هذا الحديث بين الرجلين يكشف عن جانب من نفس عمرو، ويشهد بحبه الإمارة حبا ملك عليه نفسه، فلأبى عبيدة سابقة في الإسلام ليست لعمرو بن العاص، بل ليست لعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة أمين الأمة على لسان رسول الله، وقد أمره رسول الله في هذا المدد على أبي بكر وعمر، مع ذلك أصر عمرو على أنه جاء مددا له، ويجب لذلك أن يكون مرءوسا له، وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا، وكان إلى ذلك يؤمن بأمر رسول الله الإيمان كله، فلما رأى تشبث عمرو بالإمارة نزل على إرادته وقاتل مرءوسا له.
وكان عمرو أميرا على اللواء الذي بعثه أبو بكر في قتال المرتدين بقضاعة، فلما قضى على ردتهم، وقضى على الردة في بلاد العرب كلها، وعزم الصديق فتح الشام، وأرسل إليه الجيوش على أحدها أبو عبيدة وعلى آخر عمرو بن العاص، وجعل لأبي عبيدة القيادة العامة إذا اجتمعت جيوش المسلمين بالشام في غزاة، توجه ابن العاص إلى عمر بن الخطاب وسأله أن يكلم أبا بكر ليجعله أميرا على المسلمين بالشام، فقال له عمر: «لا أكذبك، ما كنت لأكلمه في ذلك أبدا، وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك.» وألح ابن العاص يقول: «إنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألي عليه.» فكان جواب ابن الخطاب على إلحاحه: «ويحك يا عمرو! إنك لتحب الإمارة! والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله يا عمرو ولا تفعل بشيء من سعيك إلا وجه الله، فاخرج إلى هذا الجيش، فإنك إن لم تكن أميرا هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد.» وخرج ابن العاص مذعنا لإمارة أبي عبيدة لا عن رضا، لكن إذعانه لم ينقص من قدره عند أبي عبيدة ولا عند غيره من أمراء الجند، بل كانوا جميعا يعرفون له ذكاءه ودهاءه ورجحان عقله وبعد نظره، وكانوا لذلك يلتمسون عنده الرأي كلما حزب الأمر، فيجدون في مشورته خير ما يدفع الخطر، ويضيء السبيل إلى الظفر.
ولعل حبه الإمارة وحرصه عليها لم يكن مرجعهما إلى اعتداده بنفسه وكفى، بل كانا يرجعان كذلك إلى حسبه ونسبه ومكانه من قريش؛ فقد كان من قبيلة بني سهم القرشية صاحبة الرياسة على الأموال الخاصة بآلهة قريش، فكان زعيمها يتصرف في هذه الأوقاف بما تقضي به سنة القوم لذلك العهد، وكان أبناؤها لذلك يحسنون القيام على الأموال إحسانا ظهرت آثاره في مقدرة عمرو بن العاص على جمع المال وتثميره ، سواء في حياته الخاصة أو فيما تولاه من المناصب العامة، وقد كان لبني سهم إلى ذلك منصب الفصل في المنازعات، وهو منصب أفاد أفرادها منه حسن الرأي والأناة ودقة التقدير، لهذا ولذاك زاد ثراء بني سهم وارتفعت مكانتها، واجتمعت لها أسباب القوة، فاستطاعت أن تجير قبيلة بني عدي قوم عمر بن الخطاب حين أجلاها بنو عبد شمس عن منازلها القائمة عند الصفا، كما استطاع العاص بن وائل السهمي أبو عمرو أن يجير عمر بن الخطاب حين أعلن في الناس إسلامه فأراد بنو سهم قتله، وكان العاص بن وائل وافر الثراء، حين كان يلبس الديباج مزررا بالذهب، لا عجب، وذلك نسب عمرو وتلك قبيلته، أن يزداد اعتزازا بنفسه وأن يطمح إلى الإمارة ويحرص عليها.
