169

ونحن نميل إلى الأخذ برواية البلاذري، وإن لم تذكر بها تواريخ معينة، ونميل لذلك بخاصة؛ لأن ابن عبد الحكم وغيره ممن أرخوا لفتح مصر يقررون أن عمرا بقي على حصار الإسكندرية مذ سار إليها إلى أن تم له فتحها، وعلى ذلك كانت كتائبه تسير في الدلتا وفي الصعيد حين كان هو على هذا الحصار، وإذا صح أن هذه الكتائب لم تفتح البلاد المحصنة إلا بعد فتح الإسكندرية فالذي لا شبهة فيه أنها حصرت الروم في هذه البلاد، وأنها مدت سلطانها على ما سواها من الأرجاء التي سارت فيها، ولا شبهة كذلك في أن أهل مصر لم يرحبوا بالعرب ولم يثوروا بهم ولم يقاوموهم؛ لأنهم كانوا يخشون أن ينتصر الروم بالإسكندرية ثم يعود الأمر لهم في مصر كلها، كما كانوا لا يعرفون ما سيئول إليه أمرهم إذا عقد النصر لواءه للعرب، أترى هؤلاء العرب يدعونهم يستقلون ببلادهم؟ ما أحسبهم خدعوا أنفسهم بمثل هذا الأمل وقد رأوا المسلمين يستقرون بالشام ويأخذون بأيديهم مقاليد حكمه؛ لذلك أذعنوا للواقع فلم يقاوموا أحدا ولم يثوروا بأحد، بل ظلوا على ولائهم الظاهر للروم حيثما بقي الأمر للروم، وأبدوا ولاء ظاهرا للعرب، حيثما آل السلطان للعرب، ووقفوا في المعركة الدائرة في أرضهم موقف المتفرج، وقد شدت أنظارهم إلى العاصمة العظيمة فكلهم التشوف إلى أنبائها والتطلع إلى ما ينتهي إليه أمرها.

وكيف لا يكون ذلك شأنهم وقد كان الشهر يمضي يعقبه الشهر والعاصمة الحصينة آمنة مطمئنة لا يجرؤ المسلمون على التفكير في مهاجمتها، بله اقتحامها، ذلك لأنها كانت مفتوحة للروم من ناحية البحر فهم يستطيعون أن يمدوها بما يشاءون من جند وعتاد، والظاهر من مختلف الروايات أن القتال عندها كان مقصورا أغلب الأمر على مناوشات لا تبلغ أن تكون حربا، روى ابن عبد الحكم أن طرفا من الروم خرجوا من باب حصن الإسكندرية، فحملوا على الناس فقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به فغضب المهريون وقالوا: «لا ندفنه أبدا إلا برأسه.» فقال لهم عمرو: «تتغضبون! كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلا ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم.» وخرج الروم يوما فقتل العرب منهم رجلا فاحتزوا رأسه ورموا به إلى الروم، فرمى الروم برأس المهري إليهم فدفنوه، وطبيعي ألا تحسم مثل هذه المناوشات حربا، ولقد ضاق عمرو بها ذرعا، ثم لم يستطع أن يدفع جنده لأكثر منها، حذرا أن يسوقهم إلى هلكة يؤاخذه بها عثمان بن عفان ومن كانوا على رأيه فعابوا على ابن العاص جرأته في الإقدام على فتح مصر، ولعله كذلك كان يجد من جنده من يتقاعسون إذا دعوا للإقدام، وإن كان على ثقة من أن أكثرهم يستحب الموت على الحياة، يدل على ذلك ما روي من قوله يصف طوائف هذا الجند «ثلاث قبائل في مصر: أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما بلي فأكثرها رجلا صحب رسول الله

صلى الله عليه وسلم

وأفضلها فارسا.»

على أن أمداد الروم إلى الإسكندرية ما لبثت أن انقطعت بعد قليل من موت هرقل؛ فقد شغل أهل بزنطية بما ساد بلاطهم من الاضطراب، وبما نشأ في عاصمتهم من الانتقاض على مرتينا وابنها، فنسوا الإسكندرية ونسوا مصر، ولم يعد منهم أحد يفكر في الدفاع عنها، وذلك قول المؤرخين المسلمين إذ يذكرون موت هرقل: «إن الله كسر بموته شوكة الروم.» وفت انقطاع المدد عن عاصمة مصر في أعضاد حماتها، فأوجسوا خيفة أن يدهمها العرب، أو أن يتغلبوا على بلاد الساحل فيقطعوا عنها ميرتها، وزاد في مخاوفهم ما كان يبلغهم من انتشار هؤلاء العرب في الصعيد وفي مصر السفلى، ومن حصرهم حاميات الروم في البلاد الحصينة داخل أسوار هذه البلاد، وما عسى أن تستطيعه الإسكندرية إذا حرمت الطعام وفشت فيها المجاعة! وما بقاء جنود الروم بعاصمة هذا حالها في حين أن عاصمتهم على ضفاف السفور مضطربة مهددة بشر ألوان الفساد والفوضى! هذه كلها عوامل تزعزع الروح المعنوية في نفس كل جيش مقاتل، وقد زعزعت روح الجيوش المدافعة عن الإسكندرية، وجعلتها لا ترى في مناعة الحصون والأسوار المحيطة بها ما يدفع عنها أو يعصمها من الهزيمة إذا غامر محاصروها بمهاجمتها.

