فتاوى ومسائل الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب
تأليف: الإمام محمد بن عبد الوهاب
قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾
المسألة الأولى ١
سئل، ﵀، ٢ عن قوله تعالى في سورة هود: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٣.
فأجاب بقوله:
ذكر عن السلف من أهل العلم فيها: أنواع ما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه؛ فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله٤ كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صدقة، وصلة، وإحسان إلى الناس، ونحو ذلك، وكذلك ترك ظلم أو كلام في عرض، مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصًا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أن يجازى به بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعم عليها، ونحو ذلك، ولا همة لهم في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس، وقد غلط فيه بعض مشايخنا بسبب عبارة ذكرها في الإقناع في أول باب النية، لما قسم الإخلاص إلى٥ مراتب وذكر هذا، ظن أنه يسمى إخلاصًا مدحًا له، وليس كذلك، وإنما أراد أنه٦ لا يسمى رياء، وإلا فهو عمل حابط في الآخرة.
_________
١ من هنا حتى صفحة ٩٢، مصدره تاريخ ابن غنام.
٢ في المخطوطة: ﵁، والدعاء بالترضي مشتهر عن الصحابة.
٣ سورة هود آية: ١٥-١٦.
٤ في طبعة الأسد: (مما يفعله) .
٥ في المخطوطة: بدون (إلى) .
٦ في طبعة أبا بطين: بدون (لا)، والتصحيح من المخطوطة.
1 / 5
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أن الآية نزلت فيه، وهو: أن يعمل أعمالًا صالحة، ونيته رياء الناس، لا طلب ثواب الآخرة.
ولما ١ ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة، في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار، وهم: الذي تعلم العلم ليقال عالم، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، فبكى ٢ معاوية بكاء شديدًا، ثم قرأ هذه الآية.
النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة ويقصد بها مالًا، مثل: الحج لمال يأخذه، لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم. فقد ذكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم " ٣ إلى آخر الحديث ٤.
وكما يتعلم الرجل العلم لأجل مدارسة ٥ أهله، أو مكسبهم، أو رياستهم أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثير - وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل.
والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم، لأنهم عملوا لله
_________
١ في طبعة أباطين والمصطفوية: (وكما ذكر) .
٢ في المخطوطة: (بكى)، بدون فاء، وكذلك في الطبعة المصطفوية.
٣ البخاري: الجهاد والسير (٢٨٨٧)، والترمذي: الزهد (٢٣٧٥)، وابن ماجة: الزهد (٤١٣٦) .
٤ في المطبوعة: (تعس عبد الدينار ... إلخ) . ومن هنا حتى ص١٨٧ من المطبوعة: ساقط من المصورة. وقد ذكر في هامش المطبوعة ما يلي: سقط من أصل الطبعة الأولى أربع كراريس، وأثبتناها هنا، وهو من قوله: (إلخ) إلى قوله: "وقال الشيخ، ﵀ ورضي عنه: قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ الآية. (عبارة أبابطين ج١، ص ١٧٨) .
٥ في المخطوطة: (مدرسة)، والصواب ما ذكر.
1 / 6
وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا من ١ الخير الكثير العظيم الدائم وهو: الجنة، ولم يهربوا ٢ من الشر العظيم وهو: النار. النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفّره كفرًا يخرجه عن الإسلام، مثل: اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أو كفر أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لأنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام تمنع قبول أعمالهم. فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منها. قال بعضهم: لو أعلم أن الله يقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ . فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والملك ٣ والمال، ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله أو أكثر، فصارت الدنيا أكبر قصده، ولذلك قيل: ٤ قصد الدنيا.
وذلك القليل ٥ كأنه لم يكن، كقوله ﷺ: " فإنك لم تصلّ " ٦، والأول أطاع الله ابتغاء وجه الله، لكن أراد من ٧ الثواب في الدنيا، وخاف على الحظ والعيال، مثل ما يقول
_________
١ في طبعة الأسد: بدون (من)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٢ في طبعة ناصر الدين الأسد: (ولم يرهبوا)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٣ في طبعة الأسد: (والمكث)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٤ في طبعة الأسد: (قبل) وكذا في طبعة أبا بطين.
