وكان الناس يجتمعون بسعد في قصر كسرى، فيتحدث سعد إلى ذوي العلم منهم بماضي هذه البلاد، ويذكر ويذكرون أياما سلفت كانت فيها مقر حضارة العالم، ففي أرجاء مختلفة منها قامت دول البابليين والآشوريين والكلدان، وكنت بعض هذه الدول تستقر بها، وكان بعضها يطرأ عليها ثم يترحل عنها، ثم تطلق كل دولة اسمها على الجانب الذي استقرت به بين النهرين: دجلة والفرات.
و«بين النهرين» اسم أطلق هو أيضا على هذه الأصقاع من أقدم العصور؛ فكذلك كانت تسمى عهد الفراعنة الأقدمين حين امتد سلطان مصر إليها، وكذلك كانت تسمى حين خضعت لحكم الإغريق بعد حكم الفراعنة، ولا عجب أن يظل هذا الاسم باقيا إلى اليوم، وهو يصف مواقع أرضها بين نهرين يجريان فيها بالخصب والحياة.
ولم يطلق اسم العراق على ما بين النهرين إلا بعد أن دخلت في سلطان الفرس؛ فقد زحف الفرس من سهل إيران إليها بعد أن جلا الفراعنة والإغريق عنها، فاكتسحوا البلاد إلى شواطئ دجلة وما وراءها، وأقاموا بطيسفون عاصمة ملكهم، ثم جعلوا منها ومن البلاد السبع المحيطة بها ومن سلوقية اليونانية المستقلة، تلك «المدائن» التي أقامت قرونا تزهى على التاريخ بجلال عظمتها، وسعة سلطانها، وطائل ثرائها، وترف أهلها، وإذا كانت بلاد ما بين النهرين تجاور العراق العجمي، فقد غلب الفرس عليها اسمه واعتبروها جزءا منه، كما اعتبروا سلوقية جزءا من طيسفون، ومن يومئذ أطلق اسم العراق على هذه البلاد.
ويمتد هذا العراق الذي غلب المسلمون عليه الفرس من دلتا النهرين جنوبا، حتى ينتهي في الشمال إلى ما دون بلاد الموصل، متاخما الشام من أعلاه متاخمة كان لها أثرها في تاريخ الفرس والروم، ثم كان لها أثرها في تاريخ الفتح الإسلامي، وقد أدت متاخمة العراق للشام إلى انتقال الأديان التي ظهرت بفسلطين إلى ربوعه، وإلى غزوها وثنية اليونان ومجوسية الفرس فيه، ولذا استقرت به جالية كبيرة من اليهود، ثم انتقلت النصرانية إليه بعد انتقالها إلى الشام.
ولما كانت بلاد ما بين النهرين تجاور العرب، كما تجاور العجم، فقد نزحت إليها قبائل كثيرة من شبه الجزيرة، استقرت بها وجعلتها منازلها، كما نزحت إلى الشام قبائل كثيرة استقرت به وجعلته منازلها، فلما غزا العرب ما بين النهرين كانوا قد ألفوا العراق اسما لهذه البقعة من الأرض، فلم يطلقوا عليها اسما غيره، ثم أطلقوا اسم السواد على ما بين دجلة والفرات وما جاورهما، وليفرق المؤرخون بين هذا العراق وعراق العجم أسموا أحدهما العراق العربي، والآخر العراق العجمي.
وطبيعة الأرض في العراقين متابينة أشد التباين، فالعراق العربي سهل يجري فيه النهران، وتنتشر فيه شبكة من النهيرات والجداول والغدران، تجعل الجانب الأكبر منه أخضر يانعا كثير الخيرات وافر الثمرات، وهو ينتهي من الشرق إلى جبل رفيع الذرى يفصل بينه وبين العراق العجمي، تتلاحق وراءه جبال وأودية تنتهي إلى سهل إيران، وقد كان هذا الجبل حاجزا طبيعيا شديد المنعة، يفصل آسيا وشرقها الأقصى من هذه البلاد الواقعة في غرب آسيا، والتي كانت لذلك أكثر اتصالا بالشعوب المقيمة حول البحر الأبيض في إفريقية وأوروبا منها بالبلاد المجاورة لها في الشرق.
وكان من أثر هذا الوضع الجغرافي الذي أتاح لقبائل العرب أن تهاجر إلى العراق وإلى الشام أن امتدت منازل الجنس العربي من خليج عدن والمحيط الهندي في الجنوب إلى أقصى الشمال من أرض العراق والشام، وأن خضعت هذه القبائل كما خضعت أرجاء كثيرة من شبه الجزيرة قرونا طويلة لحكم فارس والروم، وها هم أولاء عرب شبه الجزيرة يغزون الدولتين العظيمتين، فيبلغون دمشق في الشام والمدائن في العراق وينزل سعد بن أبي وقاص قصر كسرى في عاصمة ملكه.
وأقام سعد بالعاصمة الفاتنة حتى جم وجم جنده، وما كان له أن يتعقب الفرس في بلاد العراق المترامي الأطراف فيما وراء دجلة، فلم يكن عمر قد أذن له في تعقبهم؛ لذلك لم يزد على تنطس أخبارهم وإرسال العيون من رجاله ليعودوا إليه بأنبائهم، وقد جاءته الأنباء بأن الفرس الذين فروا منهزمين بلغوا جلولاء، على نحو أربعين ميلا في شمال المدائن، وأنهم رأوا الطرق عندها تفترق إلى شتى الأرجاء من إيران، فقال بعضهم لبعض: «لو افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نحب، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبدينا عذرا.» وجاءته الأنباء كذلك بأن يزدجرد اجتمع إليه وهو في طريقه إلى حلوان رجال وأعوان وجنود من شتى البلدان، فأمر عليهم مهران ووجهه معهم إلى جلولاء، وأقام بمقره الجديد يمدهم بالرجال والأقوات، واجتمع هؤلاء وفلال المدائن واحتفروا حول المدينة خندقا عظيما أحاطوه بحسك الحديد، وأقاموا بها العدد والعدد وآلات الحصار وتواثقوا وتعاهدوا ألا يفروا، وأن يفنوا المسلمين عن آخرهم ويجلوهم عن بلادهم.
جاءت هذه الأنباء سعدا وهو في مقره بقصر كسرى، فبعث بها إلى عمر بالمدينة، وكتب عمر إليه أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء في اثني عشر ألفا، واجعل على مقدمتهم القعقاع بن عمرو، وعين له من يكونون على الميمنة والميسرة والساقة بأسمائهم، وكان الجند قد جم واستراح، وتحركت في نفسه الحماسة للقتال، بعد أن قضى بالمدائن أشهرا استمتع فيها بما فتح الله وأفاء عليه من مغانم طائلة لا عهد له بمثلها،
1
Página desconocida