لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (١٠)
الفصيحة العجما في الكلام على حديث «أحبب حبيبك هونا ما»
تأليف
الشيخ أحمد بن عبد اللطيف البربير الحسني البيروتي (١١٦٠ - ١٢٢٦ هـ)
تحقيق
رمزي سعد الدين دمشقية
ساهم بطبعه بعض أهل الخير من الحرمين الشريفين ومحبيهم
دار البشائر الإسلامية
Página desconocida
الفَصِيحَةُ العَجْمَا في الكَلامِ على حَدِيثِ «أَحْبِبْ حَبِيْبَكَ هَوْنًا مَا»
1 / 2
جَميعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ
الطّبْعَةُ الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠٠ م
دَارُ البَشَائِر الإسْلَامِيَّة للطباعة والنشر والتوزيع
هاتف: ٧٠٢٨٥٧ - فاكس: ٧٠٤٩٦٣/ ٠٠٩٦١١
بيروت - لبنان ص. ب: ٥٩٥٥/ ١٤
e-mail: [email protected]
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله حَمْدَ معترفٍ له بالفضل والِإنعام، وأفضل الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، محمَّد ﷺ، وعلى آله وصحبه البرَرَة الكرام.
أما بعد، فإنَّ من البرِّ تعاهدَ آثار الأجيال الماضية، والقيام بنشر أعمالهم الحسنة وما دلُّوا عليه من الخير. وإن أولى من يَبرُّ المرءُ من كان منه قريب الزمان لصيق المكان، لذا أحببت أن تكون مشاركتي لهذا العام الهجري -أعني سنة ١٤٢٠ هـ- في لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام برسالتين لعالمين جليلين من علماء بلدتي بيروت، قيامًا بحقِّهما وتعريفًا للقاصي والداني بفضلهما، وفضل أهل هذا الثغر الذي زخر بالعلماء منذ سكنه المسلمون ورابطوا فيه، وفي مقدمتهم الِإمام المجتهد، الصادع بالحق، والجامع بين العلم والعمل، عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي رحمه الله تعالى وأحسن مثواه.
أما الرسالة الأولى فهي "الفصيحة العجما في الكلام على حديث: "أحبب حبيبكَ هونًا ما ... "" للشيخ الأديب أحمد بن عبد اللطيف البربير المتوفى سنة ١٢٢٦ هـ، بيَّن فيها معاني هذا الأثر النبوي وأظهر فصاحته وبلاغته، جاعلًا جُلَّ شرحه له من أبواب اللغة والنحو والأدب، ولا غرو فهو أحد فرسان هذا الميدان البارعين فيه.
1 / 5
وقد اعتمدت في إخراج هذه الرسالة على نسخة المؤلف بخطه، وهي من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق (مكتبة الأسد حاليًا)، ضمن مجموع برقم ١٠٠٤٩، من (ق ١٣٩ - ١٤٢).
أما الرسالة الثانية فهي "تحذير الجمهور من مفاسد شهادة الزور" للشيخ أحمد بن عمر المحمصاني المتوفى سنة ١٣٧٥ هـ، وسيأتي الكلام عليها في أولها.
ومن الله نرجو العون والسداد والتوفيق والِإمداد، وأن يتقبل منَّا ويعاملنا بما هو أهله، إنه سميع قريب مجيب.
وكتبه
حامدًا ربَّ البريَّة
مصلِّيًّا على النبي والذُّريَّة
رَمزي سَعد الدين دمشقية
1 / 6
نصُّ الحديث وتخريجه وشرحه
قال الِإمام الحافظ الحجة أبو عيسى الترمذي في سننه في كتاب البرِّ والصلة، باب ما جاء في الاقتصاد في الحب والبغض ٤/ ٣٦٠ (ح ١٩٩٧):
حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا سُوَيد بن عمرو الكَلْبي عن حمَّاد بن سَلَمةَ، عن أيوبَ، عن محمَّد بن سِيرينَ، عن أبي هريرة أُراه رفعه قال: " أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا ما عَسَى أنْ يكونَ بَغِيضَكَ يومًا ما، وَأَبْغِضْ بَغِيضكَ هَوْنًا ما عَسَى أنْ يكونَ حَبيبَكَ يومًا ما".
