمم الخالية ليعتبر، وضرب فيه ضروب الأمثال ليتدبر، ودل على آيات التوحيد ليتفكر، أنزله بحسب المصالح والحكم منجمًا، وجعله بالتحميد مفتتحًا وبالإستعاذة مختتمًا، وأوحاه متشابهًا ومحكمًا، مزاياه ظاهرة باهرة في كل وجهٍ وكل زمان، دائرة من بين سائر الكتب على كل لسان في كل مكان، كادت الرواسي لهيبته تمور، ويذوب من خشيته الحديد ويميع منه صم الصخور، فمن تمسك بعروته الوثقى وحبله المتين، وسلك جادته الواضحة وصراطه المبين، فقد فاز بمناه، ومن نبذه وراء ظهره وعصاه، واتخذ إلهه هواه، فقد هوى في تخوم الشقاء وتردى في مهاوي الردى والاشتباه، فأي عبارة تبلغ أيسر ما يستحقه كلام الحكيم من التعظيم، وأي إشارة تصلح لبيان أقل ما ينبغي له من التوصيف والتكريم.
كلا والله إن بلاغة البلغاء وسحرة البيان وإن طالت ذيولها، وفصاحة الفصحاء ومهرة قحطان وإن سالت سيولها تتقاصر عن الوفاء بأدق أوصافه وإن جالت بميادينها خيولها، وتتصاغر عن التشبث بأقصر أطرافه وإن أفلقت في إطرائها فحولها، فتعود ألسنتهم عنه قاصرة، وصفقتهم في أسواقه خاسرة، كيف وتلك الآيات والدلائل، وتيك البينات والمخايل، وهذه العبارات العبقرية، وما في تضاعيفها من أسرار البرية، مما لا تحيط به ألباب البشر، ولا
1 / 9
تدرك كنهه طباع العالم الأكبر والأصغر، بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على معارضته ومباراته، لعجزوا عن الاتيان بمثل أقصر آية من آياته فالاعتراف بالعجز عن القيام بما يستحقه كلام الملك العلام، من الإطراء والاكرام، أوفق بما يقتضيه الحال من الإجلال والإعظام.
والصلاة والسلام على من أرسله الله إلى الخلق هاديًا وبشيرًا، ونزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرًا، فهداهم به إلى الحق وهم في ضلال مبين، وسلك بهم مسلك الهداية حتى أتاهم اليقين، أكمل به بنيان النبوة والجلالة، وختم به ديوان الوحي والرسالة، وأتم به مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، على ألطف أسلوب وأحسن أحوال، أعلى به من الدين معالمه، ومن الحق مراسمه، وبيّن من البرهان سبيله، ومن الإيمان دليله، وأقام للحق حجته، وأنار للشرع محجته، حتى انشرحت الأفئدة بأنوار البينات، وانزاح عن الضمائر صدأ الشبهات فهو حجة نيرة واضحة المكنون، وآية بينة لقوم يعقلون، بل برهان جلي لا ريب فيه، ومنهج سوي لا يضل من ينتحيه، مظهر لتفاصيل الشرائع والأديان بالاستحقاق، مفسر لمشكلات آيات الأنفس والآفاق، كاشف عن خفايا حظائر القدس، مطلع على خبايا سرائر الأنس، بحر علم لا ينزف، وعيلم فضل لا ينشف، به يتوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، وبه تكتسب الملكات الفاخرة، كلامه شفاء للسقام، ومرهم للأوهام، وحديثه قاطع للخصام، عند تفاوت الأفهام وتباين الأقدام، عليه يدور فلك الأوامر والنواهي، وإليه يستند في معرفة حقائق الأشياء كما هي، أفلح من اتبعه ووالاه، وخاب من أعرض عنه وعاداه.
وصلى الله وسلم على آله البررة، وصحبه الخيرة، مصابيح الأمم، ومفاتيح الكرم، خلفاء الدين، وحلفاء اليقين، الذين بلغوا من محاسن الفضائل غاية الغايات، ووصلوا من مكارم الفواضل نهاية النهايات، قارعوا على الإسلام فكشفوا عنه القوارع والكروب، وسارعوا إلى الإيمان فصرفوا عنه العوادي والخطوب، فابتسم ثغر الدين، وانتظم أمر المسلمين، واتضح الوعد من الله وحق عليه نصر المؤمنين، لا يتسنى العروج إلى معارجهم الرفيعة، ولا
1 / 10
يتأتى الرقي إلى مدارجهم المنيعة، لعلو شأنهم ونهاية الاعضال، وصعوبة مرامهم وعزة المنال، فهم شموس الهدى على فلك السعادة، وبدور الدجى لهم الحسنى وزيادة. وعلى من تبعهم بالإحسان، صلاة وسلامًا دائمين ما تناوب النيران وتعاقب الملوان.
