فتَاوى ورَسَائل
سَماحة الشيخ
محمَّد بن إبراهيم بن عَبداللطِيف آل الشيخ
مفتي المملكة
ورَئيس القضاة والشؤون الإسلامية
طيَّبَ اللهُ ثراه
جَمع وترتيب وتحقيق
محمد بن عبد الرحمن بن قاسم
وفقه الله
الطبعة الأولى
مطبعة الحكومة بمكة المكرمة
١٣٩٩ هـ
الجزء الأول
(العقائد)
Página desconocida
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: - فهذه مجموعة من الفتاوي أزفها إلى المجتمع الإسلامي في جميع أنحاء هذه المعمورة بعد جهد طويل وعمل متتابع كان دافعي الوحيد إلى الصبر عليه علمي الأكيد بحاجة المسلمين إلى هذه الفتاوي نظرًا لأنها صدرت عن شخصية لها مكانتها بين المسلمين لما كان يتصف به صاحبها من سعة في العلم وحدَّة في الذكاء ولما كان يتقلب فيه من أعمال كلها تشرف من قرب على مصالح المسلمين في الداخل ومع ذلك فقد عني من خلال تلك الأعمال بمصالح المسلمين خارج هذا الوطن فكانت الأسئلة تتوارد عليه بكل ما يعن لهم من مشكلات وما يهمهم من شئوون.
لذلك حرصت كل الحرص على أن تكون جامعة ففتشت كل المضان التي يتوقع أن تكون قد حفظت فيها هذه الفتاوي حتى إني جمعت بعضًا منها من أيدي الناس الذين وصل إليهم ما لم أجده في المضان التي عنيت بها.
1 / 3
على أني أعترف بالفضل لذويه فإن هذه الفتاوي قد لا ترى النور لو لم يأمرني جلالة الملك (فيصل بن عبد العزيز آل سعود) ﵀ بإعدادها وتكليف الجهات الرسمية بتمكيني مما عندها وطباعتها على حساب هذه الدولة، فقد صدر أمره الكريم المرقم ١٨٣٠٢-٣-س في ٣-١٠-١٣٩٠هـ لمعالي وزير المالية والاقتصاد الوطني بما نصه:
(نفيدكم بموافقتنا على طبع هذه الفتاوي وأن يتولى الشيخ محمد ابن قاسم عملية الإعداد والتصحيح - لا سيما وأنه يشرف على بعض الكتب الدينية التي تقوم مطبعة الحكومة بمكة بطبعها، على أن لا يترتب على ذلك أي مصاريف، وعلى أن تتم إعارة الشيخ ابن قاسم من المعهد العلمي بمكة إلى أن ينتهي من هذا العمل. فاكملوا ما يلزم بموجبه) .
التوقيع الملكي
(فيصل)
رئيس مجلس الوزراء
نسخة لمعالي وزير العدل للاعتماد
نسخة لفضيلة نائب رئيس الكليات والمعاهد العلمية للاعتماد
نسخة لفضيلة نائب المفتي للاعتماد
وقد قامت حكومة جلالة الملك (خالد بن عبد العزيز آل سعود) حفظه الله بإنفاذ ذلك الأمر حفظ الله جلالة الملك خالد وصاحب السمو الملكي الأمير (فهد بن عبد العزيز آل سعود) ولي العهد نائب جلالة الملك وأبقاهما عمادًا للدين ذيادًا عن حياضه وشد عضدهما بالبطانة الصالحة التي تخاف الله وترجو ما عنده إنه قريب مجيب.
وقد كان لابني المرحوم (عبد العزيز وإبراهيم) يد طولى في تشجيعي على مواصلة العمل وتذليل الصعوبات التي تظهر من حين لآخر وفقهما الله للخير ونفع بهما.
1 / 4
كما أن لسماحة والدنا الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) نصيب حيث أمدني بناسخ تولى نسخ الكتاب على الآلة الكاتبة بعد أن قمت بتبييضه.
ولا أنسى فضل الرئاسة العامة للكليات والمعاهد سابقًا (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) حاليًا حيث أعارت خدماتي للافتاء للقيام بهذه المهمة.
مصادر الفتاوي والرسائل
جمعت هذه المجموعة الضخمة من تسع جهات:
١- تقارير كنت أكتبها عن سماحته في حلقات الدراسة منذ عام ١٣٥٧ حتى عام ١٣٨١ وقد كنت كثير الاهتمام بذلك حتى اني بيضت كثيرًا منها عام ١٣٧٥ وهذه التقارير تكون النسبة الكبرى من هذا المجموع حتى إنها بلغت (١٨٠٠) .