٥ أي: القصد القليل للآخرة ...
٦ البخاري: الأذان (٧٥٧)، ومسلم: الصلاة (٣٩٧)، والترمذي: الصلاة (٣٠٣)، والنسائي: الافتتاح (٨٨٤)، وأبو داود: الصلاة (٨٥٦)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٠٦٠) والأدب (٣٦٩٥)، وأحمد (٢/٤٣٧) .
٧ في طبعة الأسد: بدون (من)، وكذا في طبعة أبا بطين.
1 / 7
الفسقة، فصح أن يقال: قصد الدنيا.
والثاني والثالث واضح، لكن بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج، ابتغاء وجه الله، طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالًا كثيرة أو قليلة، قاصدًا بها الدنيا، مثل: أن يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلّص وأهل النار الخلّص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله. ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال.
وأما الفرق بين الحبوط والبطلان فلا أعلم بينهما فرقًا. والله أعلم.
1 / 8
المسألة الثانية
سألني الشريف عما نقاتل عليه، وعما نكفّر الرجل به ١، فأخبرته بالصدق، وبينت له الكذب الذي يبهت ٢ به الأعداء؛ فسألني أن أكتب له.
فأقول: أركان الإسلام الخمسة، أولها: الشهادتان، ثم الأركان الأربعة. فالأربعة، إذا أقرّ بها وتركها تهاونًا، فنحن - وإن قاتلناه على فعلها - فلا نكفّره بتركها؛ والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلًا من غير جحود. ولا نقاتل إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو: الشهادتان. وأيضًا، نكفّره بعد التعريف إذا عرف وأنكر؛ فنقول: أعداؤنا معنا ٣ على أنواع:
النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس، وأقر أيضًا أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر الذي هو دين غالب الناس - أن ٤ الشرك بالله الذي بعث الله رسوله ينهى عنه ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله - ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد، ولا تعلمه،
_________
١ في طبعة الأسد: تقديم (به) على (رجل)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٢ في طبعة الأسد: (فأجبته وبينت له أيضًا الكذب الذي بهت)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٣ في طبعة الأسد: بدون (معنا)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٤ في طبعة الأسد: (هي الشرك)، وكذا في طبعة أبا بطين.
1 / 9
ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك؛ فهذا كافر نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول فلم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يبغض دين الرسول ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس.
النوع الثاني: من عرف ذلك كله، ولكنه تبين في سب دين الرسول مع ادعائه ١ أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر ٢ ومن عبد أبا علي والخضر من أهل الكويت، وفضلهم على من وحّد، وترك الشرك؛ فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ ٣، وهو ممن قال الله فيه: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ ٤.
النوع الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه، وعرف الشرك وتركه، ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك؛ فهذا أيضًا كافر، وهو ممن ورد فيه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ ٥.
النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد، واتباع أهل الشرك، وساعون ٦ في قتالهم، ويتعذر أن تركه وطنه
_________
١ في طبعة أبا بطين: (مع أعدائه) .
٢ في طبعة أبا بطين: (والأشعري) .
٣سورة البقرة آية: ٨٩.
٤ سورة التوبة آية: ١٢.
٥ سورة محمد آية: ٩.
٦ في المخطوطة: (وساعين) بالياء.
1 / 10
يشق عليه؛ فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه؛ فهذا أيضًا كافر. فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل، ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ذلك إلا بمخالفتهم فعل، وموافقتهم على الجهاد معهم بنفسه وماله، مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله، أكبر من ذلك بكثير (كثير) ١. فهذا أيضًا كافر، وهو ممن قال الله فيهم: ﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ ٢. فهذا الذي نقول.
وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفّر من لم يكفّر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه. فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفّر مَن عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم وعدم من ينبههم ٣، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، ولم يكفّر ويقاتل؟ ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ ٤. بل نكفّر تلك الأنواع الأربعة لأجل محادتهم لله ورسوله. فرحم الله أمرأً نظر لنفسه، وعرف أنه ملاق الله الذي عنده الجنة والنار. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
_________
١ في المطبوعة: (أكثر ممن ذكز لكثير)، وهو خطأ واضح. والتصويب والزيادة من المخطوطة: عبارة ناصر الدين الأسد.
