فلما تم لعمر شبابه هوت إلى الزواج نفسه، وقد ورث عن قومه ميلا لكثرة الزوجات طلبا للولد، فتزوج في حياته تسع نسوة ولدن له اثني عشر ولدا: ثمانية بنين وأربع بنات، تزوج زينب بنت مظعون فولدت له عبد الرحمن وحفصة، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب فولدت له زيدا الأكبر ورقية، وأم كلثوم بنت جرول بن مالك فولدت له زيدا الأصغر وعبيد الله، وقد فرق الإسلام بين عمر وأم كلثوم بنت جرول، وتزوج جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلح فولدت له عاصما، وكانت جميلة هذه تدعى عاصية، فغير النبي اسمها، وقال لها: بل أنت جميلة، وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة فولدت له فاطمة، وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو فولدت له عياضا، أما لهية فأم ولد، وولدها عبد الرحمن الأوسط، وفكيهة أم ولد كذلك وقد أنجبت زيدا أصغر ولده، كما أن عبد الرحمن الأصغر أمه أم ولد اختلف المؤرخون في اسمها.
وقد تزوج عمر أربعا من أولئك النسوة بمكة، وخمسا بعد هجرته إلى المدينة، على أن جمعهن لم يكتمل قط في بيته، فقد رأيت الإسلام فرق بينه وبين أم كلثوم بنت جرول، وقد طلق نسوة غيرها: طلق أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وطلق جميلة التي ولدت عاصما، ولو أن السن امتدت به لتزوج غير أولئك النسوة التسع، فقد خطب أم كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة، وهو على إمارة المؤمنين، وأرسل فيها إلى أختها عائشة، فسألت أم المؤمنين أختها في ذلك فرغبت عنه، وقالت: إنه خشن العيش شديد على النساء، وخطب كذلك أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فكرهته وقالت: يغلق بابه ويمنع خيره، ويدخل عابسا ويخرج عابسا.
وما ذكرته أم كلثوم بنت أبي بكر عن شدته وغلظته، وما ذكرته أم أبان عن عبوسه وقسوة عيشه، كان بعض طبعه في شبابه، ثم لزمه في سائر حياته، لما استخلف كان أول دعائه قوله: «اللهم إني غليظ فليني! اللهم إني ضعيف فقوني! اللهم إني بخيل فسخني!» ولقد ورث الغلظة عن أبيه وقسوته عليه في صباه، ثم أعانته قوة بدنه من بعد على بقائها، أما ما ذكر عن بخله فسببه أنه لم يكن غنيا، وأن أباه لم يكن غنيا، وقد ظل متوسط الحال في الغنى طيلة حياته، مع أنه كان يعمل في التجارة كالكثيرين من أبناء مكة، ولعل غلظته هي التي حالت بينه وبين الإفادة من التجارة ما أفاد غيره، فهو لهذه الغلظة لم يكن يستطيع بالتجارة أن ينبع الماء من الحجارة، ولا أن يحيل التراب ذهبا، على تعبير قومه من قريش، هذا مع أنه لم يكن يقف من تجارته عند رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، بل كان يذهب إليهما وإلى غيرهما من بلاد فارس والروم، لكنه كان في رحلاته هذه أكثر اشتغالا بتثقيف ذهنه منه بإنماء تجارته، وقد أشار المسعودي في مروج الذهب إلى رحلات عمر في جاهليته وأنه لقي في أثنائها كثيرا من أمراء العرب وتحدث إليهم، وأغلب الظن أن ما كان يقوم به من السفارة عن قريش، وما بلغه من المعرفة بالأنساب وأيام العرب، وما اطلع عليه في أثناء قراءاته في كتب عصره، قد جعله أكثر حرصا على الكسب لزيادة علمه منه على الكسب لنماء ماله.
وهذه حال تجعل صاحبها أكثر اعتدادا بذاته واعتزازا بنفسه، فصاحب المال في حاجة إلى إدامة صلاته الحسنة بالناس، محافظة على ماله وطمعا في تكثيره، والعامل في التجارة نجاحه فيها بحسن حيله وافتنانه في أساليبها، أما طالب الحكمة والراغب في المعرفة، فيستهين بالمال ويذل الدنيا؛ لأن الحرص على المال يصرفه عن الحكمة ويزيده تعلقا بالدنيا وإذعانا لذوي السلطان فيها، ومن أذل الدنيا واستهان بالمال وطلب الحكمة والمعرفة اعتز بنفسه أيما اعتزاز؛ وقد يبلغ من ذلك أن يعتزل الناس ازورارا عنهم، ورغبة عما بأيديهم، وتساميا عليهم، وهذه مرتبة لم يبلغها عمر في شبابه، فأما الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالذات فكان له منهما أوفر نصيب.
