وكانت بنت الإخشيد في حدود الكهولة تظهر لأول وهلة أنها قوية الخلق وهي بالحقيقة ضعيفة الرأي لكنها جسورة لا تبالي ما تفعل ولا تقدر العواقب، وكانت مثالا لطبقة المترفين من أهل ذلك العصر، لا يفوتها ضرب من ضروب الملذات، وكانت وجيهة نافذة الكلمة ليس في رجال الدولة من لا يخشى بأسها، ولا سيما في تلك السنة وقد مات كافور وصارت الأمور إلى أحمد بن على حفيد أخيها - وهو غلام - فأصبح طبعا طوع إرادتها هو وكل رجال دولته إلا جعفر بن الفرات، فأحب أن يستأثر بالنفوذ فأغضبها وأغضبته فمال مع الأهلين الراغبين بالتسليم لجوهر قائد جند المعز. وأما سائر الأجناد فكانوا يلتمسون رضاها لا يبرمون أمرا إلا برأيها.
وكانت جميلة الخلقة لا تزال الملامح التركية ظاهرة في محياها؛ لأن أباها فرغاني، ويظهر أنها لم تتزوج رغبة في استبقاء عصمتها في يدها فانصرفت قواها إلى التمتع بالحياة والتماس النفوذ والشهرة، فجعلت قصرها مباء لرجال الدولة. وكانت في تلك الأثناء مشغولة الخاطر؛ لما بلغها من عزم المصريين على التسليم ومعهم ابن الفرات، لكنها لم تكن تتوقع حدوث ذلك فعلا إذ لم تكن على بينة من حقيقة حال الوطنيين ولا مقدار ما بلغوا إليه من الضنك.
ولم يخطر لها أنهم يجسرون على مخابرة الأعداء وكان ينبغي أن لا يفوتها ذلك ولكن حكام ذلك العصر لم يكونوا يحسبون للأمة حسابا، وإنما يهمهم احتلابها وابتزاز أموالها.
أصبحت بنت الإخشيد في ذلك اليوم وهي تتوقع أن يأتي رجال الدولة يشكون إليها ما فعله ابن الفرات. وقبل نهوضها من الفراش أتتها المواشط والولائد يخدمنها في ما تحتاج إليه من الغسل أو اللبس أو تسريح الشعر وتصفيفه. قضين في ذلك ساعة وهن يتسابقن إلى استرضائها بالإطراء أو المجون. وهي في ذلك أتتها جارية تقول: «إن صاحب الرقيق يستأذن على مولاتي.»
قالت: «دعيه ينتظر في البهو الكبير ريثما أخرج. وهل هو وحده؟»
قالت: «معه فتاة لعلها جارية.»
قالت: «جارية سوداء؟»
قالت: «كلا، بل جارية بيضاء جميلة لم أشاهد مثلها قبل الآن.»
فاهتمت بنت الإخشيد بذلك الخبر وأمرت الماشطة أن تسرع في إلباسها، أما لمياء فكانت قد أقبلت مع ذلك النخاس على قصر بنت الإخشيد - وهو يمتاز بفخامة بنائه وبوقوف الحجاب ببابه - فمرت إليه في حديقة طرقها مرصفة بالحصى الملونة على أشكال الطير والوحوش فتقدمها النخاس وهي تتبعه حتى دخل باب القصر إلى ردهة واسعة فرشت بالسجاد. وبعض السجاجيد عليها وشي جميل بأشكال الزهور أو بعض الحيوانات أو أبيات من الشعر، فاستقبلتها القهرمانة قيمة القصر وعليها الأساور والدمالج وحول عنقها العقود حتى تكاد تنوء تحت أعبائها. فقالت لمياء في نفسها: «إذا كانت هذه القيمة فكيف تكون السيدة؟» فدعتهما القهرمانة إلى بهو الاستقبال فدخلا ولمياء تزداد شوقا لمشاهدة بنت الإخشيد، وذهبت القيمة لإبلاغ الخبر وبعد قليل أقبلت السيدة وهي تجر ذيل ردائها الوردي وراءها وعلى رأسها عصابة مرصعة قلدت بها العالية أخت الرشيد وصففت شعرها تصفيفا خاصا لا يجسر أحد من أهل الفسطاط على تقليده وشبكته بإكليل من الذهب بشكل طائر. وتمنطقت بمنطقة مزركشة لها عروة مرصعة على شكل الكروبيم؛ قلدوا به بعض ما على الآثار المصرية من الرسوم.
وأدركت لمياء قدومها من حركة الخدم في الدهليز، ومما تضوع من الطيب فوقفت ووقف النخاس وتقدم حتى أكب على يد الأميرة كأنه يقبلها وفعلت لمياء مثل فعله فظهر التكلف في حركاتها؛ لأنها لم تتعود مثل ذلك.
Página desconocida