٢- دار الإفتاء وقد أطلعت فيها على مائة وأربعة وثلاثين ملفًا (١٣٤) ابتدأْت في ذلك في رمضان ١٣٩٢هـ وفرغت منه في ذي القعدة ١٣٩٢هـ واستخلصت منها (١٦٠٠) فتوى.
٣- رئاسة القضاة سابقًا (وزارة العدل حاليًا) وقد أَطلعت فيها على (٤٨٨) ملفًا (ملفات القضايا) و(٧٠٠) ملفًا في الأرشيف العام.
٤- المكتب الخاص لسماحة المفتي وقد أطلعت فيه على (١٤٠) ملفًا ونظرًا إلى أنه قد نقل إلى وزارة العدل فقد أَطلعت على محتوياته هناك، وقد بدأْت العمل في وزارة العدل والمكتب الخاص في ٣-١١-١٣٩٢هـ وقد استخلصت من وزارة العدل (٦٢٧) فتوى ومن المكتب الخاص (٣٠٨) فتوى.
٥- الديوان الملكي - الشئون الداخلية - وقد وردنا منهم (٨) فتاوي.
1 / 5
٦- ديوان رئاسة مجلس الوزراء وقد وردنا منه (١٠) فتاوي.
٧- مكتبة سماحته وقد حصلت منها على فتاوى مطولة: (الجواب الواضح المستقيم) في جواز نقل مقام إبراهيم و(نصيحة الإخوان) في بيان ما في نقض المباني لابن حمدان و(تحذير الناسك) عما أَحدثه ابن محمود في المناسك، ورسالة حول منع تعجيل ذبح الهدى قبل يوم النحر.
٨- ما جمعته من أيدي بعض طلاب العلم وليس بالكثير حيث بلغ (٦٠) ما بين رسالة وفتوى وقد نسبت سند كل فتوى إلى مقدمها.
٩- الدرر السنية في الأجوبة النجدية وقد استخرجت منها (٢٦) فتوى بعضها له وحده وبعضها له بالاشتراك مع غيره.
منهجي في الكتاب
١- بدأْت بمقابلة الفتاوي بعضها على بعض فاستبعدت المتكرر حرفيًا وهذا كثير فيما صدر من دار الإفتاء ثم من رئاسة القضاة.
٢- استبعدت بعض الفتاوي المختصرة لوجود محتواها في أُخر أَطول منها وأكثر تفصيلًا.
٣- لخصت بعض الفتاوي المطولة التي تكون الفائدة في جزء منها.
٤- استبعدت ذكر الأشخاص إذا وردت في مقام لا يحمد.
٥- إذا احتوت الفتوى أو التقرير على مسائل في فنون مختلفة أَو أَبواب في الفن الواحد وضعت كل مسأَلة في مكانها المناسب وأَشرت إلى رقم الصادر الرسمي بعد انتهاء كل مسأَلة.
٦- أَحلت على بعض المسائل في مواضعها إذا وجدت مناسبة.
1 / 6
٧- فيما يتعلق بالفتاوي الصادرة من الدوائر الرسمية لم أدرج في هذا الكتاب منها إلا ما صدر باسم سماحته صريحًا من (محمد بن إبراهيم) أو ختم بـ (محمد بن إبراهيم) أو وجدته في المسودة بلفظ: فأَجاب سماحته.
٨- وضعت عنوانًا على كل فتوى يدل على مضمونها.
٩- صححت بعض الأخطاء التي حدثت للناسخ بعد الرجوع إلى ما وجد من مسوداتها.
١٠- كتبت ترجمة لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ﵀ صدرت بها الكتاب.
١١- قسمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول منها في (العقائد) وينقسم إلى خمسة أقسام:
(١) وجود الله ووحدانية ذاته تعالى.
(٢) وحدانية الإلهية.
(٣) وحدانية الصفات.
(٤) مسائل في فروع العقائد.
(٥) الصوفية والشيوعية، وقد جاءت العقائد في جزء.
القسم الثاني من الكتاب (الفقه) مع مقدمة في أُصوله وقد رتبته ترتيب «زاد المستقنع» وشرحه «الروض المربع» وقد شملت المسائل جميع أبوابه - من المياه - إلى الإقرار - وجاء هذا القسم في ثمانية أجزاء.
القسم الثالث (معارف عامة) يشمل الإشارة إلى معارف متنوعة وفنون مختلفة ويحتوي على:
(١) أصول التفسير.
