وأراد الحسين أن يغتنم تلك الفرصة لمخاطبتها صريحا بأمر الخطبة وليس هناك من يسمع، ومهما يكن من تحجب الفتيات عن طلابهن أمام الناس فإذا خلت إحداهن بخطيبها يرتفع الحجاب ويتشاكيان. ولم يجد الحسين فرصة أثمن من هذه ولا أوفق منها وهما في غفلة عن الرقباء. ولم يكن يشك أبدا أن أباها فاتحها بشأن خطبته، وأنها رضيت ولكن الحياء يمنعها من التصريح فعمد إلى تجريئها فقال: «أتشعرين يا لمياء بالسرور الذي أشعر به أنا؟» فشق عليها أن يفاتحها بالمشاكاة وأحاديث الغرام وهي فيما علمت من التردد والارتباك فقالت «لا أعلم مقدار سرورك ولا نوعه ولكنني أعلم أني مسرورة من حسن وفادة أمير المؤمنين وأم الأمراء ...» وأظهرت البغتة وهي تقول: «أظننا صرنا على مقربة من المنصورة فإني أرى أنوارها ... فأشكرك شكرا جزيلا على تنازلك يا سيدي فقد أتعبتك ...» وهمت بفراقه فقال: «لا نزال بعيدين عن تلك المدينة وإن كنت ترين أنوارها فلا تتعجلي في الفراق، إلا أن أكون قد ثقلت عليك بالحديث، ولعلي تطوحت إلى وراء ما يجوز لي ... سامحيني» قال ذلك بلحن العتاب.
فخجلت لمياء وودت لو أنها لم تقابل أباها في تلك الليلة؛ لأنها كانت تعرف ما تجيب على هذه الأسئلة بصراحة. فربما أجابت: أنها تحبه وتحترمه ولكنها مخطوبة لسواه. أما الآن فمع اعتقادها أنها كذلك فهم يطلبون منها إظهار رضاها به. وقد يهون عليها إذا سألها عن ذلك الخليفة أو أم الأمراء وأما هو فيصعب عليها الكذب عليه وهي تشعر أنه يحبها من كل قلبه، فكيف تخادعه؟ ولما سمعت عتابه غلب عليها طيب عنصرها فقالت: «العفو يا سيدي إنك تبالغ في توبيخي فهل أسأت الأدب في خطابك؟ أو كان ينبغي لي أن أعرف حدي فأقف عنده؟» فغلبته في العتاب وأحس أنه أساء إليها وجرح إحساسها بكلامه فقال: «إني لا أستحق هذا التقريع يا لمياء، وإنما أنا أحتال في سماع كلمة تدل على رضاك وكفى.»
الفصل التاسع عشر
صدفة غريبة
فلم تجد لمياء خيرا من السكوت المطلق؛ لأن الكلام يجر الكلام وهي لا تعرف ما تقول. وسكت هو تهيبا من سكوتها. وهما في تلك الحالة سمعا وقع حوافر فرس مسرع وراءهما فالتفتت فرأت فارسا قادما من معسكر أبيها ولم يقترب منها حتى علمت أنه سالم فأجفلت من ذلك الاتفاق الغريب وخافت على سالم أن ينكشف أمره؛ لأن أهل قصر المعز يعلمون أنه غائب، والمعز يحب القبض عليه، وهو لم يلحق بها إلا مبالغة في إكرامها لتثبت في وعدها وهم يبنون على ذلك الوعد العلالي والقصور، ولكنه أظهر أنه جاء ليخفرها. فلما رأى الحسين بلبس الخفر وهو يمشى في خدمتها ظنه من الحراس ولم يخطر له مطلقا أنه الحسين بن جوهر نفسه. فوقعت لمياء في حيرة لكنها تجاهلت.
أما الحسين فالتفت إلى الفارس وصاح فيه: «من أنت؟»
فقال سالم «وما يعنيك من أمري؟ سر في طريقك.»
فقال: «بل يعنيني ... قف حالا.»
وكان سالم قد وصل إلى لمياء فلم يجبه لكنه خاطب لمياء قائلا: «لمياء من هو هذا الرجل الذي تسايرينه.»
فارتبكت في أمرها وهي لا تعلم هل يريد الحسين أن يذكر اسمه أم يحب أن يبقى مكتوما. فتلجلجت في الجواب لحظة وهي تنظر إلى الحسين كأنها تنتظر أن يكون الجواب منه.
Página desconocida