(وبعد) فيقول الفقير إلى مولاه الغني به عمن سواه، عبده وابن أمته وعبده (أبو الطيب صديق بن حسن بن علي القنوجي) أصلح الله حاله ومآله قبل أن يخرج الأمر من يده:
إن أعظم العلوم مقدارًا، وأرفعها شرفًا ومنارًا، وأعلاها على الإطلاق، وأولاها تفضيلًا بالاستحقاق، وأساس قواعد الشرائع والعلوم، ومقياس ضوابط المنطوق والمفهوم، ورأس الملل الإسلامية وأسها، وأصل النحل الايمانية وأستقصها، وأعز ما يرغب فيه ويعرج عليه، وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه، هو علم التفسير لكلام العزيز القدير، لكونه أوثق العلوم بنيانًا، وأصدقها قيلًا وأحسنها تبيانًا، وأكرمها نتاجًا، وأنورها سراجًا، وأصحها حجة ودليلًا، وأوضحها محجة وسبيلًا، وقد حاموا جميعًا حول طلابه، وراموا طريقًا إلى جنابه، والتمسوا مصباحًا على قبابه، ومفتاحًا إلى فتح بابه.
وهو علم باحث عن نظم نصوص القرآن، وآيات سور الفرقان بحسب الطاقة البشرية وبوفق ما تقتضيه القواعد العربية، قال الفناري: الأولى أن يقال: علم التفسير معرفة أحوال كلام الله ﷾ من حيث القرآنية، ومن حيث دلالته على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله تعالى بقدر الطاقة الإنسانية انتهى، وهذا يتناول أقسام البيان بأسرها، ولا يرد عليه ما يرد على سائر الحدود، ومباديه العلوم اللغوية وأصول التوحيد وأصول الفقه وغير ذلك من العلوم الجمة.
والغرض منه معرفة معاني النظم ومعرفة الأحكام الشرعية العملية، وفائدته حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة وموضوعه كلام الله سبحانه الذي هو منبع كل حكمة ومعدل كل فصلة وغايته التوصل إلى فهم معاني القرآن واستنباط حكمه ليفوز به إلى السعادة الدنيوية
1 / 11
والأخروية، وشرف العلم وجلالته باعتبار شرف موضوعه وغايته، فهو أشرف العلوم وأعظمها، ذكره أبو الخير وابن صدر الدين.
والقرآن الكلام العربي المنزل على محمد ﷺ المتحدى بأقصر سورة منه المنقول تواترًا، ودليله الكتاب والسنة ولفظ العرب العرباء، واستمداده من علمي أصول الدين والفقه وهو قسمان " تفسير " وهو ما لا يدرك إلا بالنقل كأسباب النزول " وتأويل " وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية فهو مما يتعلق بالدراية.
والسر في جواز التأويل بشروطه دون التفسير، أن التفسير كشهادة على الله وقطع بأنه عنى بهذا اللفظ هذا المعنى ولا يجوز إلا بتوقيف، ولذا جزم الحاكم بأن تفسير الصحابي مطلقًا في حكم المرفوع، والتأويل ترجيح لأحد المحتملات بلا قطع، فاغتفر، أفاد ذلك جماعة من أهل العلم ذكرهم سليمان الجمل في حاشية الجلالين.
وقد تصدى لتفسير عويصاته أساطين الأمة، وتولى لتيسير معضلاته سلاطين الأئمة من الصحابة والتابعين، وأئمة اللغة والنحويين، ثلة من الأولين وأمة من الآخرين، فغاصوا في بحار لججه، وخاضوا في أنهار ثبجه، فنظموا في سلك التقرير فرائده، وأبرزوا في معرض التحرير فوائده، وألفوا كتبًا جليلة المقدار، وصنفوا زبرًا جميلة الآثار، وفصلوا مجمله، وبينوا معضله مع تحقيق للمقاصد وفق ما يرتاد، وتنقيح للمعاقد فوق ما يعتاد.
فالمفسرون من الصحابة الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب، والرواية عن علي أكثر، وعن الثلاثة في ندرة جدًا، والسبب فيه تقدم وفاتهم، وروي عن ابن مسعود أكثر مما روي عن علي ومات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين.
