قال: «نعم أذكر إني جلست إليه مرة وقص علي خبر الراهب بحيرا أستاذه».
قال: «قد خاطبته في أن يقص شعرك ويسمع ما أتلوه عليك بعد ذلك».
وكان سلمان لا يزال واقفا بالقرب من الباب يصلح كوفيته وعقاله وكانا قد انحلا وهو يتحول عن جواده فلما سمع ما قاله عبد الله تقدم نحوه ونظر إليه قائلا: «إلا تظن خادمك سلمان يستحق الاطلاع على هذا السر أيضا».
قال: «بلى انك أولى الناس بذلك وستكون أنت أيضا معنا».
وقضوا بقية ذلك اليوم يعدون أنفسهم وخصوصا عبد الله فأنه مال إلى الانفراد يعد بعض الثياب.
وفي صباح اليوم التالي ساروا إلى الصومعة باكرا فرأوها مضيئة بالشموع وهي كما تعلم عبارة عن غرفة كل من جدرانها الأربعة حجر واحد والسقف حجر والأرض حجر وبابها حجر واحد يفتح ويغلق وهذا هو شأن أبنية حوران حتى الآن نظرا لكثرة صخورها وقلة خشبها فيبنون البيوت من الحجر ويجعلون درف نوافذها وأبوابها وسقوفها من الحجر أيضا.
فدخلوا الصومعة فرأوا الراهب الشيخ ومعه قسيس آخر وشماس فلما اجتمعوا جميعا أخذوا في الصلاة فاحرقوا البخور وحلوا شعر حماد حتى استرسل على ظهره وكتفيه وطافوا به بالترانيم والتسابيح على جاري العادة والقسس يحملون الصلبان والمباخر يترنمون حتى تمت الصلاة وقرءوا فصلا من الكتاب المقدس وكان الراهب قد تعب فجلس على معقده الحجري ليرتاح فلما انقضت الصلاة تقدموا نحوه وأعطوه مقراضا ودنا حماد منه وشعره يحلله فمد الراهب يده وامسك خصلة من شعره وبارك وقصها إشارة إلى وفاء النذر وبقي الشعر مسترسلا على نية أن يقصه عند عودته إلى المنزل.
فلما انقضى الاحتفال أشار عبد الله إلى الراهب أنه يريد الخلوة فأوعز إلى الحضور فخرجوا وبقي هو وعبد الله وحماد وسلمان وأطفئت الشموع ولم يبق من الأنوار إلا مصابيح الزيت المعلقة أمام الأيقونات فأشار عبد الله إلى سلمان أن أغلق الباب فهم بإغلاقه وهو لا يحسب نفسه قادرا على ذلك لضخامته فإذا هو طوع يده لان لأهل حوران صناعة دقيقة في تركيب تلك الأبواب حتى تغلق بسهوله.
فلما أغلق الباب وضعف النور أحسوا بانقطاعهم عن عالم الأحياء وخيل لهم أنهم في عالم آخر وخفق قلب حماد تطلعا لما سيسمعه من غريب الأحاديث. فنزع عبد الله جبته وهم بصره كانت معه فحلها واستخرج منها رداء مزركشا يشبه الطيلسان كان قد أدخره واحتفظ به منذ أعوام فقبله ثم بسطه وجعله على كتفيه ونشر على الأرض أمام مجلس الراهب جلدا جثا عليه وجلس حماد وسلمان أمامه والجميع سكوت يراعون حركات عبد الله وسكناته وينتظرون ما يبدو منه.
الفصل الستون
Página desconocida