1 / 7
(٢) فتاوي قليلة في التفسير.
(٣) اللغة العربية.
(٤) الشعر.
(٥) اللغة الأجنبية.
(٦) الجغرافيا.
(٧) صناعات ومهن.
(٨) المكتبات ما ينبغي أن يوجد فيها، ومراقبة المطبوعات ودور النشر.
(٩) المؤلفات التي تناولها بالمدح أو القدح - وهي مرتبة على حروف الهجاء.
(١٠) نصائح عامة، ومنها كلمات سماحته في رابطة العالم الإسلامي.
(١١) التربية والتعليم.
(١٢) فهارس عامة على الطريقة التي انتهجتها في فهارس (مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ﵀ وقد جاء هذا القسم في جزء، وبه كمل الكتاب (عشرة أجزاء) .
(١٣) وضعت بعض الهوامش حين اجد ضرورة لذلك كتخريج بعض الأحاديث أَو ايضاح شيء من المشكلات.
مصطلحات
١- ذيَّلت ما كتبته عن سماحته في حلقات التدريس بكلمة (تقرير) .
٢- إذا قلت: قوله. فالقول لمؤلف (زاد المستقنع) الحجاوي، أو شرحه (الروض المربع) للبهوتي إذا كانت العبارة في الشرح.
1 / 8
٣- صف: صادر دار الإفتاء.
٤- صق: صادر رئاسة القضاة.
٥- صادر المكتب الخاص لسماحته.
٦- الدرر السنية في الأَجوبة النجدية.
٧- ما لم أجد عليه علامة الصدور وكان بخط مدير مكتبه الخاص (عبد الله بن إبراهيم الصانع) أو أمين مكتبته (أحمد بن عبد الرحمن بن قاسم) أو مراقب الطلاب (محمد بن علي بن عبد اللطيف) أَلحقته بالفتاوي.
حياة الشيخ محمد بن إبراهيم
نسبه ومولده:
هو العلامة الجليل الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن إمام الدعوة محي السنة مميت البدعة الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) بن الشيخ سليمان بن علي بن محمد بن أَحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن؟ بن شداد بن زهير بن شهاب بن ربيعة بن أَبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم. ثم إلى نزار بن معد بن عدنان.
ولد في مدينة الرياض في (حي دخنة) في ١٧ من محرم عام ١٣١١هـ بدأَ ﵀ من صغره في الأَخذ بأَسباب العلم والمعرفة فتلقى القرآن الكريم وهو بين الثامنة والعاشرة من عمره نظرًا على معلمه عبد الرحمن بن مفيريج. وفي السادسة عشرة من عمره أُصيب بالرمد
1 / 9
في عينيه فكف بصره، وكانت مدة مرضه سنة. وعلى أثر ذلك حفظ القرآن على عبد الرحمن بن مفيريج عن ظهر قلب، وقد درس فن التجويد فيما بعد.
ثم أخذ في طلب العلم بمختلف فنونه فأَخذ علم «الفرائض» عن والده الشيخ إبراهيم ﵀ أولًا ثم عن الشيخ عبد الله بن راشد ومما قرأَ عليه في ذلك أَلفية الفرائض.
وتلقى علم «العقائد» عن عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمهما الله تعالى. ومنها في العقائد كتاب التوحيد وأُصول الإيمان وفضائل الإسلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب والدلائل (حكم موالات أهل الشرك) للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والعقيدة الواسطية والعقيدة الحموية وكلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية وأَخذ «الفقه» عن الشيخ حمد بن فارس أَولًا ثم على الشيخين سعد بن حمد بن عتيق ومحمد بن محمود المتوفي عام ١٣٣٣هـ ومن كتبه (زاد المستقنع) .
وأخذ علم «العربية» عن الشيخ حمد بن فارس المذكور آنفًا ومما قرأَ عليه في هذا الفن الاجرومية والمسلحة والقطر والأَلفية.
وفي «الحديث وعلومه» قرأَ بلوغ المرام وثلث المنتقى على عمه الشيخ عبد الله ثم أَعاد بلوغ المرام على الشيخ سعد بن عتيق. وعليه قرأ أَيضًا أَلفية العراقي في مصطلح الحديث.
هذا ومن المستفيض أَن الشيخ ﵀ كان كثير الدأَب على المطالعة في مختلف الكتب وتدريسها فكان هذا مصدرًا ثانيًا غنيًا بتنمية حصيلته العلمية وتوسيع أُفقه أَعانه على ذلك ما عرف عنه من حدة الذكاء ورجاحة العقل.