٢ سورة النساء آية: ٩١.
٣ في طبعة أبا بطين: وعدم من يفهمهم.
٤ سورة النور آية: ١٦.
1 / 11
المسألة الثالثة
سأله الشيخ عيسى بن قاسم، وأحمد بن سويلم، في أول إسلامهما، عن قول الشيخ تقي الدين: من جحد ما جاء به الرسول، وقامت به الحجة، فهو كافر.
فأجاب بقوله:
إلى الأخوين: عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم، سلام عليكم ورحمة الله.
وبعد، ما ذكرتموه ١ من قول الشيخ: كل ٢ من جحد كذا وكذا، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة أم لا؟ فهذا من العجب العجاب. كيف تشكون في هذا وقد وضحته لكم مرارًا؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرّف. وأما أصول الدين التي أوضحها الله ٣ في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة.
ولكن أصل الإشكال: أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة ٤؛ فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله، مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ ٥.
_________
١ في طبعة الأسد: (فما ذكرتموه)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٢ في طبعة الأسد ساقطة، وكذا في طبعة أبا بطين.
٣ في طبعة الأسد وأبا بطين: (أوضحها وأحكمها) .
٤ في طبعة الأسد: (وبين فهم الحجة)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٥ سورة الفرقان آية: ٤٤.
1 / 12
وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها نوع آخر١. فإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله ﷺ في الخوارج: " أينما لقي فاقتلوهم " ٢، وقوله: " شر قتلى تحت أديم السماء " ٣، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو ٤ والاجتهاد٥، وهم يظنون أنهم مطيعون لله؛ وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.
وكذلك قتل علي ﵁ الذين اعتقدوا فيه وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم وصيامهم؛ وهم أيضًا يظنون أنهم على حق. وكذلك إجماع السلف على تكفير ناس من غلاة القدرية وغيرهم، مع كثرة علمهم وشدة عبادتهم، مع كونهم ٦ يظنون أنهم يحسنون صنعًا. ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم، لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا.
إذا علمتم ذلك، فهذا الذي أنتم فيه، وهو: الشك في كفر ٧ أناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، ويزعمون أنه ردة، لأجل أنهم ما فهموا، كل هذا أظهر وأبين مما تقدم، إلا الذين حرقهم علي فإنه
_________
١ في المخطوطة بدون هاتين الكلمتين (نوع آخر) .
٢ صحيح البخاري: كتاب المناقب (٣٦١١) وكتاب فضائل القرآن (٥٠٥٧) وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (٦٩٣٠)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة (١٠٦٦)، وسنن النسائي: كتاب تحريم الدم (٤١٠٢، ٤١٠٣)، وسنن أبي داود: كتاب السنة (٤٧٦٧)، وسنن ابن ماجة: المقدمة (١٧٥)، ومسند أحمد (١/٨١، ١/١١٣، ١/١٣١، ٤/٤٢٤، ٥/٣٦) .
٣ الترمذي: تفسير القرآن (٣٠٠٠)، وابن ماجة: المقدمة (١٧٦) .
٤ في طبعتي الأسد وأبا بطين: بدون كلمة: (الغلو) .
٥ في طبعة الأسد: (ومع الإجماع أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والاجتهاد)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٦ في المخطوط: (وكونهم)، ولعل الصواب ما ذكر، لتناسب العبارات.
٧ في طبعة الأسد ساقطة، وكذا في طبعة أبا بطين.
1 / 13
يشابه هذا.
وأما إرسال كلام الشافعية أو غيرهم، فلا يتصور أن ١ يأتيكم أوضح مما أتاكم. فإن كان عليكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله أن يزيله عنكم.