وأما ابن عباس المتوفى سنة ثمان وستين بالطائف فهو ترجمان القرآن وحبر الأمة ورئيس المفسرين دعا له النبي ﷺ فقال: " اللهم فقهه في الدين
1 / 12
وعلمه التأويل (١) " وقد روى عنه في التفسير ما لا يحمى كثرة لكن أحسن الطرق عنه طريقة علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة واعتمد على هذه البخاري في صحيحه، وأوهى الطرق عنه طريق الكلبي أبي النصر محمد بن السائب، فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب، وكذلك طريق مقاتل بن سليمان الأزدي، وطريق الضحاك عنه منقطعة فإنه لم يلقه، ومن جيد الطرق عنه طريق قيس بن مسلم الكوفي عن عطاء بن السائب وطريق ابن اسحق صاحب السير.
وأما أبيّ بن كعب المتوفى سنة عشرين على خلاف فيه، فعنه نسخة كبيرة عن طريق أبي العالية، وهذا إسناد صحيح، ومن الصحابة من ورد عنه اليسير من التفسير غير هؤلاء منهم أنس بن مالك المتوفى بالبصرة سنة إحدى وتسعين وأبو هريرة المتوفى بالمدينة سنة سبع وخمسين، وعبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى بمكة المكرمة سنة ثلاث وسبعين، وجابر بن عبد الله المتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين، وأبو موسى الأشعري المتوفى سنة أربع وأربعين، وابن عمرو بن العاص المتوفى سنة ثلاث وستين، وهو أحد العبادلة الذين استقر عليهم أمر العلم في آخر عهد الصحابة، وزيد بن ثابت الأنصاري كاتب النبي ﵌ المتوفى سنة خمس وأربعين.
وأما المفسرون من التابعين فمنهم أصحاب ابن عباس وهم علماء مكة المكرمة، ومنهم مجاهد بن جبر المتوفى سنة ثلاث ومائة واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري، وسعيد بن جبير المتوفى سنة أربع وتسعين، وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة خمس ومائة، وطاوس بن كيسان اليماني المتوفى سنة ست ومائة، وعطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة أربع عشرة ومائة.
ومنهم أصحاب ابن مسعود وهم علماء الكوفة كعلقمة بن قيس المتوفى سنة اثنتين ومائة، والأسود بن يزيد المتوفى سنة خمس ومائة، ومنهم أصحاب زيد بن أسلم كعبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس، ومنهم الحسن البصري
_________
(١) المستدرك على الصحيحين برواية: اللهم علمه تأويل القرآن وفقهه في الدين واجعله من أهل الإيمان ٣/ ٥٣٦
1 / 13
المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة: وعطاء بن أبي سلمة ميسرة الخراساني، ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة سبع عشرة ومائة: وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة تسعين: والضحاك بن مزاحم: وعطية بن سعيد العوفي المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة: وقتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة سبع عشرة ومائة: والربيع بن أنس والسدي.
ثم بعد هذه الطبقة الذين صنفوا كتب التفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس، وإسحق بن راهويه، وروح بن عبادة، وعبد الله بن حميد، وأبي بكر بن أبي شيبة وآخرين.
ثم بعد هؤلاء طبقة أخرى منهم عبد الرزاق وعلي بن أبي طلحة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ بن حيان وابن المنذر في آخرين.
ثم انتصبت طبقة بعدهم إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل أبي إسحق الزجاج وأبي علي الفارسي ومكي بن أبي طالب وأبي العباس المهدوي، وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرًا ما استدرك الناس عليهما.
ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بتراء، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك خلف عن سلف ظانًا أن له أصلًا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن هم القدوة في هذا الباب.
قال السيوطي رأيت في تفسير قوله سبحانه (غير المغضوب عليهم ولا الضَّالين) نحو عشرة أقوال مع أن الوارد عن النبي ﷺ وجميع الصحابة والتابعين ليس غير اليهود والنصارى، حتى قال ابن أبي حاتم لا أعلم في ذلك خلافًا من المفسرين.
1 / 14
ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيء من العلوم، ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن واقتصر فيه على ما تمهر هو فيه، كأن القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير، مع أن فيه تبيان كل شيء، فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه وإن كانت بعيدة وينقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر والنهر، والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها والاخبار عمن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة، ومنهم الثعلبي، والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعًا وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية أصلًا، والجواب عن الأدلة للمخالفين كالقرطبي وصاحب المظهري وصاحب العلوم العقلية خصوصًا فخر الدين الرازي قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب، قال أبو حيان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير.