1 / 10
اشتغاله بالتدريس:
لمس فيه مشايخه الأَلمعية النادرة المبكرة والنجابة الظاهرة فأدركوا أنه الخليفة لهم الذي يمكن أن يطمئن إليه في مجالس العلم فأَوصى عمه الشيخ عبد الله الملك عبد العزيز ﵀ بابن أَخيه خيرًا وذكر له ما يتمتع به من المزايا الفذة التي لا تكاد تتوافر إلا في قليل من الرجال الذين وهبهم الله ذكاءً وفطنةً وجلدًا وإخلاصًا. وحين توفي الشيخ عبد الله عام ١٣٣٩هـ أَخذ ابن أَخيه مجلسه فبدأَ التدريس إلى جانب مشايخه الذين ما زالوا على قيد الحياة، ولما توفي شيخه سعد بن حمد بن عتيق عام ١٣٤٩هـ وتوفي قبله الشيخ حمد ابن فارس عام ١٣٤٥هـ توسع في مجالس التدريس واستقل بأكثرها إلى جانب أعمامه ﵏ وغيرهم من أَفاضل العلماء الذين كانوا يقومون بالتدريس على فترات متعاقبة في بعض العلوم.
ولكن ينبغي أن نؤكد أَن نؤكد أَن الشيخ محمد ﵀ له النصيب الأَوفر في كثرة المجالس وكثرة القاصدين له من طلبة العلم وغزارة العلم وعموم النفع فقد كان يعمر أَكثر نهاره بالتدريس حيث كان يجلس ثلاث جلسات منتظمة، فالأولى بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، والثانية بعد ارتفاع الشمس مدة تتراوح ما بين ساعتين وأَربع ساعات، والثالثة بعد صلاة العصر، وهناك جلسة رابعة لكنها ليست مستمرة وهي بعد صلاة الظهر.
وكل هذه الجلسات كانت تتم في جامع الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعروف الآن في (حي دخنه شمال الميدان) ما عدا جلسة الضحى فقد كانت في أول الأمر في هذا الجامع ثم نقلها إلى بيته.
1 / 11
وكان ﵀ ينقطع بعد المغرب لمطالعة دروس الغد في الكتب التي كانت تدرس بعد الفجر ومنها (الروض المربع) و(سبل السلام) و(شرح ابن عقيل) على أَلفية ابن مالك وما يعين عليها من المراجع.
وفيما يلي عرض للكتب التي كان يقوم ﵀ بتدريسها:
١- أَولا بعد صلاة الفجر أَلفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل وزاد المستقنع مع شرحه الروض المربع وبلوغ المرام والآجرومية والمسلحة وقطر الندى وعمدة الأحكام وأُصول الأحكام والحموية والتدمرية ومخبة الفكر. أَما باقي الكتب فبالتعاقب على فترات مختلفة طيلة أيام تدريسه.
٢- بعد شروق الشمس يدرس في العقائد كتاب التوحيد، كشف الشبهات، ثلاثة الأصول، العقيدة الواسطية باستمرار، مسائل التوحيد، مسائل الجاهلية، لمعة الاعتقاد، أُصول الإيمان على فترات، وفي الحديث: الأَربعين النووية، عمدة الأَحكام باستمرار. وفي الفقه آداب المشي إلى الصلاة، وقد يدرس غيرها لكنه نادر.
وبعد الانتهاء من هذه المختصرات تقرأُ المطولات ومنها: فتح المجيد، شرح الطحاوية، شرح الأَربعين النووية، صحيح البخاري، صحيح مسلم، السنن الأَربعة، مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير بدون إستثناء وكل ما جد من كتب السلف والمحققين من العلماء، ولكنها على فترات يتراوح ما يقرأُ منها في اليوم ما بين خمسة وعشرة غالبًا.
٣- بعد صلاة الظهر ويدرس فيه: زاد المستقنع بشرحه الروض المربع، بلوغ المرام.
1 / 12
٤- بعد صلاة العصر ويدرس فيه كتاب التوحيد وشرحه وقد يقرأُ في مسند الإمام أَحمد أَو مسند ابن أَبي شيبه والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح أَو نحوها.
وقد استمر يزاول التدريس بنشاط لا يفتر وهمة لا تكل إحدى وأربعين عامًا من عام ١٣٣٩هـ - ١٣٨٠هـ.
