فقالت: «وكيف تيسر لك رؤيتهما ونحن أقرب إليهما منك ولم نرهما.»
قالت: «تمهلي لأقص عليك الواقع.» فأصغت هند بكل جوارحها فنهضت سعدى إلى الباب فأغلقته وجلست تقص الخبر وتحاذر أن يسمعها أحد فقالت: «لما خرجتم جميعا إلى الخيام وخرج أكثر من في القصر إليكم بقيت أنا وسليمة المولدة وبعض الخدم وكنا نرى المتسابقين يبدأون بالشوط ولكننا لا نرى آخره فخرجنا وفى نفسي أن أرى حلبة السباق وكيف يقتلع السابق القصبة فانه منظر يفرح القلب إذ ليس ألذ من النصر. فخرجنا من بعض أبواب الحديقة إلى البساتين المجاورة ومررنا بضفة الغدير لا يرانا أحد حتى وصلنا إلى مكان تحت شجرة أشرفنا منه على حلبة السباق ونحن على مرمى حجر منها نرى ولا نرى فلما كان السباق الأخير شاهدت ابن عمك متأخرا عن حماد لا لعجز فرسه لأننا رأينا الفرس يستحث فارسه ليطلق له العنان وهو يمسكه كأنه خاف الوقوع عن ظهره ولولا ذلك لكان هو السابق والسبق في الميدان للأفراس إذا أحسن فرسانها ركوبها واستطاعوا الثبات على ظهورها فخوف ثعلبة الوقوع عن فرس حماد أكثر عارا عليه من تأخره عنه أما حماد فأطلق لفرسه العنان وكان يستقبل عرض الفلاة كما تستقبل الأم رضيعها حتى وصل إلى القصبة وفيما هو يقتلعها رأينا ثعلبة هاجما عليه وقد شهر سيفه وهم بقتله فاستلقى حماد السيف بالقصبة فقطعت ثم رأينا حمادا اقتلع ثعلبة من صهوة جواده ورمى به الأرض وجثا على صدره فخفنا أن يقتله ثم سمعنا ثعلبة يستجير به ويستعطفه فنهض عنه وتصافحا وتعانقا وعادا.»
فما أتمت سعدى حديثها حتى اختلج قلب هند إعجابا بشهامة حماد وازدادت احتقارا لثعلبة وقالت لوالدتها: «أهذا هو ثعلبة بن الحارث أيليق بغسان أن يكون ابن ملكها خسيسا إلى هذا الحد أيليق به أن يغدر بشاب في ريعان الشباب ولا ذنب له إلا أنه أفرس منه وزد على ذلك أنه نزيل في بلادنا وله علينا حق الجوار.»
فرأت والدتها في كلامها حقا ولكنها لم تشأ أن تمكن البغض في قلبها وحسبت بنفسها ألف حساب من جملتها أن ثعلبة أرفع بني غسان مقاما وليس أقرب منه للزواج بهند ولعل جبلة يرغب في ذلك فإذا نفرت منه كان نفورها سببا لتنغيص عيش ابنتها فقالت لها: «لا بد لنا من تأنيبه ولومه حتى يرجع إلى الأخلق به وبمن كان في مقامه ونسبه.»
فسكتت هند لا عن اقتناع ولكنها صبرت نفسها لترى ما يكون من أمر حماد غدا وهي تعلم أن ذهابها إلى الدير قد لا يتيسر بغير والدتها فلا يخلو أن تلحظ أم اجتماعها بحماد فماذا تقول لها لو سألتها عنه وتعلم أيضا أن والدتها حادة الذهن سريعة الخاطر دقيقة الملاحظة ففكرت في الأمر قليلا فرأت أن لا بد لها من استطلاع والدتها والاستعانة بها على نيل حماد وقد ارتاحت إلى هذا الرأي لما عاينت من إنصاف والدتها وامتداحها شهامته ولكنها ودت قبل كل شيء أن تجتمع به على انفراد لتطلع منه على حقيقة حاله وتستطلع أفكاره ثم تطلع والدتها على الأمر بالأسلوب الذي تختاره.
فقالت لها: «مضت على مدة طويلة يا أماه وقد نذرت نذرا لدير بحيراء لم أفه بعد ويلوح لي أن ما رأيناه في هذا النهار من السوء إنما كان لتأخرنا عن وفاء النذر.»
قالت: «لعله كذلك فإن لهذا الدير كرامات كثيرة ولا صبر له على تأجيل النذور فأسرعي في إيفائه.» قالت: «أرى أن أذهب إليه غدا إن شاء الله.»
قالت: «ولكننى لا أستطيع الذهاب معك في الغد لأني ذاهبة مع والدك إلى البلقاء فإذا أجلت الذهاب إلى بضعة أيام سرنا معا.»
فسرت هند لهذا الحل الذي جاء من تلقاء نفسه فقالت: «لا أراني قادرة على التأجيل وأخشى أن يزيد غضب الله علينا وأنا لا أرى موجبا لذهابك معي فقد أذهب مع بعض الخدم متنكرة أقضى نهارا هناك ثم أعود.»
قالت: «افعلي ما بدالك.» ثم ذهب كل إلى فراشه أما هند فلم يكد يغمض لها جفن وهي تتذكر ما مر بها بالأمس وتفكر في ماذا تكلم حمادا إذا اجتمعت به في الغد.
Página desconocida