التخريج:
- قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإِسناد إلاَّ من هذا الوجه، وقد رُوِيَ هذا الحديث عن أيوب بإسناد غير هذا رواه الحسن بن أبي جعفر وهو حديث ضعيف أيضًا بإسناد له عن عليّ عن النبي ﷺ، والصحيح عن علي موقوفٌ قولُهُ.
والحديث رواه عدا الترمذي:
- الحافظ الطبراني في معجمه الأوسط والكبير من حديث ابن
1 / 7
عمر، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٨/ ٨٨: وفيه جميل بن زيد، وهو ضعيف.
- وفي الأوسط والكبير أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو، قال الهيثمي ٨/ ٨٨: وفيه محمَّد بن كثير الفهري، وهو ضعيف.
- والبخاري في الأدب المفرد ح ١٣٢١، من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بلفظ: هل تدري ما قال الأول؟ أحبب حبيبك ...
- قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه الكافي الشافي بتخريج أحاديث الكشاف ص ١٢٢ (أحاديث سورة الفرقان):
الحديث أخرجه الترمذي من رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، تفرد به سويد بن عمرو عن حماد بن سلمة عن أيوب، قال الترمذي: غريب.
وقال ابن حبان في الضعفاء (١): سويد بن عمرو يضع المتون الواهية على الأسانيد الصحيحة، وليس هذا من حديث أبي هريرة، وإنما هو من قول علي ﵁، وقد رفعه الحسن بن أبي جعفر عن أيوب عن حميد بن عبد الرحمن عن علي، وهو خطأ فاحش.
ورواية الحسن بن أبي جعفر في فوائد تمام (٢).
وأخرجه ابن عدي (٣) من طريق الحسن بن دينار عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال: الحسن بن دينار أجمعوا على ضعفه.
_________
(١) كتاب المجروحين ١/ ٣٥١ - ٣٥٢.
(٢) الروض البسام بترتيب فوائد تمام ٣/ ٤١٥، ح ١١٩١.
(٣) الكامل في الضعفاء ٢/ ٧١١.
1 / 8
ورواه الطبراني في الأوسط من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، لكن الراوي له عن أبي الزناد متروك، وهو عباد بن كثير.
وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه الطبراني، وفيه أبو الصلت الهروي، وهو متروك.
وعن ابن عمرو بن العاص، أخرجه أيضًا من طريق محمَّد بن كثير الفهري عن ابن لهيعة عن أبي قبيل عنه، وهذا إسناد واهٍ جدًّا.
والموقوف عن علي، أخرجه البيهقي في الشعب في الحادي والأربعين من رواية أبي إسحاق عن صبرة بن يزيد ثم عن علي.
وقال الدارقطني: الصحيح عن علي موقوف، اهـ (١).
- قال الشيخ المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير ١/ ١٧٧ بعد أن عرض لروايات الحديث: وبعد أن علمتَ هذه الروايات فاعلم أن أمثلها الأولى -أي رواية الترمذي-، وقد استدرك الحافظ
العراقي على الترمذي دعواه غرابته وضعفه، فقال: قلت: رجاله رجال مسلم، لكن الراوي تردد في رفعه، انتهى. والمصنف -أي السيوطي في الجامع الصغير- رمز لحُسنه.
الشرح:
قوله: (أُراه) هو بضم الهمزة، أي: أظنه، وهي الرؤية الذهنية، فإن أُرِيدَ الرؤية البصرية كانت بفتح الهمزة.
_________
(١) في نص ابن حجر في "الكافي الشاف" أخطاء صححتها من المراجع المشار إليها.
1 / 9
قوله: (أحبب حبيبك هونًا ما)، أي: حبًّا مقتصِدًا لا إفراط فيه.
قوله: (عسى أن يكون بغيضك يومًا ما)، أي: فلربما انقلب هذا الحب بغضًا بتغيُّر الزمان والأحوال فلا تكون قد أسرفتَ في حبه فتندم عليه إذا أبغضته.
قوله: (وأبغض بغيضك هونًا ما)، أي: بغضًا معتدلًا لا إفراط فيه.
قوله: (عسى أن يكون حبيبك يومًا ما)، إذ ربما انقلب هذا البغض حبًّا فلا تكونُ قد أسرفتَ في بغضه فتستحي منه إذا أحببته.