وأيضًا، ذكر لي محمد بن سلطان ٢، أنه جرى عندكم مسألتان:
الأولى: صورة المقاصة، يريد بعض الناس أن يحتال على المنهيِّ عنه من بيع الطعام قبل قبضه، ويقول للشخير ٣ إذا جاء بدراهم التمر: بعها علي بتمر قدر الذي في ذمته; ثم يتساقطان، ويجعل هذه من المقاصة المباحة. وكذلك ذكروا إذا اشترى منه سلعة، وشرط عليه أن يوفيه بها، صح العقد وفسد الشرط، أن بعض الناس يريد أن يجعل هذه الحيلة إلى قلب الديْن الذي في ذمته ديْنًا آخر، وينسب الصحة إلى الإقناع والمنتهى؛ وهما من أشد الناس كلامًا وتحريمًا لمثل هذا، حتى إنهما يحرمان صورًا مع كون المتعاقدين ٤ لم يقصدا الحيلة، لئلا يتخذ ذريعة مثل العينة وغيرها. وأنا ذكرت لكم مرارًا: إذا ادعى أحد في هذا وأمثاله الجواز، فاسألوا عن الحيل المحرمة التي هي مخادعة لله، ما معناها؟ وما صورتها؟
مثال ذلك: أنك لو تسألني عن رجل اشترى منك سلعة بعشرين مشخصًا - وهي تساوي العشرين ثيابًا أو طعامًا أو غيرهما -، قلت لك: هذا صحيح بالإجماع. فإذا سألتني عن إبرائه من عشرين المشخص بعد ما ثبتت في ذمته، قلت: هذا من الإحسان بالإجماع. فإذا قلت: إنه لم يشتر مني
_________
١ في المخطوطة: (أن) ساقطة.
٢ في طبعة الأسد: (بن سليمان) وكذا في طبعة أبا بطين.
٣ يريد به الشريك، وفي طبعة الأسد: (للخشيد)، وكذا في طبعة أبا بطين، والتصويب من المخطوطة.
٤ في المخطوطة: (المتعاقدان) والصواب ما ذكر.
1 / 14
ولم أبرئه إلا لأنه يريد أن يقرضني مائتي مشخص بربح عشرين، وقال لي: هذا ربا لا يصح، ولكن بعني سلعة تساوي عشرين، ثم بعد ذلك أبرئني منها، قلت لك: هذا صريح الربا، والمخادعة لله بلا شك. وكذلك أشباه هذه الصورة.
فالذي يجعل التحيل على بيع الطعام قبل قبضه من المقاصة، أو يجعل بيع السلعة ليوفيه بها حيلة إلى حل ١ كون رأس مال السلم ٢ دينًا، مع تصريحهم بتحريمه بلا هذه الحيلة، اسألوه: ما الفرق بين هاتين الصورتين وبين تلك؟ فإنه لا يجد فرقًا إلا بالمكابرة. وهنا فائدة ينبغي التنبه لها، وهي: أن الحيل على الربا قد نشأتم عليها أنتم ومشايخكم، ويسمونها: التصحيح؛ والأمور التي نشأ الإنسان عليها صعب عليه مفارقتها بالكلية، والاستجابة لله والرسول. وترك مذهب الآباء وما عليه المشايخ أمر عظيم ٣ لا يوافق عليه أكثر الخلق. فأمر الحيل ومسائله مثل أمر الشرك، فكما أنكم لم تفهموا الشرك أول مرة ولا ثانية ولا ثالثة، ولم تفهموه كله إلى الآن، كذلك الحيل، لأجل نشأتكم عليها؛ وتسميتها: التصحيح، تحتاج منكم إلى نظر وفطنة. فأكثروا التدبر لها، والمطالعة والتمثيل، في إغاثة اللهفان، وغيرها. والله أعلم.
_________
١ في طبعة أبا بطين: إلى كون رأس السلم. وفي طبعة الأسد: إلى أجل.
٢ وفي طبعة الأسد: المسلم.
٣ في طبعة الأسد: أنه عظيم وكذا في طبعة أبا بطين.
1 / 15
المسألة الرابعة
سأله محمد بن صالح، عن رشوة الحاكم الذي ورد عن رسول الله ﷺ أنه: " لعن الراشي والمرتشي " ١، وذلك أنه وقع بينه وبين سليمان بن سحيم مجادلة في ذلك.