وجعله حبه الرياسة يتوسم سيماها في غيره. سمع وهو بالمدينة يوما خطبة من خطب زياد فأعجب ببلاغتها وقال: «لله در هذا الغلام! لو كان من قريش لساق العرب بعصاه.» وهذا الطموح إلى الإمارة هو الذي دعاه لمناصرة معاوية على علي، فقد رأى المسلمين لذلك العهد مقبلين على الدنيا راغبين عما يدعو علي له من التقشف والزهد، ورأى معاوية يتألفهم بالمثوبة والعطاء، ويظهر لهم المحبة والود، فأيقن أن الدنيا مقبلة عليه مدبرة عن علي، لكنه، فيما يروى، لم يخف على معاوية رأيه الحق في أمره، والمطامع التي دفعته إلى مناصرته، سمع معاوية يوما يكثر من الحديث في رغبته عن الدنيا وعن إمارة المؤمنين لولا حرصه على خير المسلمين، فغص عمرو بما سمع من ذلك، فلما خلا إليه قال له: «يا معاوية أحرقت قلبي بقصصك! أترى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟ لا والله! إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنك!»
لم يكن تطلع عمرو للإمارة وحبه المال وإقباله على الدنيا ليصرفه عن التفقه في الدين والعلم بكلام الله، فكان من أكثر المسلمين علما به وفقا فيه، كما كان من أغزر العرب ثقافة وأكثرهم علما بمعارف عصره، ثم إنه كان كريم النفس رضي الخلق، رقيق القلب، ذواقا للجمال، يطرب للشعر، ويقبل على الغناء ويحبه حبا جما، وقد ملك بصفاته هذه أفئدة الناس، كما فرض ذكاؤه عليهم احترامه، وكان جواب آفاق كبني قومه، وجوبه الآفاق في تجارته وفي سفارته هو الذي ذهب به إلى اليمن وإلى الحبشة وإلى الشام ومصر، ولسنا نشك في أنه تردد على مصر غير مرة، وإن ذهب بعض المؤرخين إلى أنه لم يذهب إليها إلا مرة واحدة هي التي دفعته في ظنهم إلى التفكير في فتحها.
وقصة ذهابه إلى مصر هذه المرة الواحدة طريفة في روايتهم، طرافة تدعونا لذكرها وإن رأيناها أدنى إلى الأساطير، فقد زعموا أن عمرا قدم بيت المقدس لتجارته في نفر من قريش، وإن شماسا روميا من أهل الإسكندرية جاء بيت المقدس حاجا وكان نازلا من الجبال، فمر بعمرو وهو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكان الشماس قد أجهده العطش لشدة الحر في ذلك اليوم، فاستسقى عمرا فسقاه حتى روي، ثم إن الشماس نام مكانه إلى جانب حفرة خرجت منها حية عظيمة بصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، واستيقظ الشماس ورأى الحية، وقص عليه عمرو نبأها، فأقبل الشماس فقبل رأس عمرو وقال له: قد أحياني الله بك مرتين، مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية؛ فما أقدمك هذه البلاد؟ وذكر له عمرو أنه جاء في تجارته، وأنه يرجو أن يصيب ما يشتري به بعيرا، وعرف الشماس أن دية الرجل في العرب مائة من الإبل قيمتها ألف دينار، فقال لعمرو: هل لك أن تتبعني إلى بلادي ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ فإن الله عز وجل أحياني بك مرتين، وعرف عمرو أن الشماس من الإسكندرية، وأنها بلد لم يدخل قط مثلها، فاستشار أصحابه واستصحب أحدهم يأنس به، وسار مع الشماس حتى بلغوا الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال، فأعجب بها وقال: ما رأيت مثل مصر قط وكثرة ما فيها من الأموال، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع له الأمراء والأشراف وأهل المدينة، فألبس الشماس عمرا ثوبا من ديباج وذهب به إلى هذا العيد، وكان الملوك والأمراء يترامون في هذا العيد بكرة لهم من ذهب مكللة، فمن وقعت الكرة في كمه واستقرت به لم يمت حتى يملكهم، وإنهم ليترامون بالكرة في ذلك اليوم إذ أقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو بن العاص، وعجب الناس لذلك وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا! هذا ما لا يكون أبدا! ثم إن الشماس جمع لعمرو ألفي دينار من أهل الإسكندرية ودفعها له، وبعث معه دليلا رده هو وصاحبه إلى بيت المقدس، يقول ابن عبد الحكم: «فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها مالا.»