وكيف لا تنحل روحهم وكان اشتغال الروم في مدينة قسطنطين بدسائس بلاطهم وباضطراب شئونهم قد صرفهم عن التفكير في مصر والدفاع عنها! وكان شعور الجند المدافع عن الإسكندرية بهذه الحال يشتد يوما فيوما فيزيد روحهم المعنوية بتوالي الأيام انحلالا، وكان عمرو بن العاص وجنوده مقيمين على حصار الإسكندرية لا يبرحونها، مطمئنين إلى وفرة ميرتهم وذخيرتهم، وإلى ما يبلغهم من أنباء إخوانهم المنتشرين في الصعيد وفي الدلتا، أما عمر بن الخطاب بالمدينة فكان ينتظر أنباء مصر إذ ترد إليه الفينة بعد الفينة، وهو أشد ما يكون استعجالا للنبأ بسقوط الإسكندرية في يد المسلمين، لكن هذا النبأ أبطأ عنه شهرا، وساءه هذا الإبطاء فأخذ يبحث عن السبب فيه، فهؤلاء الجنود هم الذين فتحوا أمنع المدن وأقواها حصونا، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يكفل له الظفر بخصومه، فما باله مع ذلك يقيم أمام أسوار المدينة المحصورة كأنما طاب له ولجنده هذا المقام، وكأنهم اكتفوا به فلم يحاولوا ما بعده؟! ولم تكن أنباء الروم واضطراب ملكهم لتغيب عن خليفة المسلمين فكيف وهذه فرصة نادرة للظفر بهم يضيعها ابن العاص والذين معه، مع أنهم ظفروا بالروم من قبل في أجنادين حين كان هرقل لا يزال حيا، وحين كان الروم يرون أجنادين الحصن الأول في خط الدفاع عن بيت المقدس، ويرون دفاعهم عن بيت المقدس دفاعا عن دينهم وعن قبر المسيح نفسه؟! ليست قوة الروم إذن هي التي وقفت المسلمين على أبواب الإسكندرية، ولا بد أن يكون قد طرأ على هؤلاء المسلمين ما أضعف إقدامهم على الموت وحرصهم على الشهادة، وما عسى أن يطرأ عليهم إلا ما أغرتهم به خيرات مصر من تعلق بالدنيا وشره إلى نعيمها! وعمر أشد الناس إيمانا بأن حب الدنيا يفسد في النفس نخوتها وإقدامها، لذلك جعل الغضب يأخذ من نفسه كلما أبطأ عنه نبأ الفتح، فلما فاض عنه الغضب قال لأصحابه يحدثهم عن مصر: «ما أبطئوا بفتحها إلا لما أحدثوا.» ثم كتب إلى عمرو بن العاص يقول له: «أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر. إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم وأحببت من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم ، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلنتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ويسألونه النصر على عدوهم.»

كم كانت الأشهر التي حاصر فيها العرب الإسكندرية، فأحفظ طولها عمر ودفعه إلى أن يكتب هذا الكتاب؟ يقول ابن عبد الحكم: إنها كانت أربعة عشر شهرا خمسة قبل موت هرقل وتسعة بعده، ويروي البلاذري أن عمرا بلغ الإسكندرية فوجد أهلها معدين لقتاله، فأرسل إلى المقوقس يهدده ويذكر له ظفر المسلمين بالروم في كل مكان، ونصح المقوقس لقومه بالصلح «فأبوا إلا المحاربة، فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا وحصروهم ثلاثة أشهر، ثم إن عمرا فتحها بالسيف وغنم ما فيها، واستبقى أهلها ولم يقتل ولم يسب وجعلهم ذمة كأهل إليونة.» ويذهب بتلر، في الملحق الرابع الذي جعله في ذيل كتابه عن «تواريخ الفتح العربي»، إلى أن المسلمين بدءوا حصار الإسكندرية في أواخر يونيو سنة 641، وأن المدينة سلمت في 8 نوفمبر سنة 641، وهذا يعني أن الحصار دام أربعة أشهر ونصف شهر، وقد يؤيد هذا القول الذي أورده بتلر ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: «إنكم تقاتلونهم منذ سنتين.» فما بين وصول عمرو إلى العريش في ديسمبر سنة 639 وتسليم الإسكندرية في نوفمبر سنة 641 يعادل سنتين هلاليتين؛ وهما لا ريب كافيتان لإثارة عمر ودفعه لأن يبعث إلى قائده على جيوش مصر يتهمهم بأنهم أحدثوا وأن الدنيا غيرتهم.

تلا عمرو كتاب أمير المؤمنين وأخذ يفكر في خطة يفتح بها الإسكندرية، وفي رواية أنه بدأ هذا التفكير ولم يصله كتاب من المدينة، روى ابن عبد الحكم عن أبيه عبد الله ابن عبد الحكم أنه قال: «لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح الإسكندرية استلق ظهره ثم جلس فقال: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله - يريد الأنصار - فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومه ذاك.»

أما الذين يثبتون كتاب أمير المؤمنين فيقولون إن عمرا جمع الناس وقرأ عليهم الكتاب، ثم دعا أولئك النفر الذين ذكروا فيه فقدمهم، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر على عدوهم، ففعلوا ففتح الله عليهم.

وفي رواية أن عمرا استشار مسلمة بن مخلد في خطة الفتح، فأشار عليه أن يعقد لعبادة بن الصامت ليباشر القتال، فدعا عمرو عبادة وتناول منه سنان رمحه وعقد له وولاه قتال الروم، فقاتلهم ففتح الله عليه الإسكندرية ليومه.

Página desconocida