سألتم، رحمكم الله، عن رشوة الحاكم الذي ورد عن رسول الله ﷺ أنه لعن الراشي والمرتشي، وذكر له أن بعض الناس حملها على ما إذا حكم الحاكم بغير الحق، وأما إذا ٢ أخذ رشوة من صاحب الحق، وحكم له به فهي حلال، مستدلًا بقوله ﷺ: " أحق ما أخذتم عليه أجرًا: كتاب الله "٣، وأنكم استدللتم عليه بقوله تعالى: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ٤، وأجابكم بأنها نزلت في كعب بن الأشرف، وبأن الناس فرضوا لأبي بكر لما تولى الأمر درهمين كل يوم، وكذلك قوله: من قال لا أحكم بينكما إلا بجعل.
فأقول: أما صورة المسألة، فهي أشهر من أن تذكر، بل هي تعلم بالاضطرار؛ فإن حكام زماننا - لما أخذوا الرشوة - أنكرت عليهم العقول والفطر، بما جبلها الله عليه ٥، من غير أن يعلموا أن الشارع نهى عنها، ولكن إذا جادل المنافق بالباطل، فربما يروج على المؤمن فيحتاج إلى كشف الشبهة، فنقدم قبل الجواب مقدمة، وهي:
_________
١ الترمذي: الأحكام (١٣٣٦)، وأحمد (٢/٣٨٧) .
٢ في المخطوطة: بدون (إذا) .
٣ البخاري: الطب (٥٧٣٧) .
٤ سورة البقرة آية: ٤١.
٥ في طبعة الأسد ساقطة، وكذا في طبعة أبا بطين.
1 / 16
أن الله سبحانه لما أظهر شيئًا من نور النبوة في هذا الزمان، وعرف العامة شيئًا من دين ١ الإسلام، وافق أنه قد ترأس على الناس رجال من أجهل العالمين وأبعدهم من معرفة ما جاء به محمد ﷺ، وقد صاروا في الرياسة بالباطل وفي أكل أموال الناس، ويدّعون أنهم يعملون بالشرع، ولا يعرفون شيئًا من الدين إلا شيئًا من كلام بعض الفقهاء في البيع والإجارة والوقف والمواريث، وكذلك في المياه والصلاة، ولا يميزون حقه من باطله، ولا يعرفون مستند قائله، وأما العلم الذي بعث الله به محمدًا ﷺ فلم يعرفوا منه خبرًا، ولم يقفوا منه على عين ولا أثر؛ فقد تزاحمت بهم الظنون،: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ ٢.
ومصداق هذا كله: أن الداعي - لما أمرهم بتوحيد الله ونهاهم عن عبادة المخلوقين - أنكروا ذلك، وأعظموه، وزعموا أنه جهالة وضلالة، مع كون هذه المسألة أبين في دين محمد ﷺ من كون العصر أربعًا والمغرب ثلاثًا; بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدًا ﷺ دعا الناس إلى ذلك، وجادل عليه ٣ وقاتل عليه. فهؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء اشتد إنكارهم علينا لما تكلمنا بذلك، وزعموا أنه دين ومذهب خامس، وأنهم لم يسمعوه من مشائخهم ومن قبلهم.
_________
١ في طبعة الأسد ساقطة.
٢ سورة المؤمنون آية: ٥٣.
٣ في طبعة الأسد: (ودل عليه) . وفي طبعة أبا بطين: (دعا الناس إلى ذلك وما دل عليه) .
1 / 17
وبالجملة، فهذا الحق قد خالف أهواءهم من جهات متعددة:
الأولى: أنهم لا يعرفونه، مع كونهم يظنون أنهم من العلماء.
الثانية: أنه خالف عادة ١ نشؤوا عليها؛ ومخالفة العادات شديدة.
الثالثة: أنه مخالف لعلمهم الذي بأيديهم، وقد أُشربوا ٢ حبه، كما أُشربت بنو إسرائيل حب العجل.
الرابعة: أن هذا الدين يريد أن يحول بينهم وبين مآكلهم الباطلة المحرمة الملعونة، إلى غير ذلك من الأمور التي يبتلي الله بها العباد.
فلما ظهر هذا الأمر اجتهدوا في عداوته وإطفائه بما أمكنهم، وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم، فلما غلظ الأمر وبهرهم ٣ نور النبوة ولم يجئْ على عاداتهم الفاسدة، فتفرقوا فيه كما تفرّق إخوانهم الأولون: فبعضهم قال: مذهب ابن تيمية، كما لمزوا رسول الله ﷺ بابن أبي كبشة. وبعضهم قال: كتب باطلة، كقولهم: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا﴾ ٤. وبعضهم قال: هذا يريد الرياسة، كما قالوا: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ﴾ ٥. وتارة يرمون المؤمنين بالمعاصي، كما قالوا لنوح فأجابهم
_________
١ في طبعة الأسد وأبا بطين: (أن فيه مألف عادة) .