والتماس عمر أسباب المعرفة قد جعله منذ شبابه يفكر في شئون قومه وما يصلحهم؛ ثم جعله اعتزازه بنفسه يتعصب لرأيه فيما ينتهي إليه من ذلك، فلا يقبل فيه جدلا، وقد مالت به شدته ومال به بأسه إلى أن يبلغ بتعصبه حد العنف، وأن يناضل عن رأيه بيد البطش، كما يناضل عنه بحدة اللسان، لكن ذلك لم يمنعه من أن يقلب آراء غيره فيما بينه وبين نفسه، ليكون أبلغ حجة في دفعها وأقوى يدا في القضاء عليها.
ولم تكن الآراء في مكة ولا في غيرها من بلاد العرب لتختلف في شئون الاقتصاد وشئون الاجتماع وما إليهما؛ فقد ألف الناس في هذه الشئون ألوانا من الرأي، ورثوها عن آبائهم، وأخذوا بها في حياتهم، واطمأنوا إليها فيما بينهم من صلات؛ وإنما وقع الخلاف على دينهم وعباداتهم، ذلك أن النصارى واليهود المقيمين بينهم كانوا ينكرون عبادة الأصنام، ويرونها باطلا يجب أن يتنزه العاقل عنه، وقد كان الذين رآهم العرب ببلاد الروم في أثناء رحلة الصيف من أمثال هؤلاء اليهود والنصارى أرقى من العرب حضارة، وكانوا ينسبون رقيهم إلى أديانهم، ثم إن المبشرين بالمسيحية في ذلك العصر كانوا ذوي نشاط في الدعوة إلى دينهم والتبشير به مثل نشاطهم اليوم؛ لذلك صبأ من العرب أفراد ذوي حكمة أنكروا الأصنام وعبادتها.
ترى أصبأ عمر ، وهو القارئ الكاتب، مع الصابئين؟
كلا! بل كان حربا على هؤلاء أهول الحرب، وكان يرى في خروجهم على دين قومهم تقويضا لركن الجماعة العربية، ويرى لذلك محاربتهم والقضاء عليهم حتى لا يستفحل أمرهم، ولعله لم يكن متعصبا في هذا الرأي للأصنام وعبادتها تعصبه لقومه، حرصا على نظامهم وعلى ما يكفله النظام من إمساك كيانهم وشد أزرهم إزاء غيرهم من الأمم.
والواقع أن العالم اضطرب منذ أقدم العصور بين أمرين جوهريين لحياته، وهو لا يزال حتى اليوم مضطربا بينهما، ينصر أحدهما حينا وينصر الآخر حينا، هذان الأمران هما الحرية والنظام: حرية الفرد، ونظام الجماعة، فالجماعة لا حياة لها إلا بالنظام، والفرد لا حياة له إلا بالحرية، فإذا تعارضت حرية الفرد ونظام الجماعة فأيهما نؤيد؟ النظام لا ريب، فحرية الفرد لا كفيل لها إلا نظام الجماعة، وإذا أهدر نظام الجماعة أهدرت حرية الفرد معه، لكن! أليست لحرية الفرد حدود تجعلها لا تتعارض ونظام الجماعة! أوليس لنظام الجماعة حدود كذلك تجعله لا يتعارض وحرية الفرد! هذه الحدود هي التي كانت ولا تزال موضع الخلاف، فلحرية الفرد حدود في الحياة الاقتصادية، وفي الحياة الاجتماعية، وفي الحياة السياسية، وفي غير هذه من مظاهر الحياة، ولنظام الجماعة كذلك حدود في مظاهر الحياة ومرافقها جميعا، ولطالما قامت الثورات وشبت الحروب بسبب الخلاف على هذه الحدود للحرية وللنظام في الأمة الواحدة وفي علاقات الأمم بعضها ببعض، بل إن الحرب كثيرا ما شبت لأغراض السيادة والاستعلاء، ثم لم يلبث الدعاة لها أن استظلوا بلواء الحرية حينا، وبلواء النظام العالمي الكفيل للحرية العامة حينا آخر.
وقد تواضع الناس في كثير من الأزمان على أن حرية الرأي والعقيدة لا يمكن أن تتعارض مع نظام الجماعة، ما دامت محصورة في حدود العقيدة والرأي والتعبير عنهما، لكن ذلك لم يكن أمرا مقررا في عهد عمر، وكثيرا ما شبت الحرب بين فارس والروم تعصبا لدين على دين، بل لقد شبت الحروب الصليبية بعد ذلك بين أوروبا المسيحية والمسلمين، وظلت أزمانا طويلة متصلة الضرام بسبب العقيدة، ذلك لأن الدين اعتبر من أسس الحياة الاجتماعية، وقد أدى ذلك إلى اعتبار الذين يدينون بغير دين الدولة في حكم الأجانب عنها، إذا تسامحت معهم؛ لأنهم ورثوا عقائدهم عن آبائهم فإنها لن تجعل لهم من الحقوق ما لبني دينها، لا عجب إذن أن يكون عمر في جاهليته عدوا لمن يعبدون غير الأصنام، ولا عجب أن يكون حربا على من صبأ من بني قومه على عبادة ما كان يعبد آباؤه وأجداده.
Página desconocida