1 / 10
ترجمة المؤلِّف (١)
هو العلَّامة الأديب، والشاعر النَّاثر؛ أديب الفقهاء، وفقيه الأُدباء؛ الشيخ شهاب الدِّين أبو العبّاس أحمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن محمَّد البربير الحسني البيروتي الأصل (٢)، الدمياطي المولد، الدِّمشقيّ وفاة.
_________
(١) مصادر ترجمته: "حلية البشر" لعبد الرزاق البيطار (١/ ٢١٧)؛ و"أعيان دمشق" لجميل الشطي (ص ٣٣)؛ و"منتخبات التواريخ لدمشق" للحصني (٢/ ٦٤١، ٦٧٥، ٨٥٧)؛ و"الأعلام" للزركلي (١/ ١٤٨)؛ و"أعيان القرن الثالث عشر" لخليل مردم بك (ص ١٤٥)؛ و"معالم وأعلام" لأحمد قدامة (١/ ١١٧)، "مجلة الفكر الِإسلامي" مقالات للشيخ طه الولي (العدد ٣ - ٩/ ٣ سنة ١٣٩٢ - ١٩٧٢).
(٢) إن عائلة البربير في الأصل بيروتية الموطن، إلاَّ أن بعض أجدادهم انتقلوا إلى مصر، ونزلوا في بلدّتي دمياط ورشيد، حيث زاولوا الأعمال التجارية.
و"البربير" كلمة إيطالية كانت تطلق على الحلاق الذي كان يمارس في نفس الوقت القصد ويضع الضمادات ونحو ذلك من أعمال الطبابة الأهلية.
وعائلة البربير عُرفت قديمًا باسم "آل القحف" ثم أهمل هذا الاسم واشتهر الاسم الجديد لأن أحد أجداد هذه العائلة كان يلازم حلاقًا يمارس الطب على عادة أهل ذلك الزمان يسمى "البربير". "مجلة الفكر الِإسلامي" (عدد ٣/ ٣ سنة ١٣٩٢).
1 / 11
مولده ونشأته:
وُلِد بدمياط سنة ١١٦٠ هـ (١٧٤٧ م) لأبٍ تاجر، ولمّا نشأ أخذ بطلب العلم، فحفظ القرآن الكريم صغيرًا على الشيخ قاسم بن داود، ثمَّ لمَّا بلغ اثنتي عشرة سنة حفظ ألفية ابن مالك، وحضر شرحها لابن عقيل على الشيخ عبد الحيّ بن فتح الله. وعند الثالثة عشرة تعلق بنظم الشعر، فصار يشبب ويتغزَّل، فاعترض عليه في دعوى الصبابة بعض الأُدباء، فأنشد:
لقد أنكر اللاحيَ شُجوني وصَبوَتي ... لكوني صغيرًا قلتُ لا تُنكروا الفضلا
رآني الهوى طفلًا فمازَحَ مُهجتي ... ومِنْ عادةِ المزَّاحِ أن يألفَ الطفلا
طلبه للعلم وشيوخه:
ثم حضر قراءة المنهج وتفسير البيضاوي على الشيخ محمَّد الدنهيجي، وجمع الجوامع على الشيخ عبد السلام أبي النصر، وتجريد الخطيب وابن قاسم مرارًا على الشيخ عبد الحي، وقرأ عليه أيضًا مختصر
السعد والسُّلَّم للأخضري وغيره، وحضر على الشيخ مصطفى المحلي -الشهير بالسَّقَّا- شرح الهدهدي وشرح اللقَّاني على الجوهرة، والاستعارات لعصام، وحضر على الشيخ أحمد البستاني في العَرُوض والفرائض والأشموني على الألفية.
ومن شيوخه المصريين: الشيخ أحمد الجوهري المتوفى سنة ١٢١٤ هـ، ومن شيوخه بل من أعظمهم مكانة في نفسه وتأثيرًا على سلوكه وثقافته السيد محمَّد مرتضى الزبيدي "شارح القاموس" المتوفى بمصر سنة ١٢٠٥ هـ، فقد أخذ عنه علم الحديث بمصر.