طريقته في التدريس
كان ﵀ يعطي مجالس العلم حقها من الاحترام والتقدير ويحرص على إيصال الفائدة إلى قرارة قلوب الطلاب معنيًا بتثبيتها حتى إنه ليكاد يغني بشرحه عن مطالعة. وكان ﵀ إذا هم بالجلوس للتدريس توضأَ إن لم يكون على وضوء بعد صلاة، واستقبل القبلة إذا كانت الجلسة في المسجد ويبدأُ شرحه باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ويمكن تلخيص السمات الظاهرة لطريقته في التدريس في النقاط التالية:
١- يطلب من بعض الطلاب أَن يبدأَ بالبسملة والصلاة والسلام على رسول الله والترحم على المؤلف، ثم يتلوا حفظًا موضوع الدرس إذا كان الكتاب متنًا. ويحرص جدًا على أَن يحفظ جميع الطلاب المنتظمين المتون ولا يرضى بنصف حفظ، ولا ينتقل الطالب من متن إلى متن أَطول منه إلا بعد حفظ الأَول وفهمه، ولذا كان الطالب المجد منهم يتخرج في سبع سنوات.
٢- قبل أَن يبدأَ بالشرح يقرأُ هو ما قرأَ الطلاب.
٣- يشرع في شرح عبارات المتن بدقة ووضوح.
٤- يعرض بعض المسائل ويتكلم عليها.
1 / 13
٥- إذا عرض لمسأَلة خلاف ذكر رأْي المؤلف أولًا وأَدلته ثم ذكر رأْي المخالفين كلا على حدة، مع دليله. وكان في ذلك كله يحترم كل ذي رأي من العلماء ولا يذكره بما يسوء، وكان يرجح ما يراه معتمدًا في ذلك على الدليل وأَقوال المحققين، ولم يكن يعرض من الخلاف إلا ما كان ذا جدوى. وقد يصحح أَحد القولين بدون سرد الأَدلة لقصر الوقت أو نظرًا لحال الطالب.
٦- كان يلتزم بالموضوع ولا يستطرد إلى مسائل خارجة عنه.
٧- كان إذا فرغ من الدرس تلقى أَسئلة الطلاب وأَجاب. وقد يثير هو بعض الإشكالات ليقدح أَذهان الطلاب.
٨- يختبر الطلاب فيما شرح لهم في بعض الأَحيان بإِلقاء الأَسئلة عليهم ويعربون متن الأَلفية وشواهدها.
٩- فيما يتعلق بالعقائد لم يكن يحرص على ذكر آراء أَهل البدع والإِشراك فإِذا وجد ضرورة لذلك أَو كان المؤلف ذكرها فإِنه يتكلم عليها بتوسع ويشتد في الرد عليهم دون إِفراط.
١٠- وبالنسبة لقراءة المطولات لم يكن يشرحها عبارة عبارة وإِنما كان يقف عند المهم منها أَو ما يسأَل عنه أَحد الحاضرين.
١١- يلزم اللغة العربية في جميع مجالسه العامة.
١٢- يلتزم الهدوء أَثناء شرحه للمتون أَو تعليقه على المطولات فلا تراه يلتفت أو يشير بيد أو يعبث بشيء.
١٣- لم يكن يسمح بإِثارة الأَسئلة التافهة أَو الدخول في مناقشات عقيمة.
1 / 14
أخلاقه:
لم يصل ﵀ إلى ما وصل إليه من مكانة في قلوب الناس بمجرد المصادفة ولكن مرد ذلك إلى توفيق الله ﷿ أولًا، ثم إلى ما كان يتحلى به من أَخلاق فذة التزم بها وحافظ عليها طوال أَيامه. ولا بأس من الإشارة إلى بعض ما نعرفه عنه من الأَخلاق الحميدة فمن ذلك:
١- الحافظة النادرة التي كانت أَقوى سبب في تحصيل ثروة علمية واسعة بنيت على محفوظاته التي علقت بذاكرته أَثناء تعلمه ومطالعاته أَثناء تدريسه، فكانت الأَساس القوي لمقدرته على استنباط الأحكام ومعرفة الأَدلة التي تبني عليها. وقد مر بنا أَنه حفظ بلوغ المرام وزاد المستقنع وغيرهما مما مر ذكره في فصلي شيوخه؟ بالتدريس. ونزيد هنا أَنه كان يحفظ كثيرًا من القصائد؟ وكان يصف وهو في أُخريات أَيامه مشاهداته قبل أَن يكف بصره وأَنت على علم أَنه فقد بصره في السادسة عشرة من عمره، وكان يحفظ المتن للقراءة الثالثة وربما الثانية، وكانت المعاملة الطويلة التي تبلغ ثلاثمائة صفحة تقرأُ عليه ثم يملي ما يرى مستحضرًا كل ما مر فيها من الجزئيات، ولم يكن غريبًا منه أَن يدل القارئين على مواضع الأَبحاث في كتبها ذاكرًا رقم الصفحة أَحيانًا ومثل ذلك لا يكون إلا لمن أَتاه الله ذاكرة واعية.
