ولا صنمى بنى طسم أدير
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور!
وتجهم عمر لما سمع من ذلك قال: تبا له! ولا غفرت العزى كفرانه! خيرا فعل الخطاب إذ أخرج ابن أخيه من مكة ومنعه من أن يدخلها منذ فارق ديننا، وعادى أوثاننا، وصبا يلتمس إلها عند اليهود والنصارى، فلم يظفر من هؤلاء ولا من أولئك بخير فزعم أنه على دين أبيه إبراهيم، ولو أن الخطاب ترك لي أمره لصرعته فأوردته حتفه.
وينتقل الحديث من بعد إلى شئون أدعى إلى طمأنينة النفس، وإن القوم لفي سمرهم إذا طرقت سمعهم أصوات ناعمة لعذارى خرجن من مضاربهن إلى فسحة البادية ينعمن فيها بأسرار الليل أو يقضين فيها بعض شأنهن، وأمسك عمر عن الحديث وكأنما لعبت هذه الأصوات بفؤاده، فلما رآه أصحابه أمسك أجالوا فيه أبصارهم، فإذا هو يهم بالقيام ويقول: سأدعكم هنيهة لبعض شأني وسرعان ما أعود، وابتسموا، فصاحبهم صاحب نساء كما أنه صاحب خمر، وقصد عمر إلى ناحية الصوت الناعم، فسمع غانية تقول لصاحباتها: هذا عمر يقدمنا؛ فلنخيل إليه أننا نفر منه كي لا يصرعنا، فلما اقترب منهن تظاهرت كل بالفرار إلى ناحية، ولم تبق إلا هاته الغانية أسقطت خمارها، وزعمت أنها تصلحه، وعرفها ابن الخطاب صاحبته التي لقيها منذ أيام، فسعد معها بأحلى سويعات عكاظ هذا العام، وأدركت صاحباتها حيلتها فتعالت أصواتهن بضحكات السخط والسخر والغيرة، وعاد عمر إلى أصحابه على موعد منها، ولم يطل به المقام حتى نقد الخمارة قدر ما شربوا، ثم انصرف عن أصحابه إلى حيثما اتفق.
كان النهار ضحى حين لقي عمر أصحابه كرة أخرى، وقد تذكروا مصارعة أمس وما أبدى عمر فيها من مهارة، وتمنوا لو أن عمر صارع صاحبه كرة أخرى حتى يصرعه، فلا تقوم لهذا البدوي من بعد في ميدان المصارعة قائمة، وخالهم عمر ورأى في قولهم ما لا تقره الشهامة، إنه الفائز، فإذا أراد صاحبه أن يثأر لنفسه فلن يتردد في مصاولته، لكنه لن يبدأ بالدعوة إلى هذه المصاولة ولن يتحداه، والسوق بعد موشكة على ختامها، فبعد ثلاثة أيام ينصرف الناس عن عكاظ إلى مجنة ليتجهزوا للطواف بالبيت، فتقدم كل قبيلة هديها قربانا لصنمها، فإذا نحر الناس ذهبوا إلى ذي المجاز يتروون منه لصعود عرفات، وفي الأيام الثلاثة التي تسبق مجنة يشغل الناس بالتجهز للحج عن كل مصارعة أو مصاولة.
وانقضت ثلاثة الأيام وقد أذعن الفتى البدوي لما أصابه؛ إذ رأى ابن الخطاب قرنا لا يقهر، وتجهز الناس للانصراف من عكاظ، فكان عمر أسبقهم إلى هذا التجهز: دعا غلامه فأتاه بجواده حين أضحى النهار، ورأى شبان من نبلاء القبائل المختلفة هذا الجواد، فأعجبوا بلونه الأدهم وأذنيه الصغيرتين ورأسه المترفع وساقيه الدقيقتين وبطنه الضامر، وكأنما أدركت بعضهم الغيرة لما رأوا من اعتزاز عمر بنفسه وبجواده، اعتزازا فيه صلف وغلظة، فدعوه للسباق، فإذا فرغوا من السباق استراحوا ثم انحدروا إلى مجنة بعد أن تكسر القيلولة.
وقبل عمر دعوتهم، فدعوا فجيئوا بجيادهم، وساروا جميعا إلى فسحة البادية، فاختاروا حلبة سباق فيها، وامتطى كل جواده ودفعه حين أشار المشير، فإذا عمر وجواده كأنهما قطعة واحدة لا يدري الشاهد أهي تنهب الأرض أم تلقي في يد الريح التراب، ولم يكن إعجاب أهل السوق بفوز عمر في السباق دون إعجابهم بفوزه في المصارعة، ولم يقف أمر الفتيات عند الإعجاب به؛ فقد أخذ منهن بمجامع القلوب وملك عليهن كل الجوارح، وكانت صاحبته التي أمتعته بأحلى سويعات عكاظ هذا العام تبتسم بينهن ابتسامة زادتهن غيرة، وجعلتهن يرمقنها من عيونهن العربية الجميلة بنظرات لعلها بعض ما عناه عمر بن أبي ربيعة حين قال:
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
Página desconocida