وكان عطاء أهل الكوفة وأهل البصرة كعطاء غيرهم من المقاتلين رخاء ووفرة، بل لقد ضاعفت كثرة المقيمين بهما هذا العطاء مما جعل أهلها في رخاء ورغد، مع ذلك نفس أهل البصرة على أهل الكوفة موقع بلدهم وما كان يدره عليهم من الخير، سأل عمر بن الخطاب وفدا من أهل البصرة قدموا إليه عن حاجتهم، فقال الأحنف بن قيس وكان معهم: «يا أمير المؤمنين! إن مفاتح الخير بيد الله، وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة، وإنا نزلنا سبخة ملتفة لا يجف نداها ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة لذلك فتربق ولدها كما يربق العنز،
6
يخاف بادرة العدو وأكل السبع، فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا.» فزاد عمر في عطائهم وأمر عامله على الكوفة، وكان أبا موسى الأشعري، فأجرى لهم نهرا من دجلة على ثلاثة فراسخ إلى شمالها.
وكذلك عاش المسلمون بالعراق في رخاء لا شيء من مثله في شبه الجزيرة، ثم كان لهم مع ذلك الرخاء عزة السادة الفاتحين، وقد أقاموا على هذه الحال عدة سنوات لا يفكرون في فتح فارس ولا يسعون إلى فتح جديد، مكتفين برد الهرمزان إذا حاول مناوشتهم في الجنوب الشرقي من ناحية البصرة، ذلك أن عمر كان مصرا على رأيه أن يكتفي بالعراق والدفاع عن تخومه، ولذلك أبى على الذين هزموا الهرمزان أن يلاحقوه داخل بلاده، وأمرهم أن يهادنوه على شروط نقضها الهرمزان غير مرة فأخذ أسيرا وأرسل إلى عمر بالمدينة، وليس المقام ها هنا مقام تفصيل لما صنع الهرمزان مع المسلمين وما صنعوه وسنعود إلى هذا التفصيل بعد حين.
أصر عمر على أن يكتفي بالعراق وأن يدفع الفرس عن تخومه، وكان الفرس قد شغلوا عن العراق بما أصابهم من اضطراب بلاطهم وفساد أمرهم وتسلط الأثرة على نفوسهم، فاضطربت شئون هذا العراق، وفسدت مرافقه، وتدهور إنتاجه، فرأى عمر أن يصرف همته إلى إصلاحه؛ لذلك أمر رجاله أن يمسحوا أرضه، وأن ينظموا مجاريه ليصل الماء إلى كل بقعة صالحة للزراعة فيه، وأن يصلحوا قناطره وجسوره، وأن يعمروا كل ما خربه الفساد أو خربته الحرب في أرجائه، وكان المهندسون الفرس الذين أقاموا بالعراق خير عون على تنفيذ هذا الإصلاح، ذلك أنهم رأوا السلطان مستتبا للمسلمين في البلاد ورأوا كسرى عاجزا عن استرداد هذا السلطان، ثم رأوا أمنا مطمئنا وعدلا شاملا، فآثروا التعاون مع الفاتحين لخير العراق وأهله، وزاد ما تم من هذا الإصلاح في ثبات السلطان الجديد واستقراره، فقد رأى كبراء الفرس الذين أقاموا أهل ذمة وردت إليهم أموالهم ما يجره هذا الإصلاح لهم من زيادة ثروتهم، ورأى الفلاحون فيه عمرانا يزيدهم أمنا ونعمة، ورأى العرب من أهل القبائل التي استقرت به أن بني جنسهم خير من الفرس حكما وأعم عدلا، فاستراح الجميع إلى النظام الذي أقامه أمير المؤمنين أساسا لحكم البلاد، وانصرفوا إلى أموالهم يثمرونها، وإلى أعمالهم يدأبون لإتقانها وتجويدها، وما كان لهم أن يتجهوا بتفكيرهم إلى غير هذه الناحية وهم يرون قوات المسلمين على مقربة منهم في كل مكان، دائبة الأهبة للقضاء على كل انتقاض يحاول أحدهم أن يثير ثائرته.
كان العمل للرزق وللثراء حافز أهل العراق جميعا، أما الفاتحون فكانوا في نعمة بما يصيبهم من العطاء، وكانوا مع ذلك ينافس بعضهم بعضا وينفس بعضهم على بعض، وقد رأيت أهل البصرة كيف نفسوا على أهل الكوفة موقع بلدهم وكثرة خيراتهم، وكانت القبائل التي أقامت بكل من هذين البلدين تتنافس ويفاخر بعضها بعضا، ذلك أن روح القبيلة الأصيل فيهم حفزهم إلى هذا التنافس وهذه المفاخرة، وزاد في حفزهم فراغ قوى هذا الروح وشجعه، ثم إنهم رأوا في مفاضلة عمر بينهم وتفضيله قريشا على غيرها، ورفعه مكانة المهاجرين والأنصار على من سواهم، ما أغراهم بالكيد لمن آثرهم الخليفة برعايته، وهذا الكيد هو الذي دعا بعضهم فنسب إلى سعد بن أبي وقاص ما لم يقله حين بنى باب قصره، وسعى قوم بسعد إلى عمر أنه لا يحسن الصلاة، فأرسل عمر يسأل أهل الكوفة في ذلك، وسأل عنه سعدا، فلما علم أنه يصلي بالناس صلاة رسول الله قال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق! وبلغ من كيد أهل الكوفة لسعد أنه قال لهم يوما: اللهم لا ترض عنهم أميرا ولا ترضهم بأمير، وكأنما استجاب الله دعاء سعد؛ فلم يكن أمير على الكوفة إلا سعى به أهلها إلى الخليفة، ذلك أن الأمير كان يراهم يكيد بعضهم لبعض ويثور بعضهم ببعض، فيعمل للقضاء على فتنتهم، فينقلبون إلبا عليه عند أمير المؤمنين.
لم يكن لهذا التنافس بين أهل الكوفة والبصرة وغيرهم من سائر المسلمين بالعراق أثر تخشى مغبته في عهد عمر؛ فقد كان المسلمون جميعا جنودا يدعون إلى الميدان حينا بعد حين، فيسكن تنافسهم، وينقلب أهلوهم إلى التطلع لأخبارهم وما يصيبون من نصر أو يصيبهم من ضر، هذا إلى أن النشاط الذي ملأ أرجاء العراق لإصلاحه جعل الناس في شغل به عن الاستماع لهذه المنافسات وأنبائها، ثم إن عمر كان إلى حزمه وشدته حكيما رحيما، فلم تدع شدته لفتنة أن تثور، ولم تدع حكمته ورحمته لمظلوم أن يشكو، بذلك سارت الأمور في العراق راضية مطمئنة، لا تزعج الخليفة ولا تزعج غيره من المسلمين. •••
بينما كانت سعد بن أبي وقاص يسير من القادسية إلى المدائن ويبعث قواده إلى جلولاء وتكريت والموصل، وينشئ الكوفة والبصرة، ويطمئن له الأمر في العراق كله، كان أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ومن معهم من القواد والجند يجاهدون الروم بالشام، وكان عمر بن الخطاب ينتقل من المدينة إلى بيت المقدس وإلى دمشق، فلننتقل الآن إلى الشام لنصحبهم، فنرى كيف أتموا وحدة الجنس العربي من جنوب شبه الجزيرة إلى شمال بادية السماوة.
هوامش
الفصل الحادي عشر
Página desconocida