والمبتدع ليس له إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث أنه لو لاح له شارد من بعيد اقتنصه أو وجد موضعًا له فيه أدنى مجال سارع إليه، كما نقل عن البلقيني أنه قال استخرجت من الكشاف اعتزالًا بالمناقيش، منها أنه قال في قوله ﷾ (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) أي فوز أعظم من دخول الجنة، وأشار به إلى عدم الرؤية.
والملحد لا تسأل عن كفره وإلحاده في آيات الله وافترائه على الله ما لم يقله، كقول بعضهم في تفسير قوله تعالى (وإن هي إلا فتنتك) ما على العباد أضر من ربهم، وينسب هذا القول إلى صاحب قوت القلوب.
ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف، ولا رعاية للأصول الشرعية، والقواعد العربية، كتفسير محمود بن حمزة الكرماني ضمنه أقوالًا هي عجائب عند العوام، وغرائب عما عهد عن السلف الكرام، وهي أقوال منكرة لا يحل الاعتقاد عليها ولا ذكرها إلا للتحذير.
1 / 15
ومن ذلك قول من قال في (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) إنه الحب والعشق، ومن ذلك قولهم في (ومن شر غاسق إذا وقب) إنه الذكر إذا قام، وقولهم في (من ذا الذي يشفع عنده) معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس، ويشف من الشفاء جواب " من " و(ع) أمر من الوعي.
وسئل البلقيني عمن فسر بهذا فأفتى بأنه ملحد.
(قلت) وقد نبغت في هذا الزمان طائفة تفسر القرآن برأيها، وتحذف منه الآيات المتواليات تسمى بالنيفرية، وهم الذين أنكروا وجود الملائكة والجن والشياطين إلى غير ذلك، وقد عمت فتنتهم بلاد الهند الاسلامية، فرَّق الله جمعهم، وبدد شملهم وأنزل بهم بأسه الذي لا يرده عن القوم المجرمين.
وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير، قال ابن الصَّلاح في فتاواه: وجدت عن الإمام الواحدي أنه قال: صنف السلمي حقائق التفسير إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر.
قال النسفي في عقائده: النصوص تحمل على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد، وقال التفتازاني في شرحه: سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة.
قال صاحب مفتاح السعادة: الإيمان بالقرآن هو التصديق بأنه كلام الله سبحانه قد أنزل على رسوله محمد ﷺ بواسطة جبرائيل ﵇، وأنه دال على صفة أزلية له سبحانه، وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية مما هو مراد الله سبحانه حق لا ريب فيه، ثم تلك الدلالة على مراده سبحانه بواسطة القوانين الأدبية الموافقة للقواعد الشرعية والأحاديث النبوية مراد الله تعالى، وقد ثبت في الحديث أن لكل آية ظهرًا وبطنًا (١) وذلك المراد الآخر لما لم يطلع عليه كل أحد بل من أعطى فهمًا وعلمًا من لدنه تعالى يكون الضابط في صحته أن لا يرفع ظاهر المعاني المنفهمة عن الألفاظ بالقوانين العربية وأن لا يخالف القواعد الشرعية، ولا يباين إعجاز القرآن، ولا يناقض النصوص الواقعة
_________
(١) أين هذا الحديث: من رواه؟ من أخرجه؟ لم نجده في أي كتاب لدينا.
1 / 16
فيها، فإن وجدت فيه هذه الشرائط فلا طعن فيه وإلا فهو بمعزل عن القبول.
قال الزمخشري: من حق التفسير أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سليمًا من القادح.
وكما بينوا في التفسير شرائط، بينوا في المفسر أيضًا شرائط لا يحل التعاطي لمن عرى عنها أو هو فيها راجل وهي أن يعرف اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع والقراآت وأصول الدين وأصول الفقه، وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم، وعلم الموهبة، وهو علم يورثه الله سبحانه لمن عمل بما علم انتهى.
ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسامٍ:
الأول ما لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه.
والثاني ما أطلع الله سبحانه نبيه عليه من أسرار الكتاب واختصه به فلا يجوز الكلام فيه إلا له ﷺ أو لمن أذن له، قيل: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل من الأول وهو الراجح.
والثالث علوم علمها الله نبيه وأمره بتعليمها، وهذا ينقسم إلى قسمين منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ واللغات والقراآت وقصص الأمم وإخبار ما هو كائن، ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستنباط من الألفاظ، وهو قسمان قسم اختلفوا في جوازه وهو تأويل الآيات المتشابهات، وقسم اتفقوا عليه وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية، وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والاشارات لا يمتنع استنباطها منه لمن له أهلية ذلك، وما عدا هذه الأمور هو التفسير بالرأي الذي نهى عنه، وفيه خمسة أنواع:
الأول التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير، والثاني
1 / 17
تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله ﷾، والثالث التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلًا، والتفسير تابعًا له فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفًا، الرابع التفسير بأن مراد الله سبحانه كذا على القطع من غير دليل، الخامس التفسير بالاستحسان والهوى والتقليد.