1 / 12
هجرته إلى بيروت:
وفي سنة ١١٨٣ هـ (١٧٦٩ م) هاجر إلى بيروت موطن آبائه وأجداده بعد أن مرَّ بدمشق لفترة وجيزة، وفي بيروت تزوج ثم ما لبث أن طلق زوجته، فانضاف ذلك إلى غربته عن أهله، فأنشد معبرًا عن حاله:
لقد غرَّني إبليسُ قومي بقولِهِ ... تغرَّبْ عن الأوطان في طلبِ المجدِ
كما غرَّ إبليسُ الشياطينِ آدمًا ... وأخرجَهُ بالمكرِ من جنَّة الخُلدِ
تقلُّده القضاء والِإفتاء في بيروت:
وقد طلب منه الأمير يوسف الشهابي أن يتولى الفتوى والقضاء في بيروت، فامتنع الشيخ البربير عن ذلك حتى أقنعه الأمير بالموافقة، غير أنَّ الشيخ وضع شروطًا لقبوله، فإذا أخلَّ الأمير بإحداها اعتزل المنصبين، وكانت الشروط هي:
١ - أن لا يتصدَّى الأمير للدعوى بعد أن يكون هو فصلها بمجلس قضائه، وأن يأمر بتنفيذها دون إبطاء.
٢ - إذا كانت الخصومة بين الأمير وبين أحد المواطنين العاديِّين، وكان الحكم ضد الأمير، فإنَّ على الأمير أن ينقِّذ ما أمر به الشرع الحنيف.
٣ - أن يبعث الأمير من قِبله أحد أتباعه ويجلس في المحكمة لتحصيل ما على الدعوى من الرسوم المقرَّرة بين القضاة.
٤ - أن لا يلتزم الشيخ البربير بارتداء الزيّ المقرَّر للقضاة من لبس العمامة والفَرَجيَّة (١).
_________
(١) هي الجبة التي كانت خاصة بالقضاة تمييزًا لهم عن بقية العلماء. وهي منسوبة =
1 / 13
وقد نزل الأمير عند رغبة الشيخ وتعهد بالتزام الشروط التي طلبها.
لكن الشيخ كان يتمنى أن يخل الأمير بشرط حتى يتخلص من هذا المنصب الذي قَبِله على مضض، ولم يكن يخفي تبرمه وضيق صدره، فمما نظمه مُعبرًا عن ذلك قوله:
قد عَدَلْنا وما عَدَلْنا بغَيٍّ ... وحكَمْنا بأمرِ ربِّ السماءِ
فشكا الناسُ حُكمَنا ولَعمري ... قلَّ مَن يرتضي بحكمِ القضاءِ
وقوله:
رماني زماني بما يجهدُ ... فمن ذا أرومُ ومن أقصدُ
وأوقفني في القضاءِ القضا ... وما كنتُ أحسبه يوجدُ
وظيفةُ كرْبٍ، لأثقالها ... تراني لموتي الرَّدَى أحمدُ
وحسبي انقلابُ صديقي بها ... عدوًّا، إذا فاته المقصدُ
فباطنها الذُّلّ والابتلا ... وظاهرها العزُّ والسُّؤددُ
وإذ ليس دأبي ولا ديدني ... ولا أرتضيه، ولا أعمدُ
وصعبٌ على المرء تكليفُهُ ... أمورًا خلاف الذي يَعْهَدُ
ولم تلق هذه المنظومات لدى الأمير أذن صاغية، مما اضطر الشيخ أن يوجه للأمير قصيدة مطولة ضمَّنها رجاءه بإلحاح لِإعفائه من هذا المنصب، واصفًا نفسه بالظلم وعدم الأهلية لتولي هذا المنصب، فمما قاله فيها:
_________
= إلى السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق من سلاطين المماليك الجركسية، ولي الحكم بمصر بعد أبيه سنة ٨٠١ هـ، ثم عزل سنة ٨٠٨ هـ، ثم أعيد إليه وانتهى به الأمر أن قتل سنة ٨١٥ هـ.
