قالت: «إن أهل القيروان يتحدثون بذلك ... أما الآن فإذا شئت فمري أن يكون هذا الأسير في دارك ولينصرف ذانك وتري ما يأتي به الغد.»
قالت: «أحسنت الرأي وقد أصبحت لا أطيق أن أرى الحسين مغلولا.» وصفقت فأتى بعض غلمانها فقالت: «خذ هذا الأسير إلى غرفة يقيم فيها حتى ننظر في أمره لكن احلل وثاقه؛ إذ لا خوف من فراره.»
فتناوله الغلام بيده وخرج فوقع هذا العمل من لمياء موقعا جميلا وكاد قلبها يطير من الفرح. ولحظت بنت الإخشيد ذلك فيها فظنتها فعلته لشعور مثل شعورها فعذرتها والتفتت إلى أبي حامد وقالت: «سننظر في ما عرضته علينا وسأقص ما رأيته على قوادنا فعسى أن ينفعنا ذلك.» ففهم أبو حامد أنها تطلب انصرافهما فنهض وخرج مع سالم وقد سقط في أيديهما وإن لم يفهما ما جال في خاطرها.
الفصل السابع والستون
الرأي
ونهضت بنت الإخشيد للحال وهي تتثاءب وتقول: «ما أشغل هذا اليوم وما أثقله؛ فقد تعبت من المفاوضات، إن هذا لا يستطيعه إلا كبار الرجال وقد أخطأنا بتولية هذه الإمارة غلاما صغيرا.»
فنهضت لمياء معها والشمس قد غربت وأخذت الظلال تتكاثف وتتحول إلى ظلام؛ وأصبحت تود الاختلاء بنفسها للتفكير في ما تراكم في ذهنها من الحقائق الجديدة وما أصاب قلبها من الصدمات المتوالية فرأت بنت الإخشيد تحولت إلى غرفتها وأشارت إليها أن تتبعها فأطاعت وقد أدهشتها تلك الغرفة بما فيها من الرياش الثمين وفي صدرها سرير من الأبنوس المنزل بالعاج والذهب فوقه ناموسية من الحرير الشفاف (الملس) وكل ما في الغرفة زاه زاهر عكس قلب صاحبته المسكينة، فإنها تحولت من تلك الجلسة وقد تراكمت عليها الهموم والمخاوف ولم تكن تشعر بشيء من ذلك قبلا. وأصبحت شديدة التعلق بلمياء ولا سيما بعدما آنسته من تعلقها والخدمة النافعة التي عرضتها عليها فأحبت أن تتوثق منها.
فجلست على سريرها وأمرت لمياء أن تقعد بجانبها فقعدت، وهي تفضل الخلوة لكنها أطاعتها ولحظت ما هي فيه من القلق فاشتركت معها في إحساسها وشعرت أنها امتلكت قلبها، ظلتا هنيهة صامتتين وبنت الإخشيد مطرقة ويمناها على كتف لمياء واليسرى على قلبها كأنها تتقي صدعا أصابه. ثم تنهدت ونظرت إلى حولها لتتحقق خلو المكان من الناس ثم التفتت إلى لمياء وضمتها إلى صدرها وقبلتها في عنقها وأطالت تقبيلها فشعرت بسائل حار يقع على عنقها فأجفلت وعلمت أن بنت الإخشيد تبكي وهي تحبس نفسها لئلا تلحظ لمياء ضعفها. فتلطفت لمياء ورفعت رأسها وضمتها وهي تقول: «ما بالك يا سيدتي؟ خففي عنك ... إني لا أرى باعثا على ذلك ... ومن كان في ما أنت فيه من الوجاهة والنفوذ لا يستغني عن أمثال هذه المشاكل.»
فرفعت رأسها وتنهدت ثانية وقالت: «لا تعجبي من إبداء ضعفي بين يديك في أول يوم عرفتك فيه فإني أشعر كأني أعرفك منذ أعوام. وقد اطلعت على حالنا الليلة فأشيري علي ... أشيري يا حبيبتي.»
فسرت لمياء من وثوق تلك المرأة بها وأحست فعلا بالعطف عليها، واستغربت انقلابها بهذه السرعة عما كانت عليه من الزهو والتيه لما قابلتها في ذلك الصباح. وشاركتها بالبكاء وليس أسهل عليها من إرسال الدمع فإن مصائبها تترى وإحساسها حي فقالت: «هوني عليك يا مولاتي إني لا أرى باعثا على هذه الشكوى. وقلت لك ما أقدر أن أخدمك به وقد فتح لنا باب جديد بوجود الحسين بن جوهر أسيرا في قصرك وتحت رعايتك ولا ينفعك أن تثقليه بالقيود والأغلال؛ فإن ذلك لا يؤذيه. ولا أقول لك أطلقيه؛ فإن في ذلك خيانة لبلدك. ولكنني أقول لك لاطفيه وأحسني وفادته فإذا قدر النصر لجند مصر كان الحسين هذا من جملة أسرى الحرب. وإذا فاز القيروانيون وانهزم المصريون عرف الحسين فضلك وسعى في صيانتك وحفظ كرامتك.»
Página desconocida