٢ في المخطوطة: (شربوا) بدون همزة.
٣ في طبعة أبا بطين: (وبعدهم) .
٤ سورة الفرقان آية: ٥.
٥ سورة يونس آية: ٧٨.
1 / 18
بقوله: ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ١. وتارة يرمونهم بالسفاهة ونقص العقل، كما قالوا: ﴿أنؤمن كما آمن السفهاء﴾ ٢، فأجابهم الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ ٣ الآية. وتارة يضحكون من المؤمنين ويستهزئون بأفعالهم التي خالفت العادات، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ ٤. وتارة يكذبون عليهم الأكاذيب العظيمة، كقوله: ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ ٥. وتارة يرمون دين الإسلام بما يوجد في بعض المنتسبين إليه من رثاثة الفهم والمسكنة، كما قالوا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ ٦. وتارة تقطع قلوبهم من الحسرة والغيظ إذا رأوا الله رفع بهذا الدين أقوامًا ووضع به آخرين، كقولهم: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ ٧، إلى غير ذلك من الأمور التي يطول ذكرها.
وبالجملة، فمن شرح الله صدره للإسلام، ورزقه نورًا يمشي به في الناس، بينتْ له هذه الأمور التي وقعت في وقتنا هذا كثيرًا من معاني القرآن، وتبين له شيء من حكمة الله في ترداد هذا في كتابه لشدة الحاجة إليه؛ فيقال لهؤلاء المردة، آكلي أموال الناس بالباطل، ومُذهبي أديانهم مع أموالهم، ما قال عمر بن عبد العزيز: " رويدا يا ابن بُنَاته ٨، فلو التقت
_________
١ سورة الشعراء آية: ١١٢.
٢ سورة البقرة آية: ١٣.
٣ سورة البقرة آية: ١٣.
٤ سورة المطففين آية: ٢٩.
٥ سورة الفرقان آية: ٤.
٦ سورة هود آية: ٢٧.
٧ سورة الأنعام آية: ٥٣.
٨ في الأصول: (نباتة)، وهو خطأ. وابن بناتة هو: عمر بن الوليد بن عبد الملك. وانظر الخبر كاملًا في "سيرة عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم، الطبعة الثانية، ص١٢٧-١٢٨، وفيه اختلاف عما هنا من كلام ناصر الدين الأسد.
1 / 19
حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله، لأتفرغنّ لك ولأهل بيتك حتى أدَعهم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأوضعتم في الباطل ".
وأما المسألة والجواب عنها فنقول: قد عُلم بالكتاب والسنة والفطر والعقول: تحريم الرشوة وقبحها. والرشوة هو ما يأخذ الرجل على إبطال حق وإعطاء باطل. وهذه يسلمها لك منازعك. وهي أيضًا ما يؤخذ على إيصال حق إلى مستحقه، بل يسكت ولا يدخل فيه حتى يعطيه رشوة، فهذه حرام، منهي عنها بالإجماع، ملعون من أخذها؛ فمن ادعى حلها فقد خالف الإجماع.
وقوله: بأي شريعة حكمت بتحريم هذا؟ فنقول: حكمت به شريعة رسول الله ﷺ، وأجمع على ذلك علماء أمته، وأحلّ ذلك المرتشون الملعونون. ومن أنواع الرشوة: الهدايا التي تُدفع إلى الحاكم بسبب الحكم، ولو لم يكن لصاحبها غرض حاضر; لا أعلم أحدًا من العلماء رخص في مثل هذا. والعجب، إذا كان في كتابكم الذي تحكمون فيه: يجب العدل بين الخصمين في لحظه ولفظه ومجلسه وكلامه والدخول عليه، فأين هذا من أكل عشرة حمران على أحد الخصمين، وإن لم يعطه أخذ بدلها من صاحبه وحكم له؟ سبحان الله! أي شريعة ١ حكمتْ بحلّ هذا؟! ٢ أم أي عقل أجازه؟ ما أجهل من يجادل في مثل هذا، وأقل حياءه، وأقوى وجهه! وأما أدلته التي استدل بها فلا تنس قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
_________
١ في طبعة أبا بطين: (أين شريعة) .
