أما هند فكانت عيناها شائعتين نحو حماد فلما جاء دوره تبعته ببصرها حتى توارى ورفاقه ولبثت تنتظر عودتهم فعادوا والقصبة في قبضته فافرد مع السابقين. فقال جبلة لثعلبة: «أرى الرجل قد سبق.» فأجاب والحسد ملء صدره: «أيعد من يسبق هؤلاء الخمسة سابقا تمهل لنرى سباقه مع السابقين.» فإلتفتت هند وقالت برزانة وهدوء كمن لا يهمه سبق حماد أو لم يسبق: «وما يمنع أن يكون سابقا لهم جميعا كيف نحكم عليه ونحن لا نعلم شيئا من ضعفه أو قوته. نعم يسوؤنا أن يكون السابق غريبا ولكن ما الحيلة إذا سبق أنقبل هذا العار على بني غسان»
فكان لكلام هند وقع السهام على قلب ثعلبة وإتقدت الغيرة في صدره فتبسم كأنه يستخف بقولها وقال: «لا يكون له مسابق سواي ولأعلمنه الفروسية من هذا اليوم.» قال ذلك وملامح الغدر وسوء القصد ظاهرة على وجهه فخافت أن يكون قد نوى بالرجل سوءا فلا يزيده دفاعها إلا غضبا وحقدا فسكتت
وعند الظهيرة أو نحوها انقضت الأشواط الصغيرة فاجتمع عشرون سابقا فأمر جبلة بالاستراحة لتناول الطعام وعلف الخيل
وكانوا قد أعدوا الأسمطة في صرح الغدير وذبحوا الذبائح فجاءت الأخونة يحملها الرجال إلى الخيم على كل خوان منها جفنات وفيها الألوان العربية والرومية وبعض الخمور.
وأمر جبلة أن يجلس الفرسان السابقون معه على خوانه وكان خوانه من ذهب خالص وجفناته من فضة فجاءوا ومعهم حماد فلما وقع نظر ثعلبة عليه جعل يتأمله بعين النقد وحماد لا يلتفت إليه فجلسوا على الأبسطة حول السماط ركعا على ركبة واحدة وأخذوا في الأكل وأراد جبلة أن يقف في خدمتهم على عادة كرام العرب مع ضيوفهم فاستحلفوه أن لا يفعل أو يكفوا عن الطعام فأطاع وجلس معهم والى يمينه ابنته هند والى يساره ابن عمه ثعلبة ولما أتموا الطعام وتناولوا الحلوى وبعض الخمر تلا بعض الشعراء قصيدة ذكر فيها كرم الغسانيين وحسن ضيافتهم فأطرق جبلة خجلا لأنه يستنكف من أن يسمع مدحه بأذنه فلما رأى الشعراء منه ذلك نهض أحدهم وقال: «مهما بالغنا في مدح ملوك غسان لن يأتي بشيء مما قاله فيهم حسان بن ثابت القائل
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة عند قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
Página desconocida