(أقول) إن التفسير الذي ينبغي الاعتداد به والرجوع إليه هو تفسير كتاب الله ﷻ باللغة العربية حقيقة ومجازًا إن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية فإن ثبتت فهي مقدمة على غيرها، وكذلك إذا ثبت تفسير ذلك من الرسول ﵌ فهو أقدم من كل شيء بل حجة متبعة لا يسوغ مخالفتها لشيء آخر، ثم تفاسير علماء الصحابة المختصين برسول الله ﷺ فإنه يبعد كل البعد أن يفسر أحدهم كتاب الله تعالى ولم يسمع في ذلك شيئًا عن رسول الله ﷺ، وعلى فرض عدم السماع فهو أحد العرب الذين عرفوا من اللغة دِقَّها وجلَّها، وأما تفاسير غيرهم من التابعين ومن بعدهم فإن كان من طريق الرواية نظرنا في صحتها سواء كان المروي عنه الشارع أو أهل اللغة، وإن كان بمحض الرأي فليس ذلك بشيء ولا يحل التمسك به ولا جعله حجة، بل الحجة ما قدمناه، ولا نظن بعالم من علماء الإسلام أن يفسر القرآن برأيه فإن ذلك مع كونه من الإقدام على ما لا يحل بما لا يحل قد ورد النهي عنه في حديث " من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن فسر القرآن برأيه فأخطأ فقد كفر " (١) أو كما قال.
إلا أنا لم نتعبد بمجرد هذا الإحسان للظن على أن نقبل تفسير كل عالم كيفما كان بل إذا لم نجده مستندًا إلى الشارع ولا إلى أهل اللغة لم يحل لنا العمل به مع التمسك بحمل صاحبه على السلامة، ونظير ذلك اختلاف العلماء في المسائل العلمية، فهو إن كان إحسان الظن مسوغًا للعمل بما ورد عن كل واحد منهم لوجب علينا قبول الأقوال المتناقضة في تفسير آية واحدة أو في مسألة علمية واللازم باطل فالملزوم مثله.
وإذا عرفت هذه الفوائد فاعلم أن كتب التفاسير كثيرة ذكر منها ملا
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير الباب الأول بلفظ: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.
1 / 18
كاتب الجلبي في كشف الظنون ما يزيد على ثلثمائة تفسير مرتبًا على حروف الهجاء وزدنا عليه في كتابنا الأكسير في أصول التفسير، فمنها تفسير ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد الرازي الحافظ المتوفى سنة خمس وتسعين ومائتين.
وانتقاه الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة إحدى عشرة وتسعمائة في مجلد، ومنها تفسير ابن جرير أبي جعفر محمد الطبري المتوفى سنة عشرة وثلثمائة قال السيوطي في الاتقان: وكتابه أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض والإعراب والاستنباط فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين اهـ.
وقد قال النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري، وعن أبي حامد الإسفرايني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرًا.
ومنها تفسير ابن كثير الإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر القرشي المتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله تعالى، وهو كبير في عشر مجلدات فسر بالأحاديث والآثار مسندة عن أصحابها مع الكلام على ما يحتاج إليه جرحًا وتعديلًا.
ومنها تفسير ابن المنذر وهو الإمام أبو بكر محمد بن ابراهيم النيسابوري المتوفى سنة ثمان عشرة وثلثمائة، ومنها تفسير البخاري وهو ما ذكره في صحيحه وجعله كتابًا منه، وله التفسير الكبير غير هذا ذكره الفربري، ومنها تفسير النحاس وهو أبو جعفر أحمد بن محمد النحوي المصري المتوفى سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة قصد فيه الإعراب لكن ذكر القراآت التي يحتاج أن يبين إعرابها والعلل التي فيها وما يحتاج فيه من المعاني، ومنها تفسير الواحدي البسيط والوسيط والوجيز وتسمى هذه الثلاثة الحاوي لجميع المعاني.
ومنها تفسير المهدوي وهو أبو العباس أحمد بن عمار التميمي المتوفى بعد الثلاثين وأربعمائة.
ثم من المفسرين من اقتصر في تفسيره على مجرد الرواية وقنع برفع هذه الراية كجلال الدين السيوطي في الدر المنثور وغيره في غيره من المسطور،
1 / 19