٢ في المخطوطة: (أي شريعة أحكمت هذا؟) .
1 / 20
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ ١ الآية. ولما جادل النصارى رسول الله ﷺ في ألوهية عيسى، واحتجوا عليه بشيء من القرآن، وكذلك الخوارج يستدلون على باطلهم بمتشابه القرآن، وكذلك الذين ضربوا الإمام أحمد يستدلون عليه بشيء من متشابه القرآن. وما أنزل الله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ ٢، إلا لمِا يعلم من حاجة عباده إليها.
وأما استدلال هذا الجاهل الظالم بقوله: " أحق ما أخذتم عليه أجرًا: كتاب الله " ٣، فجوابه من وجوه:
الأول: أن المؤمنين إذا فسروا شيئًا من القرآن بكلام رسول الله ﷺ وآله وأصحابه، وكلام المفسرين ليس لهم فيه إلا النقل، اشتد نكيرهم عليهم، ويقولون: ٤ القرآن لا يحل لكم تفسيره، ولا يعرفه إلا المجتهدون; وتارة تفتري الكذب وتقول: إن ابن عباس إذا أراد أن يفسره خرج إلى البرية خوفًا من العذاب، وأمثال هذه الأباطيل والخرافات؛ ومرادهم بذلك سد الباب، فلا يفتح ٥ للناس طريق إلى هذا الخير، فيكون نقلنا لكلام المفسرين منكرًا، وتفسيرك كتاب الله على هواك وتحريفك الكلم عن مواضعه حسنًا! هذا من أعجب العجاب!
الوجه الثاني: أن هذا لو كان على ما أولته، فهو في الأخذ على كتاب الله، وأنتم متبرئون من معرفة كتاب الله والحكم به، وشاهدون على أنفسكم بذلك.
_________
١ سورة آل عمران آية: ٧.
٢ سورة آل عمران آية: ٧.
٣ البخاري: الطب (٥٧٣٧) .
٤ في طبعة الأسد: (وتقول)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٥ في المخطوطة: بدون فاء.
1 / 21
الوجه الثالث: أن هذا لو كان فيما ذهبت إليه، لكان مخصوصًا بتحريم الرشوة التي أجمع الصحابة على تحريمها.
الوجه الرابع: أن حمل الحديث على هذا، من الفرية الظاهرة والكذب البحت على رسول الله ﷺ؛ فإن معنى ذلك في الإنسان الذي يداوي المريض بالقرآن، فيأخذ على الطب والدواء، لا على الحكم وإيصال الحق إلى مستحقه. ويدل عليه اللفظ الآخر: " كلْ. فمن أكل برقية باطل، فقد أكلتَ برقية حق " ١. والقصة شاهدة بذلك توضحه.
الوجه الخامس: وهو أن يقال لهذا الجاهل المركب: ٢ من استدل قبلك بهذا الحديث على أن الحاكم إذا أراد أن يوصل الحق إلى مستحقه يجوز له أن يشترط لنفسه شرطًا ٣، فإن حصل له، وإلا لم يفعل؟ فإن كان وجده في كتاب الله، فليبين مأخذه. وما ظنه بأهل العلم الأولين والآخرين الذين أجمعوا على ذلك؟ لا يجوز أن يظن أن إجماعهم باطل، وأنهم لم يفهموا كلام نبيهم حتى فهمه هو.
وأما استدلاله بأن الناس فرضوا لأبي بكر ﵁ لما ولي عليهم، كل يوم درهمين، فهذا من أعجب ٤ جهله. ومثل هذا مثل من يدعي حل الزنى الذي لا شبهة فيه، ويستدل على ذلك بأن الصحابة يطؤون زوجاتهم! وهذا الاستدلال مثل هذا، سواء بسواء! وذلك أن استدلاله بقصة
_________
١ أبو داود: البيوع (٣٤٢٠)، وأحمد (٥/٢١٠، ٥/٢١١) .