٢- وقد رزق من الذكاء ما مكنه من إدراك محفوظاته العلمية عن فهم وبصيرة، وكان يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة ولم يكن ينطلي عليه كيد أَو احتيال. وحياته كلها أَمثلة من هذا النوع لسنا في حاجة إلى الدخول في ضرب الأَمثال لها فأَكثر العارفين به يدركون ذلك
1 / 15
ولكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أَنه ﵀ كان يدرك تقدير الوقت بالساعة لا يكاد يخطيء الحقيقة في بضع دقائق مع العلم بأَنه لم يستعمل الساعة في حياته.
٣- وكان يطيل التأَمل والتعمق ويبعد النظر فيما يعرض عليه من القضايا التي تجد تباعًا ولم يكن يتعجل الأَمر حتى يمعن في الدرس والتأَمل والنظر في عواقب الأمور فكان يصل بعد ذلك إلى الاستنتاج الدقيق الذي لا يكاد يختلف ولا يخالفه فيه ذو نصف والأَمثلة في هذا المقام كثيرة لكن أَسوق منها مثالين:
أحدهما أَنه سئل عن افتتاح حمام فني فكتب ما نصه:
(لا أرى فتح مثل هذا الحمام في هذا البلد لأَن الضرر سيكون أكبر من النفع، ومثل هذه الأَشياء تكون عادة وسيلة لفساد لم يخطر على بال الذي أَسسها، ومهما حرصت الآن على مراعاة الآداب الشرعية والأَخلاقية فإنك لن تستطيع ذلك في المستقبل بعد فتح هذا الباب) .
ثانيهما أَنه سئل 'ن إنشاء صندوق لسائقي السيارات فقال في الجواب ما نصه:
(إن اقتراح الذين اقترحوا جعل الصندوق مشروعًا خيريًا يحتاج إلى تقييد لأَنه وإن كان طرق الخير مفتوحة أَمام الراغبين إلا أَنه ينبغي معرفة ما وراء ذلك لئلا تكون وسيلة إلى استباحة أَشياء لا تجوز تحت اسم الشيء المسموح) .
٤- ومن أَخلاقه البارزة الإخلاص في العمل فلم يكن يومًا طالب شهرة ولا باحثًا عن سمعة بل كان عمله كله لله يبتغي ما عنده يجتهد في تحري الحق ويجتهد في الدفاع عن الحق لا يأْخذه في ذلك ضعف ولا يعتريه طمع ولا يعرف عنه أَنه تحدث عن أَعماله على جلالتها وكثرتها.
1 / 16
٥- طهارة قلبه فكان لا يحمل ضغينة على من أَساء إليه ولا ينتقم من أَحد ناله بأَذى بل كان ديدنه الصفح والتجاوز بل المحافظة عليهم والدفاع عنهم أَن ينالهم أَحد بما يعرف أَنه باطل.
٦- وكان ﵀ على حظ وافر من الشجاعة وقوة الشكيمة لا يخاف في الله لومة لائم ولا يتردد في إعلان الحق أَيا كان المخاطب به، ودافعه في ذلك مخافة الله وحرصه على أَن يخلص ذمته مما علق به فمكانته ومسئوليته تحتم عليه نبذ التخاذل وكان يكره المتملقين وله في ذلك مواقف حفظها التاريخ.
٧- ومن السمات البارزة التي كانت تميزه ما أَتاه الله من هيبة في نفوس الناس وهو أَمر لا يرجع إلى مخافة منه ولكن إلى محبته وإجلاله ومعرفتهم عنه صرامته في الحق يحسب محدثه الحساب الدقيق حتى لا يزل في كلمة أو يخطيء في فكر ومع ذلك فقد كان أنيسًا عند مخالطته أَلوفا لمعاشريه لا يتصف بشيء من الغلظة أو الغضاضة وكان يحسن الفرق بين مجالس الجد والعمل ومجالس الراحة حيث يكون في سفر أو نزهة.