1 / 14
تنبَّه أخي فماذا العمى ... وقد بَلَغَ السيلُ أعلى الرُّبى
تواريتَ في جُنح ليل الذنوب ... ولم ترَ إشراق فجر الدُّجى
فكيف رضيتَ ترى قاضيًا ... وفوقكَ بالقهر قاضي السما
وكيف عجزتَ يحمل القميص ... وتقوى على حمل حقِّ الملا
وأصبحتَ بالظلم في غاية ... ومرتبةٍ ما لها منتهى
وقال:
أما في الأُلى سلفوا عبرة ... لمثلكَ دلَّت على ما نأى
فأينَ القضاةُ وأين الملوك ... وأين الحُليُّ وأين الحُلى
وأينَ الأحاديثُ في سردها ... وقد أنبأتكَ بذمِّ القضا
فإن قلتَ إني امرؤٌ عادلٌ ... فلا تنس "من حام حول الحمى"
درءُ المفاسدِ تقديمهُ ... على جلب مصلحةٍ يرتضى
وإن قلتَ إني أمرؤٌ منكرةٌ ... عليها فدونكَ رحب الفضا
وكلُّ مَنْ تخلفُهم للذي ... أحاط بما كان تحت الثرى
فقد رزَقَ الطير في وكرهِ ... وخصَّ الجنينَ بِطيبِ الغِذا
وعشْ باليسير وأكل الشعير ... وترك الحرير ولبس العبا
فذلك أهونُ من بيع دينكَ ... يا غافلًا بدين الدُّنى
فلما أن اطلع الأمير يوسف الشهابي على هذه الأبيات دخلت قلبه خشية الله، فبادر إلى إعفاء الشيخ من القضاء وعيَّن له مرتَّبًا يكفيه، فامتدحه الشيخ البربير بقوله:
أميرُنا أَكرِمْ من حاتمٍ ... له بَنانٌ ضاق عنها الفضا
بحلمهِ أدركتُ ما أشتهي ... وقد كفاني الله شرَّ القضا
1 / 15
وقال أيضًا:
أميرٌ عظيم لهُ رتبةٌ ... على غيره صعبةُ المُرتَقَى
قصرتُ ثنائي على وصفهِ ... وأعطيتُهُ في الورى مَوْثِقا
ولا غروَ في كونِهِ وارثًا ... ثنائيَ دون الورى مطلقا
فقد أعتقَ القلب من كربِهِ ... وصحَّ الولاءُ لمَنْ أعتقَا
وبعد ذلك أنشأ مكتبًا (كُتَّابًا) لتعليم الأولاد قانعًا بما يناله منه من الرِّزق الكفاف، إلاَّ أنه لم يسدّ حاجته، وافتقر.
انتقاله إلى دمشق:
وفي سنة ١١٩٥ هـ تعرضت بيروت لعدوان من قراصنة روس مما حمل أهلها إلى النزوح عنها إلى حيث يجدون الأمن والطمأنينة. فعزم الشيخ على الرحيل إلى دمشق ورغب في سكناها، ورأى أنها خير البلاد.
فلما قصدها نزل ضيفًا على الشيخ محمد بن خليل المرادي (١) مفتي دمشق، فلمَّا دخل عليه مدحه بقصيدة طرب لها ورفع شأنه عنده فأكرمه وشمله برعايته.
ثم سكن الصَّالحية واستقرَّ بها وأُعجب بها غاية الِإعجاب، وذكرها بشعره مادحًا يقول:
قد ظفرنا بعيشةٍ مَرضيَّة ... مُذْ حللْنا في جنَّةِ الصالحيّةْ
ورأينا الزهورَ تبسم لطفًا ... عن ثنايا من الندى لؤلؤيّةْ
وجواري السحاب جلَّلَتِ الأر ... ضَ ببُسْطٍ من غزلها سندسيّةْ
_________
(١) مؤلف كتاب "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر" المتوفى سنة ١٢٠٦ هـ.
1 / 16
رقص الماءُ من غنا الطير حتى ... نقَّطَتْه أوراقُها الذهبيّةْ
وجهُ روضٍ يريك نجلَ عيونٍ ... وخدودًا من زهره عندميّةْ
وقدودًا من الغصونِ نشاوى ... من طلا الطلِّ بُكرة وعشيّةْ
حبَّذا حبَّذا معاني مغانٍ ... كبروجٍ حَوت نجومًا مُضِيّةْ
وبعد استقراره بدمشق تزوج مرة ثانية، ولكنه لم يُرزق من زواجه هذا بولد، وتوفي ﵀ ولم يترك ذرية.