٢ في طبعة الأسد: الجاهل الجهل المركب وكذا في طبعة أبا بطين.
٣ في طبعة الأسد: شرطين وكذا في طبعة أبا بطين.
٤ في طبعتي الأسد وأبا بطين بدون كلمة: أعجب والزيادة من المخطوطة.
1 / 22
أبي بكر ﵁ تدل على شدة جهله بحال السلف الصالح؛ فإن النبي ﷺ كان يعطي العمال من بيت المال، وكان الخلفاء الراشدون يأكلون من بيت المال، ويفرضون لعمالهم؛ ولا أعلم عاملًا في زمن الخلفاء الراشدين لا ١ يأكل من ذلك، بل الزكاة التي هي للفقراء جعل الله فيها نصيبًا للعمال الأغنياء، ولكن أبا بكر ﵁ لما ولي واشتغل بالخلافة عن الحرفة، وضع رأس ماله في بيت المال، واحترف للمسلمين فيه، فأكل بسبب وضع ماله في بيت المال وبسبب الحرفة. فأين هذا من أكل الرشوة التي حرمها الله ورسوله؟ وأين هذا من الحاكم الذي إذا وقعت الخصومة، فأكثرهم برطيلًا يغلب صاحبه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! فإن قالوا: لما عدم بيت المال، أكلنا من هذا. قلنا: هذا مثل من يقول: أنا أزني لأني أعزب لا زوجة لي؛ فهو هذا من غير مجازفة.
وقولهم: نفعل هذا لأجل مصلحة الناس. فنقول: ما على الناس أضر من إبليس ومنكم، أذهبتم دنياهم وآخرتهم، والناس يشهدون عليكم بذلك. هؤلاء أهل شقرا شرطوا لابن إسماعيل كل سنة ثلاثة وثلاثين أحمر، ويسكت عن الناس ويريحهم من أذاه، ولا يحكم بين اثنين، ولا يفتي; فلم يفعل واختار حرفته الأولى.
وأما جوابه لمن استدل عليه: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ٢، بقوله: نزلت في كعب بن الأشرف، فهذا ترس قد أعده هؤلاء ٣ الجهال الضلال لرد كلام الله؛ إذا قال لهم أحد: قال الله كذا، قالوا: نزلت في اليهود ونزلت في النصارى، نزلت في فلان.
_________
١ في طبعة أبا بطين بدون لا.
٢ سورة البقرة آية: ٤١.
٣ في طبعة الأسد ساقطة، وكذا في طبعة أبا بطين.
1 / 23
وجواب هذه الشبهة الجاهلة، الظالمة الفاسدة، من وجوه:
الأول: أن يقال: معلوم أن القرآن نزل بأسباب، فإن كان لا يستدل به إلا في تلك الأسباب، بطل استدلاله بالقرآن ١؛ وهذا خروج من الدين.
الثاني: أنك تقول: لا يجوز تفسير القرآن٢، فكيف فسرت هذه الآية بأنها خاصة بابن الأشرف؟
الثالث: ٣ من نقلت عنه من العلماء أن الآية إذا نزلت في رجل كافر أنها لا تعم من عمل بها من المسلمين؟ من قال بهذا القول قبلك؟ وعمن نقلته؟
الرابع: أن هذا خروج من الإجماع، فما زال العلماء من عصر الصحابة فمن بعدهم يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود وغيرهم على من يعمل بها؛ ولكن هذا شأن الجاهلين الظالمين ٤ الذين يحاجون ٥ في الله من بعد ما استجيب له، حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.
فأما الكلام في الطواغيت، مثل: إدريس وآل شمسان، فالكلام على هذا طويل. ولكن هؤلاء الذين يخاصمونك لا يعبؤون بكلام الله ولا كلام
_________
١ في طبعة الأسد ساقطة، وكذا في طبعة أبا بطين.
٢ في طبعة الأسد: (لا يجوز لنا تفسير القرآن)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٣ في طبعة أبا بطين ساقطة كلمة: (الثالث) .
٤ في طبعة الأسد: (ولكن هؤلاء الجاهلون الظالمون)، وكذا في طبعة أبا بطين.
٥ في طبعة أبا بطين: (يحاولون) .
1 / 24