٨- وكان يتنزه عن الغيبة والحديث في الآخرين بما يكرهون وعرف بذلك منذ حداثة سنه حتى فارق الدنيا ولم يكن يسمح لأَحد أَن يتحدث في مجالسه بمثالب الآخرين أَو تنقصهم بل كان يقف دون ذلك ويزجر من حاوله.
٩- ومما لا يعرفه الكثيرون عنه ما يتصف به ﵀ من العفة والتورع عن أَخذ ما ليس له أو ما يرى فيه شبهة فكان حريصًا على أَن لا يدخل نفسه في مداخل مشتبهة ولم يعرف انه اشتغل
1 / 17
بالبيع أو الشراء لا بالاستقلال ولا بالمشاركة، بل كان مقتصرًا على ما يتقاضاه مقابل عمله بل إنه كان يشغل عدة أَعمال كما هو معروف لا يتقاضى إلا ما كان يأْخذه قبل إحداث هذه الأَعمال ولم يكن يأْخذ انتدابًا مقابل انتقاله إلى مدينة الطائف صيفًا ولم أَعرف عنه أَنه طلب من المسئولين شيئًا يخصه.
١٠- ومما لا ينكر من أَخلاقه الظاهرة للعيان كراهيته الشديدة للمديح والثناء عليه فما كان يرضى من أحد أن يثني عليه أو يبالغ في مدحه سواء كان ذلك مشافهة أو كتابة. ومن الأَمثلة التي تذكر في هذا المقام ما كتب به إلى أحد الناس ونصه: ملحوظة: كثيرًا ما تكتب في خطاباتك أَلقابًا لا يسوغ ذكرها كقولك شيخ الاسلام ومفتي الأَنام وهذا شيء لا نرضاه.
وكتب في مناسبة أَخرى ما نصه: وما ذكرتم في خطابكم من الثناء نود أَن لا نسمعه فنحن نستغفر الله ونتوب إليه من تقصيرنا وضعفنا نسأَله تعالى أَن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. وكتب لآخر ما نصه: نفيدكم أَنه جاء في خطابكم بعض العبارات مثل قولكم عالم الوجود تلك العبارة التي لا يصدر مثلها إلا عن جاهل.
١١- وكان ﵀ معروفًا بالبذل والسخاء في الحدود التي لا تصل إلى المبالغة المكروهة شرعًا والمؤدية إلى الإسراف وإضاعة الوقت وبالأَخص ما يتعلق بإِكرام العلماء والقضاة وطلاب العلم وذوي رحمه. وكان لا يترك مناسبة مهمة إلا أَقام لها الوليمة الكبيرة ودعاهم.
١٢- خشيته لله، كان ﵀ من أَكثر الناس استحضارًا لعظمة الله كثيرًا ما تسمعه يلهج بذكر الله والاستغفار وتغرورق عيناه
1 / 18
بالدموع حينما يكون في موقف مناجاة الله أو سمع بعض ما يحرك القلوب، ولقد كان ذلك يتجلى كثيرًا فيما يحييه من الليل بالصلاة التي كان يواضب عليها في إقامته وسفره وقد لا يعرف هذا كثير من الناس الذين لم يتصلوا به وقد صحبته زمنًا طويلًا وهو يقوم ما يقرب من ساعة ونصف آخر الليل لا يترك ذلك.
ولا غرو فقد كان ﵀ يتحرى في جميع تصرفاته وأَخلاقه الظاهرة والباطنة التأَسي بالنبي ﷺ وصحابته وسلف هذه الأمة رضوان الله عليهم.
الأعمال التي قام بها
عرفنا في مناسبات كثيرة مما مضى في هذه الترجمة أَنه ﵀ باشر العمل منذ وفاة عمه عبد الله ﵀، وقد كان العمل الرئيسي الذي شمل أَكثر أَيام حياته هو (التدريس) وقد تحدثنا عنه في فصل خاص لما له من الأَهمية.
على أنه صاحب التدريس مهمة أُخرى بدأَت دون تنظيم رسمي وهي (الفتوى) فقد كان يشارك فيها حتى توفي الشيخ سعد بن عتيق ثم استقل بها حتى تحولت بآخرة إلى عمل منظم في دار الإفتاء حيث أُنشئت في عام ١٣٧٤هـ.