أحسب القارئ يوافقني على أن هذه القصة مع طرافتها أدنى إلى الأساطير، وأنها لا يمكن بحال أن تكون سبب التفكير في فتح مصر، ولعل رواية الرواة لها هي التي جعلت البلاذري والمقريزي وابن عبد الحكم وغيرهم من المؤرخين يروون ما قيل من أن عمرو بن العاص سار إلى فتح مصر من تلقاء نفسه في ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي وأن عمر غضب لذلك وكتب إليه يوبخه ويعنفه على افتتانه برأيه، وهذا القول لا يزيد عندنا على أنه حديث خرافة، فلو أن عمرا سار إلى غزو مصر من تلقاء نفسه لكان أيسر جزائه عند عمر أن يعزله، وإنما دعا للتفكير في فتح مصر ما سقناه مما أدى بعمر إلى الميل لمشاركة ابن العاص في رأيه، مع ذلك استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، فلما نزلها جمع أولي الرأي فيها وذكر لهم حجج عمرو وشاورهم في الأمر فانقسم رأيهم، وإذ كان عمر يرى الفتح، فقد كتب إلى عمرو يأمره بالشخوص إلى مصر، وبعث بالكتاب مع شريك بن عبدة، وفيه يقول: «اندب الناس إلى السير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به.» وكان عمرو محاصرا قيسارية حين جاءه كتاب أمير المؤمنين، فاستخلف معاوية بن أبي سفيان على حصارها، وفصل في قوة صغيرة اختلف أكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة أم أربعة آلاف، ثم إنه رد شريك بن عبدة رسول الخليفة يطلب المدد حتى لا تضعف مسالح الشام، وسار متمهلا بساحل البحر، جاعلا وجهته إلى العريش، آملا أن يلحقه المدد حتى يدخل أرض مصر، وإنه لفي مسيرته وتمهله إذ جاء النبأ بأن الذين يرون في فتح مصر خطرا على المملكة الناشئة وفي مقدمتهم عثمان بن عفان، قد ازداد نشاطهم بالمدينة، فخشي أن يضطر عمر آخر الأمر إلى النزول على رأيهم فلا يبعث إليه بمدد بل يرده عن مسيرته.
ولم يخطئ عمرو في تقديره؛ فقد كان عثمان والذين معه يرون تلك الغزاة عظيمة الخطر ولا يفتئون يكررون ذلك على مسامع عمر، بل لقد زاد عثمان فقال: «يا أمير المؤمنين، إن عمرا لمجرأ وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا.» ترى ماذا يفعل عمر وقد سمع ما سمع؟ أيرد قائده عن السير بعد أن أمره به، وبعد أن مال إلى رأيه؟ وإن فعل وكان ابن العاص قد تخطى حدود مصر، أفلا يكون ارتداده خذلانا للمسلمين قد يجرئ عليهم عدوهم؟! لكنه خشي كذلك أن تثور ثائرة عثمان والذين معه، إن أعرض عن رأيهم ولم يظهر الرضا عما يقولونه، ثم إن مخاوفهم قد تبطل إذا هو أمد عمرا بقوات تجعل ظفره بجيوش الروم في مصر أمرا محققا! لذلك كتب إلى عمرو يقول: «إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر فارجع إلى موضعك، وإن كنت قد دخلت فامض لوجهك واعلم أني ممدك.» ودفع بالكتاب إلى رسول يحمله إلى القائد السائر إلى مصر.
أدرك الرسول عمرا وهو برفح، فلم يذكر له شيئا عن المدد الذي كان ينتظره، بل حاول أن يدفع إليه كتاب الخليفة، وذكر عمرو نشاط عثمان والذين يتهيبون الإقدام على هذا الفتح، وقدر أن الكتاب قد ينطوي على أمر بالعدول عنه، فأخذ يستدرج الرسول وهو يسايره وجعل يسأله عن المدينة وأبنائها، وظل على ذلك حتى نزلوا قرية بين رفح والعريش، وسأل عمرو عن هذه القرية من أي أرض هي؟ فقيل: إنها أرض مصر، فنزلها ونزل الرسول معه ودفع إليه الكتاب، فلما قرأه ابن العاص قال لمن حوله: «إن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا على بركة الله وعونه.» كذلك قال، فكانت كلماته هذه أول الفتح.
5
Página desconocida