مقتطفات من شعره:
للشيخ أحمد البربير شعر كثير ضمنه كتبه، وفي رسالتنا التي نقدِّم لها شيء من ذلك. ومن جميل ما قال، قوله في التوحيد:
لقد آمنتُ بالله ... وأصبحتُ به آمِنْ
هو الأولُ والآخِر ... والظاهرُ والباطِنْ
وقوله في كبح الشهوات:
إنَّ الذينَ يجاهدون ... النفسَ شبّانًا وشيبا
مَنَّ الِإله بنصرِهمْ ... وأثابهم فتحًا قريبا
وقال مادحًا أهل دمشق مضمنًا كلامه أسماء بعض كتب الحديث النبوي:
رعى الله في الدنيا أفاضل جِلَّقٍ ... فكم عمَّني منها سرورٌ وإكرامُ
أناسٌ وجدنا من شمائلها الشِّفا ... مصابيحُ هدي عَينُ مشكاتها الشَّامُ (١)
_________
(١) قوله: "الشفا" يقصد به كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، وقوله: "مصابيح" يقصد به كتاب مصابيح السنة للِإمام البغوي، وقوله: "مشكاتها" يقصد به كتاب مشكاة المصابيح للِإمام التبريزي.
1 / 17
وقال يهجو شاعرًا ويعيره بسوء ظنه:
سمعتُ شِعرَ شاعرٍ ... يُشبهُ صوتَ الجُلجُلةْ
ألفاظُهُ مُهملةٌ ... لكنَّها مُستعملةْ
شيوخه بدمشق:
ومن شيوخه الذين أخذ عنهم بدمشق: المحدِّث الشيخ محمَّد الكزبري (المتوفى ١٢٢١ هـ)، والشيخ أحمد العطار (المتوفى ١٢١٨ هـ)، والشيخ حسين المدرس (المتوفى ١٢٢٥ هـ)، والشيخ مصطفى الصلاحي (المتوفى ١٢٦٥ هـ)، وغيرهم من علماء ذلك العصر في دمشق والوافدين عليها.
تلاميذه:
لقد كان لما بلغه البربير من مكانة رفيعة في العلوم الشرعية واللغة العربية وآدابها الأثر بأن يقصده طلبة العلم لينهلوا من مَعين علومه وغزير أدبه.
فممن تلقى عنه:
- الشيخ عبد اللطيف فتح الله، الذي تسلم الفتوى ببيروت مدة طويلة حتى غلب عليه لقب "المفتي"، وأصبح هذا اللقب عَلَمًا عليه وعلى عائلته من بعده حتى اليوم، توفي ببيروت سنة ١٢٦٥ هـ (١٨٤٤ م).
- الشيخ أحمد الأغرّ، الذي تولى القضاء والِإفتاء ببيروت أيضًا، توفي بها سنة ١٢٧٤ هـ (١٨٥٧ م).
- الشيخ قاسم بن محمَّد تلحوق من عائلات مشايخ الدروز.
1 / 18
- الشيخ قاسم بن بشير جنبلاط من زعماء العائلات الدرزية.
مما قيل فيه:
ترجم له الشيخ عبد الرزاق البيطار في كتابه "حلية البشر" قائلًا:
"سهم الأغراض والأماني، وكنانة البيان والمعاني، ذو الأدب الباهي الباهر، والأرب الزاهي الزاهر، والنفس الزكية، والأخلاق المرضيَّة، مَنْ تستعذب النفوس نثره، وتستطيب نظمه وشعره، ... أقبل على الترقي بهمة قوية إلى أن صار فردًا يشار إليه، وعمدة في المشكلات يُعتمد عليه، وشهد له مشايخه بالفضل، وإنه لما يُثنى عليه به مستحق وأهل ... ".
وقال عنه الشيخ محمَّد جميل الشطي في كتابه "روض البشر":
"العالم الفاضل، الأديب الشاعر، المُجيد المُفلِق، الناظم الناثر، المفنن الأوحد".
وقال عنه الشيخ محمَّد عبد الجواد القاياني في رحلته "نفحة البشام في رحلة الشام": "السيد أحمد البربير عالم فاضل نحرير، من كبار العلماء المشاهير، له مؤلفات جليلة، ومصنفات جميلة، في العلوم العربية، والفنون الأدبية".
وذكره تلميذه مفتي بيروت العلاَّمة عبد اللطيف فتح الله في ديوانه، حيث قال مادحًا جنابَ قُرَّة عين الأُدباء الكرام، وواسطةِ عقد الجهابِذَةِ الفخام، حضرةَ شيخِهِ السيد أحمد البربير، وكان إذ ذاك حضرَ من دمشقَ الشام سنة ١١٩٨ هـ (١):
_________
(١) "الديوان" (١/ ٤٩، ٥٠)، وقد ذكره مادحًا له في مواضع منه (١/ ٥٢، ٥٥، ٦٠ - ٦٢، ٦٦، ٧٠، ٧٧، ٧٨).