وظل ﵀ يقوم بالفتوى من خلال هذه الدار حتى وافته المنية إلى جانب ما كان يكتبه في هذا الميدان في بيته من فتاوى وردود على بعض الكاتبين في قضايا يرى بثاقب بصيرته أَن السكوت عليها مسئولية أَمام الله.
وإلى جانب هذين الأَمرين هناك أَمر ثالث لا يقل خطرًا عنهما وهو (القضاء) فقد كان ﵀ يقوم بتمييز الأَحكام التي تحتاج
1 / 19
إلى نظره وينظر فيما أُحيل إليه من القضايا بأَمر من ولاة الأمور.
ولما حول القضاء نظرًا لاتساعه إلى رئاسة أُسندت إليه رئاسته في المنطقتين الوسطى والشرقية في عام ١٣٧٦هـ ثم ضمت إليه المنطقة الغربية بعد وفاة الشيخ عبد الله بن حسن ﵀ في عام ١٣٧٨هـ وقد نصت المادة الحادية عشر من نظام هيئة التمييز أن له ﵀ حق النظر والبت فيما يختلف فيه القاضي وهيئة التمييز.
وإلى جانب ذلك كله ورغم ما كان يحمله إياه من أَعباء فقد تولى (رئاسة المعاهد العلمية والكليات) منذ إنشائها عام ١٣٧٠هـ.
ووكل إليه الإشراف على (مدارس البنات) منذ افتتاحها في عام ١٣٧٩هـ وكلف برئاسة (الجامعة الإسلامية) في المدينة المنورة عام ١٣٨١هـ. وتولى رئاسة «مجلس القضاء» الذي شكل في عام ١٣٨٨هـ وعقد في حياته مرتين.
وولي رئاسة (رابطة العالم الإسلامي) منذ إنشائها في عام ١٣٧٩هـ وإمامة جامع حي دخنه وخطابة المسجد الجامع الكبير المعروف الآن (في ساحة العدل بالرياض) .
وشكل هيئة تضم كبار العلماء لتكون مرجعًا لبحث ما يحصل من المشاكل العلمية العويصة وتقرير ما يلزم حيالها وللمذاكرة فيما بينهم والتصدي لنشر الدعوة الإسلامية والذود عنها ومحاربة التيارات الجارفة والمباديء الهدامة.
وبعبارة عامة فقد كان له ﵀ الإشراف التام على جميع الشئون الإسلامية داخل المملكة وخارجها مما يتصل بالمملكة العربية السعودية وتعني بتوجيهه.
ومثل هذا لا يقوم به العالم العادي ولكن من آتاه الله القوة والجلد وإن ذلك ليدل على ثقة الناس وبخاصة أَولياء الأمور في حصافة
1 / 20
عقله وسعة علمه ومقدرته الفذة وحاجتهم إليه في كل ما يعرض لهم من المشكلات.
تلاميذه
لا أظن أَن من يعرفه ﵀ يخفى عليه أَمر الذين أَخذوا عنه العلم واستفادوا منه الفائدة الكبرى. ولا أَظن أَن ذلك يخفى على من عرف المدة الطويلة التي قضاها مشتغلًا بالتدريس فقد مر به أَفواج بعد أفواج ينهلون من علمه ويستنيرون بثاقب نظره وقد انتشروا في أَنحاء المملكة السعودية بين عالم وقاض ومدرس وواعظ وخطيب مسجد ومتفرغ من الأَعمال ولا أَظن أَن الحصر قادر على أَن يأْتي على جميع أَسمائهم لذلك فإني أَكتفي بعرض أَسماء طائفة منهم وهم:
الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد ... رئيس المجلس الأعلى للقضاء حاليًا
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
صاحب المؤلفات المشهورة
الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ... رئيس محكمة هيئة التمييز حاليًا
الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد ... قاضي الرياض سابقًا
الشيخ سعود بن رشود ... عضو هيئة التمييز حاليًا
الشيخ صالح بن غصون ... شقيق المترجم الفرضي المشهور
الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم ... شقيقه رئيس هيئات الأَمر بالمعروف في المنطقة الغربية سابقًا
الشيخ عبد الملك بن إبراهيم ... نجل سماحته رئيس هيئات الأَمر بالمعروف حاليًا
نجل سماحته وزير العدل حاليًا
الشيخ عبد العزيز بن الشيخ محمد ... قاضي بمحكمة الرياض حاليًا
قاضي بمحكمة الرياض سابقًا
الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد ... قاضي بمحكمة الرياض سابقًا
الشيخ عبد الرحمن بن فارس ... قاضي بمحكمة الرياض
1 / 21