1 / 19
شَمْسُ الكَمَالِ كَسَا بَيْرُوتَنَا حُلَلًا ... مِنْ نُورِ طَلْعَتِهِ لَمَّا حَلاَ وَحُلاَ
غَزَالُ سِرْبٍ غَزَا الأَلْبَابَ نَاظِرُهُ ... وَثَوْبُ سُقْيم لِجِسْمِي بِالْهَوَى غَزَلاَ
بَدْرُ الجَمَالِ جَمَالُ الْبَدْرِ حَلَّ بِهَا ... قَدْ حَلَّ بُرْجَ الْعُلَى وَالْعِزّ مُكْتَمِلاَ
الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ عَقْدُ الْمَجْدِ مَنْ نُظِمَتْ ... بِهِ الْفَضَائِلُ حَتَّى زَيَّنَ الْفُضَلاَ
وَمَنْ سَمَا في سَمَاءِ العِزِّ مُرْتَفِعًا ... فَوْقَ السِّمَاكِ عَلَى أَوْجِ السُّهَى وَعَلاَ
الأَلْمَعِيْ حَسَنُ الأَفْعَالِ ذُو حَسَبٍ ... عَلِيُّ قَدْر عَلَى أَمْثَالِهِ كَملاَ
أَعْنِي بِذَا أَحْمَدَ الْبَرْبِيرَ مَنْ جُمِعَتْ ... فِيهِ مَزَايَا بها قد نَبْلُغُ الأَمَلاَ
نَسْلُ الأَكَارِمِ بَحْرٌ مِنْ مَكَارِمِهِ ... إِكْرَامُ وَافِدِهِ إِنْ نَحْوَهُ وَصَلاَ
كُل الْمَحَاسِنِ نُورٌ مِنْ مَحَاسِنِهِ ... لَمَّا عَلَى الْحُسْنِ مِنْ دُونِ الوَرَى اشْتَمَلاَ
لَهُ حَدِيثٌ غَرِيبُ النَّظْمِ سَلْسَلَهُ ... بِكُلِّ مَعْنًى لَطِيفٍ حَيَّرَ العُقَلاَ
هَذَا هُوَ الْكَوْكَبُ الزُّهْرِيْ الَّذِي مُحِيَتْ ... عَنَّا الغُمُومُ بِهِ لَمَّا الْهُمُومَ جَلاَ
شَبَّهْتُهُ الْبَدْرَ لَكِنْ لَيْسَ يُشْبِهُهُ ... فَذَا يَغِيبُ وَهَذَا قَطُّ مَا أَفَلاَ
هَذَا الَّذِي قَدْ حَوَى حِلْمًا بِلاَ شَبَهٍ ... لِأَنَّهُ مِنْ كَمَالِ الحِلْمِ قَدْ جُبِلاَ
هَذَا الَّذِي هَامَ قَلْبِي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ... شَجًا، فَيَا وَيْلَ مَنْ فِيهِ لَنَا عَذَلاَ
تَبَسَّمَ الدَّهْرُ مِنْ فِيهِ بِهِ فَرِحًا ... يُشِيرُ لِي أَنّهُ قطبُ الزَّمَانِ بِلاَ
يَمِّمْ حِمَاهُ لِتَجْنِي مِنْ بَدَائِعِهِ ... دُرَّ العُقُودِ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الأَجَلاَ
وَاقْصدْهُ تهْدِكَ نِيرَانُ القِرَى سُبُلًا ... لِرَبْعِهِ المُعْتَلَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسَلاَ
وَلاَ نَكُنْ غَافِلًا عَنْ فَيْض رَاحَتِهِ ... فَلَيْسَ ينْكر ذَا، إِلاَّ الَّذِي جَهِلاَ
لاَ زَالَ طَالِعُهُ بِالسَّعْدِ مُقْتَرِنًا ... يَزِيدُهُ رِفْعَةً، لاَ تَنْتَهِي، وَعُلاَ
مَا هَزَّ غُصنَ الرُّبَى رِيحٌ وَمَا نَشَدَتْ ... شَمْسُ الكَمَالِ كَسَا بَيْرُوتنَا حُل
1 / 20